46
الفصل 46 : أسوأ خاطِب ²⁰
وقفت أرتيا ذاتُ الشعر الأزرق الداكن أمام هيمفري.
“لطالما كانت والدتي تقول إنْ وجودي بجانبها كان ما يجعلُها تتحمل ألم المرض.”
لَمْ تكُن لأرتيا أيُّ قوةٍ خارقة.
بل كانت والدتُها تستمد القوة لمُجرد أنْ ابنتها الحبيبة بجوارها.
إذن، ألَن يكون الأمر نفسُه مع الآخرين؟
“تعمدتُ صبغ شعري بالأزرق الداكن. فكرتُ أنْ رؤية مظهرٍ يُشبه ابنتها التي فارقتها منذُ زمنٍ قد يمنحُ خالتي بعض الراحة.”
كانت كلماتُها غريبةً وغيرَ معقولة.
لكن لحُسن الحظ، لَمْ يغضب هيمفري مِن جرأتها على تقليد ابنتهِ الراحلة.
في الوقت نفسه، لَمْ يبدُ أنه يُرحب باقتراحها أيضًا.
نظرت إليّهِ أرتيا، الذي كان غارقًا في حيرته، وتابعت قائلة.
“إذا رأتني خالتي ولَمْ يُعجبها الأمر، فَسأعتذر فورًا وأغادر القصر. لكن إذا شعرتْ بتحسُن ولو قليلًا، فأرجو منكَ أنْ تقبل اقتراحي.”
اهتزّت نظرةُ هيمفري بعُنف.
كان بإمكانهِ طردُها لحديثها الذي لا يُصدق، لكن الحقيقة أنها كانت تًشبه جولييت كثيرًا.
***
فتح هيمفري باب الغرفة.
في الداخل، وسط الظلام، كانت هُناك امرأةُ هزيلة مُستلقيةٌ على السرير.
إنها زوجتُه، هيلين، سيدة منزل بلورانس.
منذُ عشرين عامًا، حين فقدت ابنتها، تخلّت عن جميع مسؤولياتها.
قطّب هيمفري حاجبيهٍ وهو يرى زجاجة الدواء موضوعةً على الطاولة.
“لَمْ تتناولي دواءكِ مُجددًا.”
فتحت هيلين عينيها نصف إغماضة، وتحدثت بشفاهٍ جافة كالورق المتساقط في الخريف، بصوتٍ باردٍ كشتاء قارس.
“عزيزي، لا تجلب لي المزيد مِن الأدوية. لا تُحضر الأطباء أيضًا. كل هَذا بلا جدوى.”
“هيلين!”
“منذُ أنْ فقدتُ جولي، أصبحت الحياة جحيمًا لي… أريدُ فقط أنْ أرحل… أنْ أذهب إلى العالم الآخر لأرى ابنتي مُجددًا…”
أغلقت هيلين عينيها مرةً أخرى.
لعلها تتمكن مِن رؤية ابنتها ولو في الأحلام.
بدا المشهد وكأنها شخصٌ فقد الحياة بالفعل.
حدّق بها هيمفري بحُزن يكاد يُمزّق قلبه، ثم تحدث بحزم.
“هيلين، هُناك شخصٌ أريدكِ أنْ تلتقي بهِ.”
“…..”
لَمْ تتحرك هيلين، فأكمل هيمفري حديثه.
“ادخلي.”
صريرُ بابٍ قديم، لَمْ يُفتح إلا حين يدخل هيمفري أو يخرُج، تلاهُ صوت خطوات.
لكن هيلين لَمْ تفتح عينيها.
طبيب؟ صيدلاني؟ ساحر؟ أم رُبما أحدُ الأصدقاء القدامى؟
لَمْ تكُن تُريد رؤية أيِّ شخص.
حاول هيمفري إقناعها كالمعتاد، خاصةً عندما يتعلقُ الأمر بعلاجها.
“انظري إليّها ولو لمرةٍ واحدة.”
“…..”
كان هيمفري زوجًا عطوفًا، لكنهُ عنيدٌ حين يتعلق الأمر بشفاء زوجتهِ.
أرادت هيلين العودة إلى النوم سريعًا، فتحت عينيها ببطء.
أمامها، كانت تقفُ أرتيا ذاتُ الشعر الأزرق الداكن، مُبتسمةً بلطف.
“…..!”
في تلكَ اللحظة، عاد بريقُ الحياة إلى عيني هيلين الشاحبتين.
شعر هيمفري بالأمل وهو يستعدُ لتقديم أرتيا لها، لكن قبل أنْ ينطق بكلمة، نهضت هيلين مِن سريرها فجأةً واحتضنت أرتيا بقوة.
“جولي!”
“…..!”
اتسعت عينا هيمفري وأرتيا في آنٍ واحد.
بكت هيلين كما لو أنْ ابنتها قد عادت مِن العالم الآخر.
“جولي، ابنتي العزيزة… اشتقتُ إليّكِ… اشتقتُ إليّكِ كثيرًا… كثيرًا جدًا…”
كانت كلماتُها مشحونةً بالحُب والشوق، لدرجة أنْ أرتيا لَمْ تستطع النُطق بحقيقة الأمر.
اكتفت بالبقاء صامتةً داخل أحضان هيلين.
* * *
احتضنت هيلين أرتيا وبكت طويلًا حتى فقدت وعيّها.
حتى وهي فاقدةُ الوعي، لَمْ تترُك يد أرتيا.
‘لا أستطيع إزاحة يدها…’
وهَكذا، بقيت أرتيا بجانب هيلين طوال فترة فحصها، يدُها في يدها.
نظر إليّها هيمفري بحيرةٍ.
“هيلين تعتقدُ أنكِ جولي الحقيقية.”
أرتيا كانت مذهولةً بنفس القدر.
كل ما أرادتهُ هو أنْ تجد هيلين في ملامحها ما يُذكّرها بجولييت، لكن أنْ تخطئ وتظنها ابنتها نفسها؟ لَمْ يخطُر ذَلك ببالها أبدًا.
“كيف يُمكن أنْ يحدُث هَذا؟”
صحيح أنها صبغت شعرها بالأزرق الداكن، لكنها لَمْ تكًن تًشبه جولييت كالتوأم.
حتى لون العينين كان مًختلفًا.
والأهم مِن ذَلك، أنْ جولييت… ماتت.
تدخل الطبيب جون، طبيب هيلين الشخصي، ليشرح الأمر.
“يُمكنني تفسير ذَلك. يبدو أنْ رؤية شخصٍ يًشبه الآنسة جولييت كان صدمةً نفسيةً كبيرة على السيدة، مِما أدى إلى إصابتها بحالة مِن الذهان.”
“الذهان؟”
“نعم، إنها حالةٌ يفقدُ فيها الشخص إدراكهُ الواقعي جزئيًا، فيشوّه الحقائق وفقًا لرغباته.”
“هَذا…”
شحب وجه هيمفري، فسارع جون ليُطمئنه.
“لا داعي للقلق الشديد. عادةً، هَذهِ الأعراض تزول بعد فترةٍ حين يستعيدُ الشخص استقرارهُ النفسي.”
لكن كلماتُ الطبيب لَمْ تُبدد القلق عن وجه هيمفري.
أما أرتيا، فعضّت شفتيها بتوترٍ.
‘كانت مريضةً بالفعل، والآن أصابها الذهان بسببي، بل وأغميّ عليها أيضًا.’
حتى لو قرر هيمفري طردها مِن القصر بعد ضربها بعصاه، لَمْ تكُن لتعترض.
لكن بدلاً مِن ذَلك، سمعتهُ يقول.
“أرتيا، هل يُمكنكِ الاستمرار في التظاهر بأنكِ جولييت؟”
“ماذا؟!”
رفعت أرتيا رأسها، غيرَ مصدقةٍ ما سمعته.
تابع هيمفري بصوتٍ جاد.
“لستُ أطلب منكِ أنْ تمثّلي دور جولييت للأبد. فقط لفترةٍ قصيرة، ابقي بجانب هيلين وكأنكِ هي.”
لقد رأى نظرة عيني هيلين عندما قابلت أرتيا…
عينان مُضيئتان بدفء، كما لو أنْ ابنتهُ كانت لا تزال على قيد الحياة.
“لكن…”
ترددت أرتيا، فقال هيمفري برجاء.
“إذا قبلتِ طلبي، فسأعطيكِ ٢٠٠ مليار… لا، سأمنحُكِ أيَّ مبلغٍ تطلُبينه.”
قبل بضع ساعات فقط، كانت أرتيا هي مَن توسلت إليّه، أما الآن فقد انعكست الأدوار تمامًا.
لكنها لَمْ تستطع الموافقة بسهولة.
“حتى لو كانت السيدة تمرّ بحالة ذهان، عاجلًا أم آجلًا ستُدرك أنني لستُ ابنتها. ألَن يكون وقع الصدمة حينها أشد؟”
تدخل الطبيب جون مًجددًا.
“ملاحظتُكِ صحيحة تمامًا. لكن السيدة لَمْ تعُد تتناول طعامها أو دواءها منذُ فترة، وحالتُها متدهورةٌ جدًا. إذا تمكنت مِن استعادة القليل مِن قوتها خلال الأيام القادمة وركّزت على العلاج، فقد نتمكن على الأقل مِن منع حالتها مِن التدهور أكثر.”
أومأ هيمفري موافقًا.
“هَذا ليس شأنكِ، أرتيا. كل ما عليكِ فعلُه هو التظاهر بأنكِ جولييت. وإنْ استعادت هيلين وعيّها غدًا، فستحصلين على المبلغ المُتفق عليهِ وتُغادرين القصر.”
كانت نظراتُه ملحّةً وقوية، حتى بدا كأنهُ شخصٌ مختلفٌ عن الرجل المُكتئب الذي كان قبل قليل.
شعرت أرتيا بالارتباك.
‘هِذا ليس ما خططتُ له…’
صحيح أنها أرادت استغلال حُب الكونتيسة لابنتها الراحلة، لكنها لَمْ تُخطط أبدًا لأن تحل محلها بالفعل.
لكن حين تذكرت حرارة حُضن هيلين وهي تناديها.
‘جولي، ابنتي العزيزة… اشتقتُ إليّكِ…’
شعرت بوخزٍ في قلبها.
كيف يُمكنها خداعُ امرأةٍ حزينةٍ كهَذهِ؟ ماذا لو سبّب لها ذَلك جًرحًا أكبر؟
لكن… لو قبلت، ستحصلُ على المال اللازم لحماية بُحيرة أنسي، المليئة بذكرياتها مع والدتها، مِن براثن شايلوك.
وأكثر مِن ذَلك، تلكَ المرأة الهزيلة، التي نادت اسم ابنتها الراحلة بحرقة، ذكّرتها بوالدتها حين كانت صغيرة.
وفي النهاية، حسمت أمرها.
‘لا أعرف كم سيطول الأمر، لكنني سأبقى بجانبها.’
آملةً أنْ تمنحها بعض الراحة، أومأت أرتيا بالموافقة.
في صباح اليوم التالي، ما إنْ فتحت هيلين عينيها حتى احتضنت أرتيا فورًا.
“جولي!”
تذكرت أرتيا ما قالهُ لها هيمفري.
‘جولييت كانت مُدللةً جدًا، حتى بعدما كبرت، كانت لا تزال تنادي أمها بـ ماما.’
ماما…
كان هَذا اللقب غريبًا جدًا، لَمْ تتفوه بهِ منذُ زمنٍ بعيد.
لكن بما أنها قررت أنْ تلعب دور جولييت، كان عليها التصرف مثلها.
فتحت شفتيها بترددٍ، ثم نطقت ببطء.
“ماما…”
أشرقت ابتسامةٌ على وجه هيلين.
“نعم، يا ابنتي.”
كانت نظراتُها دافئةً بشكلٍ مُذهل.
شعرت أرتيا بوخزةٍ في قلبها، وكأنْ شيئًا ما بداخلها قد اهتز.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة