50
الفصل 50 : أسوأ خاطِب ²⁴
“بما أنْ هيلين فقدت إدراكها للواقع، فَهي لَمْ تُبدِ أيَّ رد فعلٍ حتى عند رؤية الأشخاص وقد تقدموا في العمر. لكن قد لا يكون الأمر كذَلك مع الكونت ميزورا. اليوم فقط، كانت تتأمل هَذهِ الصورة وتتحدثُ عن مدى انسجام العروسين، وهي تتطلعُ إليّهِ بشدةٍ. وأيضًا…”
نظر هيمفري إلى أرتيا.
بشعرها الأزرق الداكن وعينيها الوردية، لَمْ تكُن أرتيا هي جولييت.
ومع أنهُ كان يُدرك ذَلك بوضوح، إلا أنْ مشاعر غريبةً كانت تجتاحُه بين الحين والآخر.
قرر هيمفري التعبير عن أفكارهِ بصراحة.
“حتى لو كان زفافًا وهميًا، لا أريدُ أنْ أراكِ واقفةً بجانب رجُلٍ غيرِ لائق.”
“……!”
اتسعت عينا أرتيا بذهول مِن كلماتهِ غيرِ المتوقعة.
احمر طرفً أذني هيمفري قليلاً، ثم تنحنحَ وتابعَ حديثهُ.
“على أيِّ حال، لهَذا السبب تم توكيل شخصٍ ليُمثل دور العريس، وهو رجُل يُشبه الكونت ميزورا كما كان قبل عشرين عامًا.”
ثم أضاف بصوتٍ حازم.
“لَن أسمح لهُ بأنْ يتجاوز حدودهُ معكِ ولو بمقدار ذرة غبار، لذا لا تقلقي. كل ما عليهِ فعله هو الوقوف بجانبكِ بهدوء.”
ورغم أنْ الأمر كان مُجرد صفقةٍ مالية، إلا أنْ أرتيا شعرت باهتمام هيمفري الصادق بها، مِما جعلها تبتسم بخفةٍ تعبيرًا عن امتنانها.
بعد استعداداتٍ مُكثفة، حل أخيرًا اليوم السابق للزفاف.
كان قصر بلورانس يعجُ بالحركة، إذ أقيمت مأدبةٌ احتفالًا بليلة الزفاف، حيثُ اجتمع أقارب العروسين وضيوفهم للاستمتاع بالحفل.
بدأ الضيوف بالوصول واحدًا تلو الآخر.
وبعد أنْ أبلغهم هيمفري مُسبقًا بطبيعة المُناسبة، حرصوا على ارتداء أبهى ملابسهم وكأنهم يحضرون زفافًا حقيقيًا.
استقبلهم هيمفري وهيلين بابتساماتٍ مُشرقة.
“أهلًا بكم جميعًا.”
شعر الضيوف بمشاعرٍ مُختلطةٍ وهم يرون هيلين بهَذهِ السعادة، لكنهم لَمْ يسمحوا لابتساماتهم بالاختفاء. فقد كان هَذا أقل ما يُمكنهم فعله مِن أجلها.
“شكرًا لدعوتنا في هَذا اليوم المُميز.”
“مبروك، هيلين.”
وبينما كانت هيلين تستقبل الضيوف بوجهها النضر، الذي لَمْ يعُد يحمل أيَّ علامات مرض، همست إلى هيمفري.
“سمعتُ أنْ انهيارًا أرضيًا حدث فجأةً وأدى إلى قطع الطريق، لذا لَمْ يأتِ الكثير مِن الضيوف.”
لَمْ يكُن هُناك أيُّ انهيارٍ أرضي. كان ذَلك مُجرد كذبةٍ اختلقها هيمفري حتى لا تستغرب هيلين قلة الحضور.
رد هيمفري بنبرةٍ طبيعيةٍ تمامًا.
“لكن رغم ذَلك، تمكن البعض مِن تجاوز الطريق الوعر والوصول، وهَذا أمرٌ يستحقُ الامتنان.”
“هَذا صحيح، ولكن… ماذا لو لَمْ يتمكن الكونت ميزورا مِن الحضور؟ إذا لَمْ يأتِ العريس، فسيكون الوضع كارثيًا.”
‘لَن يحدث ذَلك. لقد تم إقناع الرجل الذي يُشبه الكونت ميزورا بأداء دور العريس مُقابل مبلغٍ مِن المال يكفيهِ للعمل لعامٍ كامل دوّن كلل.’
كان هيمفري مُتأكدًا أنْ ذَلك الرجل لَن يُضيع هَذهِ الفرصة. لكن لَمْ يكُن بإمكانهِ البوح بهَذهِ التفاصيل، لذا اكتفى بالقول:
“حتى لو انتهى العالم، سيأتي. وإلا، فَلَن يكون جديرًا بأنْ يُصبح زوج ابنتنا.”
شعرت هيلين بالارتياح وابتسمت، ثم نظرت إلى أرتيا.
كانت أرتيا تقفُ بجانب الزوجين، مرتديةً فستانًا أبيض بسيطًا مُخصصًا لحفل الليلة السابقة للزفاف، بينما غطى وجهُها حجابٌ سميك.
جاء ذَلك احترامًا للعقيدة التي تقتضي أنْ تبقى العروس نقيةً وبعيدةً عن ملوثات العالم الدنيوي قبل الزواج.
“يا لهُ مِن تقليدٍ مُزعج…”
عندما تزوجت مِن لويد، بدا لها هِذا الأمر مُقدسًا. لكن الآن، لَمْ ترَ فيهِ سوى ظُلمٍ مُجحف.
مع ذَلك، كانت مُمتنةً لأن هَذا الوضع منعها مِن الاضطرار للتفاعل مع الغرباء اليوم.
رُبما أساءت هيلين فهم صمت أرتيا، إذ أمسكت بيدها بحنان وقالت.
“سيصلُ الكونت ميزورا قريبًا، لذا لا تقلقي كثيرًا.”
بالطبع، لَمْ تكُن أرتيا قلقةً على الإطلاق.
‘إنهُ مُجرد عريسٍ وهمي، وفي أسوأ الأحوال، إذا لَمْ يتمكن مِن الوصول، يُمكننا إيجادُ شخصٍ آخر قريب المظهر. رغم أنْ العثور على رجُل وسيم مثل الكونت ميزورا قد يكون صعبًا…’
ثم تذكرت أنْ خالها قد قال إنهُ وجد رجُلًا يُشبه الكونت.
لَمْ تكُن تهتم بعريسٍ زائف لَن تراهُ إلا ليومٍ أو يومين، لكن وصفهُ بأنه وسيمٌ أثار فضولها قليلًا.
“ترى، كيف يبدو هَذا الرجل…؟”
في تلكَ اللحظة، ركض أحدُ الخدم إلى القاعة، متوترًا وهو يُعلن.
“لقد وصل الكونت ميزورا!”
وبعد لحظات، دخل رجُل إلى قاعة الاحتفال.
كان يرتدي قبعةً ذات حوافٍ عريضة تًخفي ملامحه، لكن هيئتُه القوية وملابسُه الأنيقة والراقية كشفت عن نُبلٍ واضح في مظهره.
“أوه…!”
وسط نظرات الحضور المُتفاجئة، خطا الرجُل بساقيهِ الطويلتين مُتجهًا نحو أرتيا.
وفي اللحظة التي وقف فيها أمامها ونزع قبعتهُ، كادت أرتيا أنْ تصرُخ مِن الصدمة.
‘صاحب السمو الأمير كيليان؟!’
هل كانت تتخيل؟
لا، فَمِن المُستحيل أنْ تخطئ في التعرف على رجُل يمتلك مثل هَذا الجمال المًتكامل والهالة الطاغية.
هل كان مُجرد وهم؟
لا، فحتى بلورانس وزوجته، وكذَلك جميع الحاضرين، فتحوا أفواههم بذهولٍ بنفس التعبيّر المصعوق.
‘هل هَذا حُلم؟’
قرصت أرتيا يدها المُغطاة بالقفاز الأبيض.
إنه مؤلم…
إذن لَمْ يكُن هُناك سوى استنتاجٍ واحد.
‘إنه حقًا الأمير كيليان! رغم أنني لا أستطيعُ تصديق ذَلك!’
خلف الحجاب الكثيف، امتلأ وجهُ أرتيا بالحيرة.
أما كيليان، بشعرهِ الطويل المُتماوج، فتحدث وكأنهُ لا يُدرك اضطرابها.
“أنا أنغراسيو فون ميزورا، ويشرفني أنْ أتزوج بهَذهِ العروس الجميلة.”
في اللحظة التي قدم فيها نفسهُ باسم الكونت ميزورا، شعرت أرتيا أنها ستفقدُ وعيّها.
كيف يُمكن للأمير أنْ يظهر في زفافٍ مُزيف، يُقام في مقاطعةٍ نائية بعيدةٍ عن العاصمة، حيثُ لَمْ يُدعَ إلا القليلون مِن المقربين؟
وليس فقط كضيف، بل كالعريس نفسه!
كانت أرتيا مذهولةً إلى حد أنها لَمْ تستطع النُطق بكلمةٍ واحدة، عندها تحدث كيليان إليّها:
“يبدو أنكِ لَمْ تعتادي على رؤيتي بعد هَذهِ المدة. هل نذهبُ إلى مكانٍ هادئ لنتحدث؟”
استفاق بلورانس وزوجتُه مِن ذهولهما، ثم هزّا رأسيهما بقوة.
“ذَلك غيرُ مُمكن…!”
أنْ يجتمع العريس والعروس وحدهُما قبل الزفاف؟ كان ذَلك أمرًا غيرَ مقبول إطلاقًا وفقًا لتقاليد عائلة بلورانس المُحافظة. لكن…
“لا بأس.”
“جولي…؟”
نظرت أرتيا إلى هيمفري وهيلين اللذين بدا عليهما القلق، ثم قالت.
“سأقضي حياتي معه، لذا أريدُ أنْ أتعرف عليهِ جيدًا.”
تردد الزوجان للحظة، ثم أومآ بالموافقة.
اقترب هيمفري مِن أرتيا وهمس بصوتٍ مُنخفض.
“يبدو مُختلفًا تمامًا عن الوصف الذي كان في الوثيقة. إنْ أقدم على أيِّ تصرفٍ غيرَ لائق، فلا تترددي في صفعهِ والصراخ.”
“لا تقلقي بشأن إفساد الزفاف.”
ابتسمت أرتيا لكلماته الدافئة وأجابت:
“حسنًا، سأفعلُ ذَلك.”
بِمُجرد وصولهما إلى الحديقة الخالية، تحدثت أرتيا بحذر.
“صاحب السمو الأمير كيليان فون أورفيوس…؟”
كان الموقف غيرَ معقول لدرجة أنها نطقت الجملة كنبرة سؤال، لكن إجابتُه جاءت واضحةً تمامًا.
“أنا الآن أنغراسيو فون ميزورا. تمامًا كما أنكِ الآن جولييت فون بلورانس، ولستِ أرتيا فون إيدينبرغ.”
وضعت أرتيا يدها على جبينها المُغطى بالحجاب الكثيف.
“إلى أيِّ مدى تعرفُ ما يجري؟”
“كُل شيء. كانت فكرةً جيدةً منكِ أنْ تطلُبي المال مِن خالكِ البعيد الذي انقطعتِ عن التواصل معه منذُ مدةٍ طويلة. لكن يبدو أنكِ دفعتِ ثمنًا غيرَ متوقع مُقابل ذَلك.”
كان يتحدثُ بسلاسةٍ وكأنهُ يرى الصورة كاملة أمامه.
لَمْ يكُن يهمُها كيف عرف بكُل شيء. فِهَذا الرجل، لو أراد، لاستطاع حتى معرفة عدد الكُتب الموجودة في مكتبتها.
لكن ما شغلها أكثر هو غرضُه مِن الحضور.
“لماذا أتيتَ إلى هُنا؟”
كانت تأمل في سماع إجابةٍ منطقية، لكن ما قالهُ كان مُثيرًا للسخرية.
“كنتُ أتساءل عما تفعلينهُ.”
“لأنكَ كنتَ فضوليًا؟!”
ملل، شفقة، أو مُجرد تسلية… هَذهِ هي الدوافع التي كان يًعطيها دائمًا.
مشاعرٌ تافهة، تُشبه فضول طفلٍ صغير يُراقب حشرةً تزحف على ورقة شجر.
‘لماذا؟ هل يُمكن أنْ يكون مُهتمًا بي؟’
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة