43
الفصل 43 : أسوأ خاطِب ¹⁷
دخلت أرتيا إلى غرفة الاستقبال، وملامحُ عدم التصديق ترتسمُ على وجهِها.
كانت الغرفة فارغةً بعد إزالة جميع الزخارف، لكن وسط هَذا الفراغ، وقف شخصٌ لَمْ يكُن ينتمي إلى هَذا المكان على الإطلاق.
كان ذَلك كيليان.
كتمت أرتيا دهشتها التي كادت تفقدُها وعيّها، وانحنت احترامًا لهُ.
“أُحيي نسل أورفيوس العظيم.”
لكن كيليان لَمْ يرُد التحية، بل قال وهو ينظرُ إلى رأسها المُنحني، الذي لَمْ يكُن ينوي الارتفاع أبدًا.
“ارفعي رأسكِ، أرتيا فون إيدنبيرغ.”
رفعت أرتيا رأسها بحذر.ٍ
للحظة، تساءلت إنْ كانت مًجرد هلوسةٍ ناتجة عن الضغط الشديد، لكنها سرعان ما أدركت أنْ هَذا ليس هلوسة.
‘تلكَ النظرة الحادة، التي تبدو وكأنها قادرةٌ على قتل شخصٍ بِمُجرد التقاء الأعين، لا يُمكن أنْ تكون هلوسة. ذَلك الوجهُ الجميل، الذي يبعثُ شعورًا بالرهبة بدلًا مِن النبضات المُتسارعة، هو ببساطةٍ مُتقن جدًا ليكون هلوسةَ.’
كانت عينا أرتيا مُتسعتين تمامًا، وعندها، فتح كيليان فمهُ قائلاً.
“يبدو وجهًكِ وكأنكِ أرنبٌ رأى جزرةً تقفزُ أمامه. يبدو أنكِ صُدمتِ كثيرًا.”
وكيف لا تكون كذلك؟
فَهو أميرٌ، بإمكانهِ استدعاء أيِّ نبيلٍ إلى القصر الإمبراطوري متى شاء.
فِلماذا أتى بنفسهِ لرؤيتها؟
لَمْ تستطع أرتيا إخفاء ارتباكها وهي تسأل.
“أعتذر لسؤالي، لكن ما سببُ زيارتكَ، جلالتُكَ؟”
“ترددت شائعات كثيرة عنكِ مُجددًا في العاصمة.”
“……؟”
“يُقال إنكِ وافقتِ على الزواج مِن سيمون فون لوشيان مًقابل الحصول على قرضٍ مالي.”
صرخت أرتيا باستنكارٍ شديد.
“هَذا محضُ هراء!”
“حقًا؟”
“نعم! صحيح أنني اقترضتُ المال، لكنني لَمْ أعد بذَلك أبدًا. كل ما في الأمر أنه إنْ لَمْ أتمكن مِن سداده في الموعد المًحدد، فسيتمُ الاستيلاء على الضمان.”
رغم أنْ بحيرة آنسي كانت مكانًا ثمينًا يحملُ ذكرياتٍ عزيزةٍ، لَمْ تكُن مستعدةً للتضحية بنفسها والزواج برجلٍ لا تُريده مُقابلها.
بالطبع، كان فقدانُها أمرًا مؤلمًا…
لكن أثناء تذكرها للبحيرة التي قضت فيها الوقت مع والدتها، عضّت أرتيا شفتيها.
“سأعطيكِ المال.”
‘يُعطيني ماذا؟’
‘هل سيمنُحني سيفًا لأقطع بهِ رأس ذَلك الثُعبان الماكر، شايلوك؟’
استغرق الأمر بضع ثوانٍ قبل أنْ تستوعب أرتيا ما قصده.
“هل تعني أنكَ ستُقرضني المال؟”
“نعم.”
اتسعت عيناها بذهولٍ مُضاعف.
“هل تعلمُ حتى مقدار المبلغ؟”
“لا يهمُني. طالما أنكِ لَمْ تقترضي جميع أموال الإمبراطورية.”
كانت كلماتُه مُتعجرفةً بلا حدود، لكنها لَمْ تكُن مُبالغةً فارغة.
فالرجل الذي نطق بها كان صاحب النفوذ الأكبر بعد الإمبراطور نفسه.
نظرت إليّهِ أرتيا بذهولٍ قبل أنْ تسأله.
“لماذا؟”
لقد طرحت عليهِ نفس السؤال في اليوم الذي حصلت فيهِ على موافقة الطلاق مِن الإمبراطور.
عندما سألتهُ آنذاك لماذا ساعدها.
‘في بعض الأحيان، عندما أرى يرقةً صغيرةً تتخبطُ في شبكة عنكبوت، أشعرُ برغبةٍ في مُساعدتها.’
هل كان هَذا هو السبب ذاتُه هَذهِ المرة أيضًا؟
لكن اليوم، كانت إجابتُه مُختلفةً قليلًا.
“لأنني أعتقد أنْ الأمر سيكون مُمتعًا.”
كانت إجابةً مُهملة، بل ورُبما غيرَ مُهذبة.
لكن رغم ذَلك، لَمْ تشعُر أرتيا بالغضب على الإطلاق، بل شعرت بالسعادة.
فباستثناء بيبي، لَمْ يكُن هُناك أحدٌ آخر حاول مُساعدتها.
انعكست مشاعرُها في عينيها اللتين تلألأتا برقة، وارتسمت ابتسامةٌ جميلة على شفتيها المُمتلئتين.
لَمْ يستطع كيليان أنْ يُشيح بنظرهِ عن ابتسامتها التي أزهرت كزهرةٍ صباحية في ضوء الفجر.
عندها، تحدثت أرتيا بصوتٍ ناعم:
“أنا مُمتنةٌ جدًا لكَ على عرضكَ لمُساعدتي مًجددًا، سموكَ. لكن لا داعي لذَلك.”
انطفأت نظرةً كيليان الحالمة فجأةً، وحل محلها بريقٌ حاد.
“هل هَذا يعني أنكِ ترغبين في الزواج مِن سيمون فون لوشيان؟”
اختفت الابتسامة عن وجهِ أرتيا على الفور.
“بالطبع لا!”
لكن…
“أنا فقط لا أريدُ أنْ أثقل دَيني لكَ أكثر مِن هَذا، سموك.”
“لا داعي لأن تشعًري بهَذهِ المشاعر السخيفة. أنا أفعل ما يحلو لي، لا أكثر.”
“لكن في النهاية، أنا الطرف الذي يتلقى كُل شيء دوّن مُقابل. وهَذا لا يجعلنُي مرتاحةً.”
“…….”
كان كيليان قادرًا على تحريك الجميع كما يشاء، باستثناء أفراد عائلتهِ.
وأرتيا لَمْ تكُن استثناءً. لو أضاف إلى كلماتهِ صبغة الأمر، لكانت قد أومأت برأسها في النهاية، خاضعةً لرغبته.
لكن… لَمْ يرغب في ذَلك.
على الأقل، ليس مع أرتيا فون إيدنبيرغ.
بعد لحظات، فتح كيليان فمهُ قائلاً.
“يُمكنكِ مساعدتي أيضًا، أليس كذِلك؟”
‘مساعدته؟’
اتسعت عينا أرتيا بدهشةٍ. فالكلمات التي تفوه بها لَمْ تكُن تبدو وكأنها تنتمي إلى إليّه.
“هل هُناك ما يُمكنني فعلهُ لمساعدتكَ، سموكَ؟”
“لماذا تعتقدين أنهُ لا يوجد؟ قبل أيامٍ قليلة، كنتِ شريكتي في حفل البارون كروباشون.”
“لكنني لا أعتقدُ بأنني قدمتُ لكَ أيَّ مساعدةٍ في ذَلك اليوم.”
“بل ساعدتني كثيرًا.”
“بأيِّ شكل؟”
سألت أرتيا بلهجةٍ تنُم عن عدم اقتناع، فأجاب كيليان بهدوء.
“لقد تصديتِ للنساء اللواتي كُن يلاحقنني، بنظراتكِ المُرعبة.”
صحيح، هَذا ما حدث بالفعل.
لَمْ يكُن بإمكانها إنكار أنها بذلت جُهدها في ذَلك الأمر تحديدًا، فأومأت برأسها في النهاية.
لَمْ يفوت كيليان تلكَ اللحظة.
“إذًا، فكري في الأمر على أنهُ صفقة، وليس دَينًا. تبادلٌ متكافئ. بهَذهِ الطريقة، لَن يكون هُناك مجالٌ لمشاعر الدَّين أو الامتنان.”
كانت أرتيا في حيرةٍ مِن أمرها.
‘هَذا الأمير الذي يُلقب بالمجنون، والذي يُقال إنهُ يكره النساء بشدةٍ، لماذا يخبرني بهَذا؟’
‘هل هو يفعل ذَلك بدافع الشفقة؟ أم لأنهُ يجد الأمر مُمتعًا؟’
‘هل هِذا هو السبب الوحيد حقًا؟’
لم تكن متأكدة. الشيء الوحيد الذي كانت واثقة منه هو أنه لا يملك أي مؤامرة خفية ضدها.
فَلو أراد التخلص منها، لكان بإمكانهِ فعل ذَلك بإصبعٍ واحد، ولَمْ يكُن بحاجةٍ إلى اللجوء إلى مثل هَذهِ الطرق المًعقدة.
بعد تفكيرٍ قصير، وصلت إلى قرار.
مِن الناحية المنطقية، لَمْ يكُن هُناك أيُّ ضررٍ في إقامة علاقةٍ وثيقة مع الأمير. على العكس، كان ذَلك مكسبًا كبيرًا.
“سأقبلُ عرض سموك.”
في تلكِ اللحظة، تلألأت عينا كيليان الذهبيتان بوهجٍ مُشرق، لكنهُ سرعان ما خبا عند سماعهِ الكلماتها التالية.
“لكن هل يُمكنني تأجيل قبول مساعدتكِ هَذهِ المرة؟”
“ماذا تعنين؟”
“في الواقع، لديّ طريقةٌ قد تُمكنني مِن جمع المال. لَمْ أكُن متأكدةً إنْ كان علي تجربتُها، لكنني الآن اتخذتُ قراري. سأحاول تنفيذها.”
“…….”
“إذا فشلت، عندها يُمكنكَ مساعدتي.”
تحدث كيليان بصوتٍ حاد.
“بمعنى آخر، أنتِ تُعاملينني كخطةٍ احتياطية؟”
“أعتذر.”
رغم اعتذارها، إلا أنْ عينيها الورديتين تألقتا بلمعانٍ مُشرق، أشبهُ بتفتح أزهار الكرز في الربيع.
كانت النظرة ذاتها التي رأتها عيناه عندما جاءت إليّهِ قبل بضعة أشهر، مُطالبةً بالطلاق.
تلكَ النظرة التي حملت عزمًا قويًا على تحقيق ما تُريده بنفسها.
تأملها كيليان مِن أعلى إلى أسفل.
‘إنها نصفُ حجمي فقط…’
بل أكثر مِن ذَلك، أينما أمسكها، بدت وكأنها ستنكسر بسهولة. كانت هشةً وضعيفة ظاهريًا.
لكن عندما كانت تنظرُ إليّهِ بتلكِ العيون، كان قلبهُ ينبض بإحساسٍ غريب، أنهُ شعورٌ مزعج لكنهُ محبب في الوقت نفسه.
‘أرتيا فون إيدينبرغ… اليوم أيضًا، تُثيرين استيائي.’
لكن هَذا الاستياء لَمْ يكُن شيئًا يكرهه.
حاول كيليان إخفاء مشاعرهِ المُعقدة، ثم ألقى بكلمةٍ واحدة.
“افعلي ما تشائين.”
“أشكرُكَ، سموك.”
أرتيا ابتسمت بفرحٍ.
وفي تلكَ اللحظة، ازداد ذَلك الإحساس المُزعج في قلب كيليان، حتى إنهُ شعر برغبةٍ في إدخال يدهِ إلى صدرهِ وحكّه بقوة.
****
في مساء ذَلك اليوم، بدأت أرتيا في تجهيز أمتعتها.
‘لم يتبقَ سوى شهرٌ على موعد السداد، لذا عليّ الإسراع.’
أنهت استعداداتها بسرعةٍ، وقبل أنْ تُغادر القصر، وصل زائرٌ غير متوقع.
كان الضيف الثاني لهَذا اليوم هو بينيلوب.
عندما رأت بينيلوب أرتيا تحملُ حقيبةً كبيرة، شهقت وسألتها بذهول.
“هل ستهرُبين لأنكِ لا تُريدين الزواج مِن سيمون؟!”
لَمْ تتوقع أرتيا هَذا السؤال، فتأخرت في الرد، مِما أتاح لبينيلوب الفرصةً لتمد لها كيسًا كبيرًا.
داخل الكيس، تألقت عُملات ذهبيةٌ وأحجارٌ كريمة براقة.
“هَذا…”
اتسعت عينا أرتيا، فأجابت بينيلوب بابتسامة.
“الأحجار الكريمة مُلكي، أما العملات الذهبية فقد استعرتُها مِن سيداتٍ نبيلات مُقرباتٍ مني.”
“…….”
“كنتُ أتمنى أنْ أجمع أكثر، لكن هَذا أفضل ما استطعتُ الحصول عليهِ. هل سيُساعدك هَذا ولو قليلًا؟”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة