49
الفصل 49 : أسوأ خاطِب ²³
تصلّب وجهُ بيبي.
كانت الوحيدة في القصر التي تعرفُ أنْ أرتيا غيرَ موجودةٍ.
ولو اكتشف شايلوك ذَلك، فَمِن المؤكد بأنهُ سيتعقبُ أثرها ليضع العراقيل في طريقها.
‘يجبُ ألا يكتشف أحدٌ أنْ سيدتي ليست في غرفتها.’
كان هَذا هو واجب بيبي، التي بقيت في القصر لهَذا السبب تحديدًا.
مهما كان الأمر، فَلَن تسمح لأحدٍ بفتح باب سيدتها، حتى لو كان ذَلك بأمرٍ مِن السيدة الكبرى.
وفي اللحظة التي انتفخت فيها عضلات بيبي استعدادًا للمواجهة، جاءت كلماتُ كاثرين الحادة.
“أرتيا لا تًريد مُقابلة بلطجيٍ وضيع يتلاعبُ بالناس بالمال.”
تصلب وجهُ شايلوك عند سماع هَذهِ الكلمات.
“هل تعنينني بذَلك؟”
“نعم.”
حدقت كاثرين مُباشرةً في عينيهِ.
“كنتُ مجنونةً للحظة… لقد انخدعتُ بالمال واعتقدتُ أنْ عائلة لوشيان خيارٌ جيدٌ للزواج. لكن ليس بعد الآن.”
واصلت حديثها بصوتٍ صارم:
“أخرُج فورًا مِن منزل ابنتي، أيُها الحثالة الوضيع!”
قبل أنْ يتمكن شايلوك مِن الرد، التفتت كاثرين إلى بيبي.
فهمت بيبي على الفور ما تعنيهِ نظرتُها، فتقدمت نحو شايلوك ورفعتهُ بسهولةٍ.
“اتركيني!”
تلوى بجسدهِ مُحاولًا الإفلات، لكن مُقاومتهُ كانت بلا جدوى.
كما فعلت في السابق، حملتهُ كأنه مُجرد حمولةٍ ثقيلة، وسارت بهِ إلى خارج القصر.
لكن الفرق هَذهِ المرة أنها لَمْ تُنزله برفقٍ، بل رمتهُ بقوةٍ، محدثةً صوت ارتطامٍ مدوٍّ.
“أوه…!”
نظر شايلوك بذهول، وهو جالسً بشكلٍ مُثيرٍ للشفقة على الأرض.
ثم تحدثت بيبي ببرود.
“أعتذر… لقد أخطأت. رجاءً، عُد سالمًا.”
قالت ذَلك بنبرةٍ خاليةٍ تمامًا مِن أيِّ مشاعر، ثم استدارت وأغلقت الباب دوّن تردد.
لَمْ يكُن شايلوك وحدهُ مَن كان قلقًا بشأن غياب أرتيا.
كان كيليان، الأمير الأكثر ترجيحًا ليًصبح الإمبراطور القادم، يشعرً بالقلق أيضًا.
لكن على عكس شايلوك، الذي كان مُقتنعًا بأنْ أرتيا لا تزال في القصر، كان كيليان يعلم أنها ليست هُناك.
‘إنها غير موجودة.’
عندما تسلل إلى غرفتها مُتحولًا إلى قطٍ أسود، وجدها فارغةً تمامًا.
لَمْ يكُن هُناك سوى بطانيةٍ ملفوفةٍ على السرير، موضوعة كما لو أنْ شخصًا ما كان نائمًا تحتها.
‘بما أنْ خادمتها الضخمة تبدو هادئةً، فلا يبدو أنْ شيئًا سيئًا قد حدث لها…’
رغم أن كيليان لَمْ يكُن يثق في البشر، إلا أنْ لديهِ بصيرةٌ تمكنهُ مِن فهمهم.
وتلكَ الخادمة الضخمة لَمْ تكُن تبدو كشخصٍ قد يؤذي أرتيا.
إذن…
“هل غادرت سرًا إلى مكانٍ ما؟”
على الأرجح، كانت تُحاول جمع المال.
في البداية، لَمْ يكُن يهتم كثيرًا. لكن عندما عاد بعد بضعة أيام ولَمْ يجدها، بدأ يشعرُ بالانزعاج قليلاً.
وفي اليوم التالي، عندما لَمْ يجدها مرةً أخرى، أصدر أمرًا صارمًا.
“اكتشف أين ذهبت أرتيا فون إيدينبرغ.”
كاد نوكترن أنْ يسأل: هل الدوقة تُخطط لتمرد؟ أم أنها جاسوسةٌ للعدو؟
لأنه حتى الآن، كانت هَذهِ هي الأسباب الوحيدة التي دفعت كيليان إلى التحقيق في شخصٍ ما.
لكنهُ كاد أيضًا أنْ يسأل.
‘هل هَذهِ المرة لأسبابٍ شخصيةٍ بحتة؟’
لكنهُ بدلًا مِن ذِلك، أجاب فقط: “نعم، سموك.”
“عندما يأمُرك، لا تُناقش. فقط نفّذ.”
هَذا هو المبدأ الأساسي لِمَن يخدم الأمير المجنون.
في اليوم التالي، عاد نوكترن ليُقدم تقريره.
كان كيليان في ساحة تدريب السيف، عاري الصدر، مًمسكًا بسيفهِ ويتدرب.
شعرهُ الأسود مُبتلٌّ بالعرق، وعيناهُ الذهبيتان تتلألآن تحت أشعة الشمس.
في كل مرةٍ يُلوح بسيفه، كانت عضلاتُه المشدودة تتحرك بقوة.
مشهدٌ يُشبه لوحةً فنية نابضةً بالحياة.
لكن نوكترن لَمْ يكُن يشعر بأيِّ إعجاب، بل بشيءٍ آخر تمامًا.
‘ذَلك الجسد يظلُ دائمًا مصدر تهديد.’
‘يجبُ أنْ أحاول النجاة ليومٍ آخر… وأحافظُ على رأسي في مكانه.’
ابتلع ريقه، ثم بدأ تقريره.
“الدوقة إيدينبرغ حاليًا في منزل خالها، كونت بلورانس.”
سأل كيليان وهو يلوّح بسيفهِ
“هل ذهبت للحصول على المال؟”
“على الأرجح. يُقال إنْ الكونت بلورانس قد باع مؤخرًا بعض مُمتلكاته وجمع مبلغًا كبيرًا مِن المال.”
“إذا حصلت على المال، فَلماذا لَمْ تعًد بعد؟”
“الأمر هو… حاليًا، الدوقة إيدينبرغ تتقمصُ دور ابنة الكونت بلورانس الراحلة.”
“……؟”
رفع كيليان إحدى حاجبيهِ، فأسرع نوكترن بإخبارهِ بكًل ما جمعه مِن معلومات.
زوجان نبيلان فقدا ابنتهُما قبل عشرين عامًا، الكونتيسة التي انهارت صحتُها بسبب الصدمة، أرتيا التي تواسيها عبر تقمُص شخصية الابنة الراحلة، والزفاف الوهمي الذي سيُقام قريبًا.
عندها توقف السيف الذي كان كيليان يلوّح بهِ بسلاسة.
تألقت عيناهُ الذهبية بحدةٍ.
“زفاف؟”
‘لقد أخطأت، سامحني!’
كاد نوكترن أنْ يتوسل طلبًا للعفو، لكنهُ بالكاد كبح نفسهُ وأجاب بسرعة.
“نعم، بناءً على اقتراح طبيب الكونتيسة بلورانس، تقرر إقامة حفل زفافٍ لَمْ يتمكنوا مِن إتمامهِ في الماضي. يعتقدون أنْ إقامة الحفل قد يُساعد الكونتيسة على تجاوز آلامها. ورغم أنهُ مُجرد زفافٍ وهمي، إلا أنهُ يجري التحضير لهُ بشكلٍ رسمي، وقد توافد العديد من التجار لتجهيز ذَلك.”
وقبل أنْ يتمكن نوكترن مِن سرد قائمة التُجار الذين زاروا قصر بلورانس، قاطعهُ كيليان.
“مَن هو العريس؟”
“ماذا؟”
“حتى لو كان زفافًا وهميًا، فلا بد أنْ يكون هُناك عريس، أليس كذَلك؟”
“لَمْ تصلنا معلوماتٌ عن ذَلك بعد… سأحضرُها فورًا!”
انحنى نوكترن بوجهٍ بدا وكأنهُ ق. ارتكب جريمةً كبرى، ثم غادر ساحة التدريب بسرعة البرق.
في الساحة الواسعة، بقي كيليان وحدهُ، وهو يقبضُ على سيفهِ بقوةٍ ويتمتم ببرود.
“مَن الذي سمح لها بالزواج؟”
كانت نبرتهُ الناعسة تحملُ بوضوحٍ انزعاجًا شديدًا.
في تلكَ الليلة، كانت أرتيا، التي كانت بعيدة جدًا في قصر بلورانس، تحلُم بكابوس.
رأت قطًا ضخمًا ذو أعيُن ذهبية، تُلاحقها بلا هوادة.
“إنها… لطيفةٌ ولكنها مخيفة…!”
تمتمت أرتيا وهي تتلوّى، مُمسكةً ببطانيتها بإحكام.
منذُ الصباح وحتى المساء، كانت هيلين ترغبُ في الإمساك بيد أرتيا طوال الوقت.
وكانت رغبتُها تلكِ تزداد قوةً عند اقتراب وقت النوم.
“لطالما كنتِ تُحبين الفراولة منذُ صغركِ. وكنتِ تطلبين دائمًا أنْ تُزال القطعة أعلاها وتُقطع إلى نصفين، لأنكِ كنتِ تجدينها ألذ بهَذهِ الطريقة.”
تمسكت هيلين بيد أرتيا، وكانت تستمرُ في الحديث حتى تغلبها النعاس وتنام كأنها أغميّ عليها.
تأملت أرتيا وجه هيلين النائم.
في أقل مِن نصف شهر، تحولت هيلين إلى شخصٍ آخر تمامًا.
“عندما رأيتُها لأول مرةٍ، بدت كزهرةٍ ذابلة ذهبت حياتُها بالكامل. لكنها الآن مُفعمةٌ بالحيوية، كزهرةٍ تتفتحً في الربيع.”
كل ذَلك كان بسبب حُبها العميق لابنتها جولييت.
“لكنني لستُ ابنتكِ الحقيقية…”
تمتمت أرتيا بهَذهِ الكلمات في ذهنها، لكنها لَمْ تستطع أبدًا التفوه بها.
مع مرور الوقت، شعرت بثُقلٍ مُتزايد في صدرها. في الوقت نفسه، ازداد تعاطُفها تجاه هَذهِ المرأة البائسة، وكأنها أصبحت جولييت حقًا.
وقفت أرتيا هُناك لفترةٍ طويلة، بتعبيراتٍ يملؤها الألم، ثم غادرت الغرفة بهدوء.
وجهتُها التالية كانت المكتبة.
عندما دخلت، استقبلها هيمفري، الذي كان جالسًا هًناك.
“لقد بذلتِ جُهدًا كبيرًا اليوم أيضًا.”
أومأت أرتيا واقتربت منه.
على المكتب الكبير، كانت هُناك عشرات الأظرف مُكدسة.
كانت تلكِ بطاقات الدعوة التي أعدّتها هيلين طوال الأيام الماضية، وقد كتبت أسماء الضيوف بعنايةٍ على كل ظرف.
تأمل هيمفري البطاقات بوجهٍ كئيب، وقال.
“أحدُ الخدم أخذ الدعوات بحجة تسليمها، لكنهُ أعادها إليّ.”
“ماذا ستفعل حيال ذَلك؟”
“لا يُمكننا دعوة جميع الأشخاص الذين ذكرتهم هيلين في بطاقات الدعوة. فحتى التواصل معهم جميعًا أمرٌ صعب، كما أنْ علينا اختيار مَن يستطيع فهم حالتها الحالية. لهَذا أرسلتُ رسائل تفصيليةً إليّهم بالفعل. لكن هُناك شخصٌ واحدٌ يمُثل مشكلة.”
“مَن؟”
مد هيمفري لـأرتيا صورةً مصغّرةً قديمة.
كان مرسومًا عليها رجُلٌ وسيم بشعرٍ أسود.
“إنه الكونت ميزورا، الذي كان مٍن المفترض أنْ يتزوج جولييت قبل عشرين عامًا. ينحدرُ مِن سلالةٍ بعيدةٍ للعائلة الإمبراطورية، وبالإضافة إلى وسامتهِ، كان سببًا في فرحة هيلين الكبيرة. لقد اعتبرت زواج جولييت مِن هَذا النبيل الوسيم ضربة حظٍ عظيمة.”
لكن في الليلة التي سبقت الزفاف، توفيت جولييت، وتحطمت كل سعادتها إلى أشلاء.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة