52
الفصل 52 : أسوأ خاطِب ²⁵
غربت الشمس وانتهى الحفل.
انطفأت المصابيح المُتلألئة في قاعة الحفل، ودخل الناس إلى الغُرف المخصصة لهم.
ما إنْ دخلت أرتيا إلى غرفتها حتى نزعت الحجاب الذي كانت ترتديهِ طوال اليوم وألقتهُ جانبًا.
“هاه، أشعرُ وكأنني أتنفسُ مُجددًا.”
بدا على أرتيا تعبيّرٌ مريح، وكأنها جروٌ تخلص مِن طوقه، ثم أخذت تتفحص الغرفة.
منذُ اليوم الذي وصلت فيهِ إلى قصر بلورانس، كانت تُقيّم في غرفة جولييت.
وكانت الغرفة مزينةً يوميًا بالزهور الطبيعية التي تُقطف مِن الحديقة كُل صباح.
وفي مُناسبة الزفاف، ازدادت الزينة وفرةً وتألقًا، فتأملت أرتيا الزهور وهمست لنفسها.
“هَذهِ آخرُ ليلةٍ أنام فيها في هَذهِ الغرفة.”
بعد الزفاف، ستُغادر جولييت القصر مع الكونت ميزورا. كانت هَذهِ آخر مشاهد السيناريو الذي كتبه هيمفري.
رغم أنهُ كان ختامًا مثاليًا، إلا أنْ قلبها كان مُثقلًا بالهم.
“هل ستكون عمتي بخير بعد رحيلي؟”
تذكرت أرتيا حال هيلين خلال الأيام القليلة الماضية.
كانت تُمسك بيدها بقوة وتنظرُ إليّها وكأنها كنزٌ ثمين لا يُقدر بثمن…
‘هَذا يُزعجني.’
شعرت بالاختناق، فَفتحت النافذة لتتنفس بعض الهواء، لكنها شهقت فجأةً وأطلقت صرخةً خافتة.
فقد كان كيليان واقفًا على الشرفة خارج النافذة.
“م-ماذا تفعل هُنا؟”
أجابها كيليان بصوتٍ هادئ، غيرَ مُكترث بذهولها.
“أنتِ مَن طلب مني أنْ آتي.”
صحيح، لقد فعلتُ ذَلك.
قبل انتهاء الحفل بقليل، همست أرتيا إلى كيليان قائلة.
“تعال إلى غرفتي لاحقًا، لديّ ما أخبرُكَ بهِ.”
…لكنها لَمْ تكُن تعني أنْ يأتي بهَذهِ الطريقة، وكأنهُ لصٌ يتسلل.
نظرت أرتيا إليّهِ بوجهٍ لا يكاد يُصدق، وهو يقفُ على الشرفة بانحرافٍ طفيف.
“هل لديكَ هواية القفز مِن النوافذ أو شيءٌ مِن هَذا القبيل؟”
هواية، هاه…
تذكر كيليان المرة التي دخل فيها إلى غرفتها على هيئة قطٍ أسود.
في ذَلك الوقت، استقبلتهُ بابتسامةٍ مُشرقة…
‘لكن الآن تنظرُ إليّ وكأنني مجرمٌ اقتحم مكانًا لا يجبُ أنْ يكون فيه.’
وجد ذَلك مُزعجًا قليلًا، لكنهُ لَمْ يُظهر ذَلك على وجهه، واكتفى بالرد:
“الكونت هيمفري وضع خادمًا أمام بابي.”
“خادم؟”
“نعم، بحجة أنهُ لخدمتي، لكن السبب الحقيقي مُختلف. يبدو أنه لا يثقُ بي كثيرًا.”
“إذن، خالي وضع خادمًا لمُراقبتكَ…”
تحت ضوء القمر المُكتمل، بدا كيليان ساحرًا لدرجةٍ تأسرُ الأنفاس، لكنهُ في ذات الوقت، حمل شيئًا مُخيفًا.
تمامًا مثل مصاص دماءٍ يزرعُ أنيابه في عُنق امرأةٍ ليمتصَ دمها.
أومأت أرتيا برأسها وقالت:
“هَذا منطقي. نعم، يُمكنني تصديق ذَلك.”
“ما الذي يُمكن تصديقُه بالضبط؟”
“لا شيء… فقط ادخل أولًا.”
رغم أنْ كيليان كان يقفُ هُناك بكل راحة، إلا أنهُ كان على شرفة الطابق الرابع.
حتى لو كان مُعتادًا على ميادين الحرب، فإنْ سقوطه مِن هَذا الارتفاع قد يُسبب له إصابةً خطيرة.
‘لكن لو لَمْ يكُن لديهِ لياقةٌ بدنيةٌ عالية، لما استطاع الوصول إلى هُنا مِن الأساس…’
ومع ذَلك، لَمْ تستطع تركهُ في هَذا الوضع الخطير.
نظر كيليان إلى يدها البيضاء المُمتدة نحوه، ثم أشاح بوجههِ ودخل إلى الغرفة.
تحرك بخفةٍ أشبهُ ما تكون بخفة القطط.
‘إنهُ مُجرد شخصٍ واحد، لكن الغرفة تبدو مُمتلئةً فجأة.’
أحست أرتيا بوجودهِ الطاغي وشعرت بالحرج، فأنزلت يدها، بينما سألها كيليان.
“ما الذي أردتِ التحدُث عنه؟”
فتحت أرتيا فمها بحذرٍ وقالت.
“قبل أنْ أبدأ، أريدُكَ أنْ تعرف أنني لا أحتقر ولا أنتقد حقيقة أنكَ لا تهتمُ بالنساء. لكُل شخصٍ ميوله وطباعهُ الخاصة.”
نظرت إلى عينيهِ الذهبيتين وتابعت.
“لكن المُشكلة هي أننا سنتزوج غدًا.”
اليوم كان مُجرد احتفال ما قبل الزفاف، لذا لَمْ يكُن عليهما سوى الوقوف معًا، لكن الزفاف نفسُه مُختلف.
حتى لو كان زواجًا زائفًا، لا بد مِن اتباع بعض الشكليات.
بمعنى آخر…
“سيكون هُناك تلامسٌ جسدي بيننا.”
“……!”
“هل يُمكنكَ ذَلك؟”
كانت عيناها الورديتان جادتين ومليئتين بالرجاء.
نظر كيليان في عينيها طويلاً قبل أنْ يفتحَ شفتيهِ ببطء.
“لستُ أحمقًا يندفعُ بلا تفكيرٍ ويفعلُ ما يحلو له.”
كان قادرًا على أنْ يكون قاسيًا ومُتعجرفًا لأنه كان بإمكانهِ ذَلك.
لكن في اللحظات المهمة التي لا يُمكن فيها ذَلك—رغم أنها لَمْ تكُن كثيرةً في حياته—كان يكبحُ مشاعره ويتصرف بعقلانية. هَكذا تدرب.
“سأفعل ما يجبُ فعلُه، مهما كان.”
“أعلم، لقد رأيتُ ذَلك بعيني قبل قليل.”
“…….”
“لكن اللمس مسألةٌ حساسة، خاصة بالنسبة لكَ، لذا…”
قالت أرتيا بجدية.
“ماذا لو تدربنا الآن؟ حتى لو كان أمرًا غيرَ مريح، يُمكن أنْ يُصبح أقل نفورًا بالتدريب، أليس كذلك؟”
“…….”
ساد الصمت في الغرفة.
قبضت أرتيا على حافة تنورتها بتوتر.
‘هل طلبتُ منه أمرًا مُبالغًا فيهِ؟’
لكنها أرادت بشدةٍ أنْ تبدو سعيدة ومطمئنةً غدًا، على الأقل مِن أجل عمتها.
نظرت إليّهِ بعينين مُتلهفتين، دوّن أنْ تُدرك أنْ طلبها غيرَ المتوقع جعل شفتيهِ تجفان.
بعد لحظات، تحدث كيليان أخيرًا.
“حسنًا، لنفعل ذَلك.”
“حقًا؟”
“ليس بالأمر الصعب.”
حاول كيليان التظاهُر باللامُبالاة، واضعًا تعبيرًا مُتعجرفًا، فابتسمت أرتيا بسعادة.
“شكرًا لكَ، إذن…”
اتجه نظرُها نحو يده.
لَمْ تكُن قد قضت حتى ليلة زفافها الأولى، لكنها كانت امرأة تزوجت مِن قبل على الأقل.
على الأقل، كانت أكثر خبرةٍ مِن هَذا الأمير المُصاب برُهاب النساء، أليس كذلك؟
‘إمساك يد رجُل ليس أمرًا صعبًا.’
لكن…
‘لماذا ينبضُ قلبي بهَذا العُنف؟!’
هل تخشى أنْ تُقطع رقبتُها إنْ لمسته بطريقةٍ خاطئة؟
أم هو الخوفٌ مِن الاقتراب مِن وحشٍ مُفترس؟
لكنها وصلت إلى هَذهِ المرحلة، فلا مجال للتراجُع الآن.
بحذرٍ شديد… لامست أرتيا بطرف إصبعها السبابة الثانية مِن يده.
لمسةٌ خفيفة.
“…….”
“…….”
ساد صمت خانق في الغرفة.
سألت أرتيا بصوتٍ متوتر:
“كيف تشعُر؟”
هل تشعُر بالاشمئزاز كما لو أنْ حشرةً ذات مئة قدم لمستك؟ هل ترغبُ في سحقها وإحراقها على الفور؟ إذا كان الأمر كذَلك، فأرجوك أخبرني بسرعة. لا أريدُ أنْ أموت صغيرة.
بعد فترة، جاءه الرد.
“لا بأس.”
كان صوتُه كمَن يكبُح شيئًا داخله.
نظرت أرتيا إليّهِ.
كان وجهُه الجميل المُتعجرف مُتصلبًا بعض الشيء.
“هل أنتَ مُتأكد بأنكَ بخير؟”
“قُلت، نعم. تابعي.”
“إذن، سأجرّب أكثر قليلاً.”
جمعت أرتيا شجاعتها ووضعت يدها فوق يده.
ثم بدأت توسع نطاق اللمس ببطء، شيئًا فَشيئًا.
‘يداهُ كبيرتان حقًا… وعروقه بارزة…’
كانت يداهُ مثالية العناية، ومع ذَلك، بدت وحشيةً أيضًا.
عكست يداهُ تمامًا شخصيته: الأمير الذي يحظى بثقةٍ مُطلقة مِن الإمبراطور، لكنهُ قضى مُعظم حياتهِ في ميادين القتال لا في القصر.
رجلٌ قوي وجميل لدرجة أنْ جميع النساء قد يقعنَ في حبهِ، ومع ذَلك، يكرهُ النساء بشدة…
‘رجلٌ غريبٌ حقًا…’
دوّن أنْ تدري، كانت يدُها قد غطت ظهر يدهِ بالكامل.
رفعت نظرها بحذر.
بدا كيليان أكثر ارتباكًا مِن ذي قبل.
لكنه لَمْ يكُن غاضبًا، ولَمْ يبدو عليهِ الاشمئزاز.
بل…
بانغ!
فُتح الباب بعُنف، مُصدِرًا صوتًا مدويًا.
“……!”
شهقت أرتيا والتفتت بسرعة.
الشخص الذي دخل كان هيلين.
كان وجهُها شاحبًا كالأموات، وعندما رأت أرتيا نظرتها، أدركت أنها كانت تأخذُ هَذا الموقف على محمل الجد.
بسرعة، سحبت أرتيا يدها بعيدًا عن كيليان.
“ماما، الأمر ليس كما تظُنين! لَمْ يكُن يحدُث شيءٌ مُريب. كان الكونت ميزورا يريدُ التحدث إلي فقط…”
لكن قبل أنْ تُكمل جملتها، صرخت هيلين بقوة.
“لاااا!”
ركضت نحو أرتيا وأمسكت بيدها بشدة، وهي تُكرر بصوتٍ هستيري.
“لا! لا! لا! لا! لا! لا! لا! لا! لااااا!”
ظهر هيمفري خلفها، يبدو مصدومًا مِما يحدُث.
حاول تهدئتها، لكنها دفعت يدهُ بعيدًا بقوة، وصرخت بألم.
“لاااا، جولي!!!!!”
كانت صرختُها الأخيرة أقرب إلى عويلٍ مفجع، قبل أنْ تتوقف عن التنفس فجأةً.
ثم، كما لو أنْ خيوط دميتها قد قُطعت، انهارت على الأرض بلا حراك.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة