47
الفصل 47 : أسوأ خاطِب ²¹
مسحت هيلين بيدها على وجنة أرتيا البيضاء.
“يا لجمالكِ! لا بُد أنكِ ستكونين العروس الأجمل والأسعد في العالم. سأحرصُ على ذَلك بنفسي.”
‘عروس؟!’
اتسعت عينا أرتيا بدهشةٍ، فنظرت إلى هيمفري الواقف بجانبها.
لكن هيمفري كان يحملُ نفس النظرة المذهولة وهو يوجه أنظارهُ إلى جون، الذي راقب هيلين بجديةٍ، بعين الطبيب الذي يُراقب حالة مريضهِ عن كثب.
تشبثت هيلين بيد أرتيا وأخذت تتحدثُ بلا توقف.
“لا أستطيعُ الانتظار لرؤية فستان الزفاف الذي ستصنعهُ السيد ديولا. لا بد أنهُ سيكون مذهلًا!”
“سأحرصُ على العناية ببشرتكِ يوميًّا حتى يوم الزفاف. علينا أنْ نهتم بها جيدًا.”
“ابنتي نحيفةٌ بالفعل، لذا لا داعي لأن تتبعي نظامًا غذائيًّا صارمًا، فقط قللي مِن تناول الحلويات قليلًا.”
حاولت أرتيا مواكبة حديثها وهي تًخفي ارتباكها.
بدت هيلين مليئةً بالحياة، وكأنها لَمْ تمضِ العشرين عامًا الماضية طريحة الفراش.
قال جون مُحذرًا.
“السيدة لا تتحركُ إلا بقوة الإرادة، جسدُها لا يزال ضعيفًا. إنْ أرهقت نفسها أكثر مِن اللازم، فقد لا تتحمل وتسقط مُجددًا.”
عند سماع ذَلك، التفت هيمفري إلى هيلين قائلًا.
“هيلين، لقد تأخر الوقت، عليكِ أنْ ترتاحي الآن.”
لكنها هزّت رأسها بعُنف.
“لا! رأيتُ كابوسًا بأنْ جولي اختفت! لا أريدُ رؤية حُلمٍ كهَذا مرةً أخرى.”
تحدثت بصوتٍ مُتذمر كطفلةٍ صغيرة، وأحكمت قبضتها النحيلة على يد أرتيا، وكأنها لِن تترُكها أبدًا.
كاد هيمفري أنْ يقول شيئًا، لكن أرتيا سبقته.
“جولي لَن تذهب إلى أيِّ مكان. ستظلُ دائمًا بجانب ماما.”
“حقًا؟”
“نعم، لذا عليكِ أنْ تنامي جيدًا، حتى نتمكن مِن مُتابعة الاستعدادات للزفاف غدًا.”
جلست أرتيا بجوارها، ونظرت إليّها بعينين لطيفتين.
بدأت هيلين تغمضُ عينيها ببطء، لكنها رغم ذَلك لَمْ تترك يد أرتيا، وكأنها تتمسكُ بها حتى وهي تغفو.
فأمسكت أرتيا يدها برفق، كأنها تُطمئنها بألّا تقلق.
وأخيرًا، استسلمت هيلين للنوم بملامحٍ هادئة.
ما إنْ خرجوا مِن الغرفة حتى قال هيمفري بذهول.
“لقد تعاملتِ مع هيلين بشكلٍ رائع.”
ابتسمت أرتيا.
“ألَمْ أخبركَ مِن قبل؟ لقد اعتنيتُ بأمي لفترةٍ طويلة.”
نظر إليّها هيمفري بتعابيرٍ مًعقدة، بينما قطع جون الصمت قائلًا.
“بعد مراقبة حالتها، يبدو أنْ السيدة تظُن أنها تعيش قبل عشرين عامًا، أيِّ قبل زفاف الآنسة جولييت بقليل.”
“ماذا؟!”
اتسعت عينا هيمفري وأرتيا معًا دهشة.
قطب هيمفري حاجبيه وقال.
“لكنها لَمْ تُظهر أيَّ ردة فعل عندما رأتني. لو أنها تعتقد أنها لا تزال تعيش في الماضي، ألَمْ يكُن عليها أنْ تتفاجأ مِن مظهري الكبيرة في السن؟”
“كما ذكرتُ سابقًا، السيدة تمرّ بحالة ذهان، لِمْ تعُد قادرةَ على التمييز بين الواقع والماضي، بين الحقيقي والزائف. إنها ترى فقط ما ترغبً في رؤيته.”
ساد الصمت، وعجز هيمفري عن الرد، بينما بدا الحُزن على وجه جون.
“ما زلتُ أذكر صيف ذَلك العام بوضوح…”
كانت جولييت قد بلغت العشرين، وتستعدً لزفافها.
لَمْ تكُن هيلين تشعرُ بالحزن لأن ابنتها الوحيدة ستُغادرها، بل غمرها الفرح لأنها ستراها عروسًا.
كانت مُنهمكةً تمامًا في تحضيرات الزفاف، ولَمْ يكُن التعب أو الإرهاق يسرقان منها ابتسامتها.
لكن، رغم حُب الأم العميق، لَمْ تكتمل فرحتها.
لأن جولييت… ماتت.
في الليلة التي سبقت زفافها.
“ماذا؟!”
كانت أرتيا تعرفُ أنْ جولييت ماتت، لكنها لَمْ تكُن تعلم أنْ ذَلك حدث قبل زفافها بيومٍ واحدٍ فقط.
وضعت يدها على فمها بصدمة، بينما تابع جون حديثه.
“أُصيبت السيدة بانهيارٍ بعد تلكَ الصدمة، ولَمْ تتعافَ منذُ ذَلك الحين. أظُن أنْ عدم تمكنها مِن حضور زفاف ابنتها بقي جرحًا غائرًا في قلبها. ولهَذا، حتى بعد فقدانها الإدراك، لا تزال مُتمسكةً بفكرة الزفاف.”
“إذن، ماذا علينا أنْ نفعل؟”
“برأيي… علينا أنْ نُحقق لها حُلمها.”
“ماذا؟!”
“لا أقصد إقامة حفل زفافّ حقيقي، بل مُجرد تمثيلية، تمامًا كما في مشهدٍ مِن الأوبرا. فالإنسان لا يجدُ راحته إلا بعد أنْ يتحرر مِن العقد التي تُقيّده في أعماقه. وستكون هَذهِ التجربة عزاءً كبيرًا للسيدة، حتى لو لَمْ تكُن حقيقية.”
ضغط هيمفري شفتيهِ بتردد، ثم نظر إلى أرتيا.
“هل يُمكنكِ إقامةُ زفاف مزيف لها؟”
رغم أنْ هيمفري بدا وكأنهُ يطلب منها أمرًا صعبًا، إلا أنْ الأمر لَمْ يكُن مشكلةً كبيرةً بالنسبة لأرتيا.
فَفي النهاية، لَمْ يكُن هَذا زواجها الأول.
والأهم مِن ذَلك، أنها ستحصلُ على ٢٠٠ مليار مِن عمها.
وبمبلغٍ كهَذا، كان يُمكنها فعل ما هو أكثر مِن ذَلك.
“نعم، سأفعل ذَلك.”
ما إنْ أومأت أرتيا برأسها موافقة، حتى امتلأت عينا هيمفري بالامتنان.
“أشكُركِ.”
بدا المشهد مؤثرًا وهو ينحني لها، بشعرهِ الأبيض، مِما جعل مشاعرهُ تبدو صادقةً تمامًا.
ابتسمت أرتيا بلطفٍ وردّت قائلة.
“لكن لديّ طلبٌ واحد.”
منذُ أنْ اعتقدت هيلين أنْ أرتيا هي جولييت، أصبحت زمام الأمور في يدها.
كان هيمفري على استعدادٍ لمُضاعفة المبلغ عشر مرات إنْ لزم الأمر، لذا أومأ رأسهِ بلا تردد.
“أطلبي ما تُريدين.”
“عليّ العودة إلى العاصمة بعد شهرٍ ومعي المال، لذا أريدُ إنهاء هَذهِ المسألة قبل ذَلك الوقت.”
“السيدة لا تملكُ إدراكًا واضحًا لما حولها باستثناء الآنسة جولييت. الأمر نفسُه ينطبق على الوقت. حتى لو أخبرناها أنْ الزفاف غدًا، فَستُصدق ذَلك. لكنها قد تشعرً بالارتباك عندما تُدرك أنْ التحضيرات لَمْ تُنجز بعد.”
فكر هيمفري للحظةٍ قبل أنْ يقول.
“إذن، لنُسرع في التحضيرات ونقيّم الزفاف في أقرب وقتٍ مُمكن.”
“قبل عشرين عامًا، كانت جولييت ستُغادر القصر فور انتهاء زفافها برفقة زوجها. لذا، بعد الزفاف، عليكِ مُغادرة هَذا المكان أيضًا.”
كانت خطةً جيدة.
فإذا سارت الأمور على هَذا النحو، فَستتمكن أرتيا مِن مُغادرة القصر دوّن أنْ تُصاب هيلين بصدمة.
وهَكذا، بدأت أرتيا التحضيرات لزفافها المُزيف، مُتقمصةً دور جولييت.
“جولي!”
ابتسمت هيلين بحرارةٍ ومدّت ذراعيها.
احمرّ وجهُ أرتيا وهي تحتضنُها، كما لو كانت طفلةً بين ذراعي والدتها.
“رغم أنْ هَذا يتكررُ كُل يوم، إلا أنهُ يُحرجني في كل مرة.”
خلال لحظة لقائهُما، تحركت الخادمات بسرعةٍ لترتيب الطعام على الطاولات في الحديقة، وكأنهنِ يُجهزنَ لحفل.
نظرت هيلين إلى المائدة المُمتلئة بالأطعمة الشهية.
“الحفاظ على القوام أمرٌ مُهم لتكوني عروسًا جميلة، لكن الأهم مِن ذَلك هو صحتكِ. هَذا طعام مصنوعٌ مِن مكوناتٍ فاخرة، لذا تناولي منهُ جيدًا.”
قطّعت هيلين قطعة لحم صغيرة ووضعتها أمام أرتيا.
نظرت أرتيا إليّها بحيرةٍ، ثم فتحت فمها قائلة: “آه” لتتناولها.
كان الدجاج المشوي بالعسل حلو المذاق وطريًا للغاية.
“أنتِ تأكُلين جيدًا، يا ابنتي.”
ابتسمت هيلين بسعادةٍ وكأنها هي مَن تناول الطعام.
في تلكِ اللحظة، تذكرت أرتيا والدتها سيلفيا.
لطالما كانت والدتُها طريحة الفراش، لكنها كانت تنظرُ إليّها بنفس الطريقة عندما كانت صغيرة.
‘كل ما فعلتُه هو تناول الطعام كفرخٍ صغير، لكنني أشعرُ وكأنني قمتُ بأمرٍ عظيم.’
ورغم شعورها بالإحراج مِن نظرات هيلين، إلا أنها تناولت كُل الطعام الذي قدمتُه لها.
بعد انتهاء الوجبة، حان دور أرتيا للعناية بهيلين، حيثُ قامت بتحضير دوائها.
كان العلاج مصنوعًا مِن أعشابٍ نادرةٍ جمعها جون، لكنهُ كان أسود اللون، كريه الرائحة، وبالتأكيد مذاقهُ أسوأ.
ورغم ذَلك، شربتهُ هيلين دفعةً واحدة دوّن تردد.
وصفّقت لها أرتيا بحماس.
“أحسنتِ، ماما!”
ضحكت هيلين وكأنها تجدُ أرتيا لطيفةً للغاية.
“سأصبحُ بصحةٍ جيدةٍ قريبًا، وسأحرصُ على حضور زفاف ابنتي بأفضل صورة.”
عندما سمع هيمفري ذَلك، احمرّت عيناهُ تأثرًا.
لطالما كانت زوجتُه محبوسةً في غرفة مُظلمة، ترفضُ كل شيء، ولا تتمنى سوى الموت.
لكنها الآن، كانت تجلسُ تحت أشعة الشمس، تأكل، تشرب الدواء، وتبتسمُ بفرح.
لَمْ يُصدق أنْ هَذا يحدُث بالفعل.
بدا وكأنهُ مجرد حلم.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة