53
الفصل 53 : أسوأ خاطِب ²⁶
“هيلين!”
صرخ هيمفري وهو يركضُ نحو هيلين.
“ماما!”
ركضت أرتيا أيضًا.
كانت هيلين تُحدق في أرتيا حتى اللحظة التي فقدت فيها وعيّها، ثم تمتمت:
“لا، جولي…”
***
قال جون بعد فحص هيلين:
“النبض، التنفس، ودرجة الحرارة كلها طبيعية. لقد فقدت وعيّها مؤقتًا بسبب الصدمة الشديدة فحسب.”
تنهد هيمفري وأرتيا بارتياحٍ عند سماع ذَلك.
أما كيليان، الذي كان واقفًا بجانبهم بوجهٍ خالٍ مِن التعبيّر.
‘كما سمعت، حالتُها سيئة.’
التفت هيمفري فجأةً وحدق في كيليان بحدة.
“لماذا كنتَ في تلكَ الغرفة في ساعةٍ متأخرةٍ مِن الليل؟”
بغض النظر عن إجابتهِ، بدا أنْ العصا التي يحملُها هيمفري كانت جاهزةً للهبوط على رأسهِ في أيِّ لحظة، لكن كيليان لَمْ يُبدِ أيَّ رد فعل حتى.
قبل أنْ يتمكن كيليان مِن فتح فمهِ، قاطعتهُ أرتيا قائلة.
“أنا مَن طلبتُ منه ذَلك. أردتُ التحدث معه بشأن حفل الزفاف غدًا، لذا طلبتُ منه أنْ يأتي إلى غرفتي.”
لَمْ يُخفف ذَلك مِن تعابير هيمفري القاتمة وهو يسأل.
“هل هَذا صحيح؟ ألا تقولين ذَلك فقط لحمايته؟”
“لقد التقيتُ به اليوم لأول مرةٍ، فَما السبب الذي يدفعُني لفعل ذَلك؟”
“……”
“إذا استيقظت عمتي ورأته، فقد تُصاب بصدمةٍ أخرى، لذا مِن الأفضل أنْ يُغادر الآن.”
بكلمةٍ واحدة مِن أرتيا، طُرد كيليان مِن الغرفة.
كانت تعرفُ جيدًا أنهُ مُجرد قنبلةٍ موقوتة لَن يؤدي وجودها إلا إلى تصعيد التوتر. بعد أنْ أزالت الخطر، نظرت إلى هيمفري.
“يبدو أنْ رؤيتي مع رجُل أصاب عمتي بصدمةٍ كبيرة. أنا آسفة.”
حتى لو كان الرجُل هو خطيبها، فإنْ مشهد ابنتها وهي وحدها مع رجل في ساعةٍ متأخرة لا بد أنه كان صادمًا.
خاصة أنهما كانا على اتصال جسدي. -وإنْ كان مُجرد تلامُس الأيدي.-
هزّ هيمفري رأسه.
“ليس خطأكِ. لقد انهارت هيلين لأنها تذكرت الماضي.”
“الماضي؟”
بعد صمتٍ طويل، تكلم هيمفري بصعوبة.
“قبل عشرين عامًا، في الليلة التي سبقت حفل الزفاف، سقطت جولييت مِن نافذة تلكَ الغرفة ولقيت حتفها.”
“…..!”
كانت هَذهِ أول مرةٍ تسمعُ فيها أرتيا كيف ماتت جولييت، فوضعت يدها على فمها.
واصل هيمفري كلامه بوجهٍ يملؤهُ الألم.
“كل ما يُمكننا فعله هو افتراض أنهُ كان حادثًا، لأنني لا أعرف التفاصيل. الوحيدة التي كانت هُناك عندما سقطت جولييت كانت هيلين.”
“…..”
“سألتُها مرارًا وتكرارًا عما حدث، لكنها في كُل مرةٍ كانت تُصاب بنوبةٍ ثم تفقد وعيّها. ثم ذات يوم، سألتني بنفسها.
‘عزيزي، جولي… كيف حدث ذَلك؟'”
عندها أدرك أنْ هيلين قد فقدت تمامًا ذكرياتها عن لحظة وفاة ابنتها.
شعرت أنْ ذَلك كان أفضل لها.
إذ كانت الذاكرة ستُصبح عبئًا لا يُحتمل على زوجتهِ التي كانت تُعاني بالفعل حد الموت.
“لكن يبدو أنْ رؤيتكِ في تلكَ الغرفة أيقظت تلكَ الذكريات مُجددًا.”
لَمْ تستطع أرتيا النُطق بأيِّ كلمة أمام هَذهِ القصة الصادمة.
كان الصمت الثقيل يُخيّم على المكان، إلى أنْ قطعهُ صوت هيلين الضعيف.
“جولي…”
“…..!”
التفتت أرتيا وهيمفري إليّها في نفس اللحظة.
“هيلين، هل وعيتِ؟”
بدلًا مِن الإجابة على زوجها، قالت هيلين شيئًا آخر.
“جولي… إنها حيّة، أليس كذلك؟ إنها حيّة، صحيح؟”
أمسكت أرتيا بيد هيلين النحيلة.
“نعم، ماما. جولي هُنا.”
“جولي!”
عانقت هيلين أرتيا بشدةٍ وأجهشت بالبُكاء.
لَمْ يُعرف كم مِن الوقت مرّ حتى هدأت، ثم التفتت إلى هيمفري وقالت.
“عزيزي، أريدُ أنْ أبقى مع جولي بمُفردنا.”
“…حسنًا.”
ترك هيمفري الغرفة بهدوء.
في الغرفة المضيئة بإضاءة خافتة، بقيت هيلين وأرتيا وحدهُما.
منذ أنْ فتحت عينيها، لَمْ تترك هيلين يد أرتيا، وكانت يدُها الهزيلة ترتجف باستمرار.
بعد لحظات، فتحت هيلين فمها وقالت.
“لَمْ أتذكر إلا عندما رأيتُكِ واقفة بجوار النافذة… كيف نسيتُ ذَلك؟”
تردد صوت هيلين وكأنها تبصق دمًا.
“جولي… أنا مَن قتلتُكِ.”
“….!”
* * *
قبل عشرين عامًا، في منزل الكونت بلورانس.
جلست هيلين وسط السيدات النبيلات تحت أشعة الشمس الساطعة.
تحدثت النساء اللواتي تلقينَ بطاقات الدعوة مِن هيلين بوجوهٍ مُتألقة.
“أخيرًا ستُزوجين ابنتكِ التي ربيتها كزهرةٍ جميلة. تهانينا، سيدتي.”
“وخصوصًا أن العريس هو كونت ميزورا! رجلٌ ذو لقبٍ مرموق، ووسيم، ويحمل دمًا ملكيًا. إنه العريس المثالي، حقًا نحن نحسدكِ.”
أجابت هيلين بابتسامة.
كما هو الحال مع مُعظم الأمهات، كان زواج ابنتها حلم حياتها الأكبر.
كان هَذا الزواج، الذي تحقق بمزيجٍ مثالي مِن الجُهد والحظ، مصدر فخرها وسعادتها.
بينما كانت تُمشط شعر جولييت.
“الكل مُهتمٌ بحفل زفافكِ. الجميع يحسدونكِ. ستكونين أسعد عروسٍ في العالم.”
“…..”
رُبما كان الفرح طاغيًا لدرجة أنها لَمْ تُلاحظ أن وجه جولييت أصبح أكثر كآبةً منذُ تحديد موعد الزفاف.
وفي أحد الأيام، قالت جولييت:
“ماما، لدي شيءٌ لأخبركِ به.”
لطالما كانت هيلين تستمعُ إلى ابنتها باهتمام، وتُلبي لها كل ما ترغبُ فيه.
عندما رفضت حضور دروس الإتيكيت، أعفتها منها، وعندما أرادت فستانًا مِن مُصممٍ مشهور، ذهبت بنفسها إلى المُصمم لطلبهِ لها.
نظرت إليّها هيلين بعينيها الحانيتين المُعتادتين.
“تكلمي.”
ترددت جولييت على غيرِ عادتها، ثم تحدثت بعد أنْ عزمت أمرها.
“لا أريدُ الزواج من الكونت ميزورا.”
“…..!”
اختفت ابتسامة هيلين على الفور.
“لماذا؟”
“…..”
“هل أصبحتِ خائفةً مِن الزواج؟ هَذا أمرٌ طبيعي تمامًا. لكن بعد أنْ تتحدثا معًا حتى يوم الزفاف، سيختفي هَذا القلق.”
“…..”
“أم أنكِ لا تُريدين مُغادرة المنزل؟ إذا كان هَذا السبب، فلا تقلقي، سأتحدثُ مع كونت ميزورا وسأزوركِ كثيرًا.”
بينما كانت هيلين تواصل حديثها بوجهٍ مُتوتر، قالت جولييت:
“أنا… أحبُ شخصًا آخر.”
“….?!”
كان وقع الصدمة على هيلين هَذهِ المرة أكبر بكثير.
“م-ماذا قلتِ؟”
“قلتُ إنني أحُب رجلاً آخر، ليس مِن النبلاء، ولا أريدُ الزواج مِن الكونت ميزورا.”
واصلت جولييت حديثها بصعوبةٍ وهي تنظرُ إلى والدتها العاجزة عن الكلام.
“منذُ طفولتي، لَمْ يكُن للقب والنسب أيُّ معنى عندي، ولَمْ أشعر بالراحة مع هؤلاء النبلاء. لقد كان قلبي دائمًا مع البسطاء، وأحببتُ شخصًا يعيشُ حياةً مُختلفةً عن حياتنا.”
حدقت هيلين في جولييت بذهولٍ قبل أنْ تهمس.
“لابد أنْ هَذهِ مُجرد نزوة…”
صرخت جولييت بوجهٍ مُتشنج.
“ليست كذَلك!”
لطالما كانت جولييت تعرفُ حقيقة مشاعرها.
‘مِن الطبيعي أنْ تتزوج النبيلة مِن نبيل، فالعلاقات بين الطبقات المُختلفة مرفوضة. إذن، هَذهِ المشاعر خاطئة.’
لكن مهما حاولت إنكار مشاعرها، كان قلبُها يخفق كلما فكرت في ذَلك الرجُل الذي منحها السعادة التي لَمْ تجدها في القصور الفاخرة.
انهمرت الدموع مِن عينيها.
“أنا أعرفُ ذَلك. أعلم أنْ مشاعري هَذهِ لَن تحظى بقبول الناس، بل ستُرفض وتُدان. لذَلك كنتُ أنوي إخفاءها طوال حياتي.”
“…..”
“لكن بِمُجرد تحديد موعد الزفاف، شعرتُ أنني لَن أستطيع التحمل. أنْ أقضي حياتي بأكملها بجانب شخصٍ لا أشعرُ تجاهه بأيِّ شيء… لا أستطيع. لا أريدُ ذَلك.”
أمسكت جولييت بيد والدتها.
“دائمًا ما كنتِ تُخبرينني ألا أخفي شيئًا، وأنْ أخبركِ بكُل شيء، وأنكِ ستسمعينني دائمًا.”
“…..”
“ماما، أرجوكِ ساعديني.”
كان مشهد جولييت وهي تذرف الدموع مؤلمًا.
حتى أكثر مِن ذَلك اليوم في طفولتها عندما كانت تُمسك بيد والدتها باكية، متوسلةً أنْ يزول ألم الحمى عنها.
لكن هَذهِ المرة، لَمْ تستطع هيلين أنْ تُمسك بيد ابنتها وتمنحها الدفء والطمأنينة.
لَمْ يكُن ذَلك ممكنًا أبدًا.
“استفيقي، جولييت.”
“…..!”
“أنتِ امرأةٌ نبيلة، وحياتكِ يجبُ أنْ تكون عالية. الحُب لا يعني شيئًا عندما يتعلق الأمر بالمكانة والزواج المُناسب.”
لَمْ يعُد وجه هيلين، التي كانت تنظرُ إلى جولييت مِن علٍ، وجه الأم الحنون التي تُلبي كل طلبات ابنتها.
منذُ ذَلك اليوم، لَمْ تترك هيلين جانب جولييت وكانت ترددُ نفس الكلمات باستمرار.
“جولييت، عندما تتزوجين وتعيشين معه، ستدركين حينها ما هي الحياة الحقيقية للمرأة النبيلة.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة