39
الفصل 39 : أسوأ خاطِب ¹³
لَمْ يكُن مِن المُناسب أنْ يُجيب بهَذهِ الطريقة، لذا نطق كيليان بكلماتٍ لا تمتُ للحقيقة بصلة.
“هُناك شائعاتٌ بأنْ أمورًا غيرَ قانونيةٍ تحدثً في الحفل الذي يُنظمه البارون كروباشون، فأثار ذَلك فضولي. مِن الطبيعي أنْ يكون لديّ شريكٌ أثناء استكشاف القاعة سرًا بدلًا مِن أنْ آتي بمفردي.”
كان كلامهُ يبدو مُنطقيًا، لكن لا تزال هُناك نقطةٌ غير واضحة.
‘لماذا اخترتني أنا بالذات كـ شريكةٍ لكَ؟’
قرأ كيليان التساؤل في عيني أرتيا.
“وجود النساء بجانبي يجعلُني أشعرُ بالغثيان. لكنكِ…”
أنا؟
“أنتِ مقبولةٌ نوعًا ما.”
“……؟”
لَمْ يكُن تفسيرهُ مُقنعًا تمامًا، لكن أرتيا وجدت تفسيرًا خاصًا بها.
‘هل يعني أنْ وجودي غيرَ ملحوظٍ، لذا لا يُزعجه؟’
حين فكرت في الأمر، أدركت أنهُ على عكس ما سمعتهُ مِن شائعات، لَمْ يكُن يُعاملها بفظاظةٍ. بل كان مِن الصعب تصديق أنهُ يُعاني مِن رُهاب النساء.
‘يبدو أنْ عدم المُلاحظة قد يكون مُفيدًا في بعض الأحيان.’
أومأت برأسها برضا، ثم سمعت صوت كيليان العميق.
“هيا ننزل.”
كانت العربة قد توقفت بالفعل.
وفقًا لقواعد الإتيكيت، كان مِن المُفترض أنْ يُساعد الرجل السيدة في النزول، لكن كيليان نزل أولًا وظل واقفًا هُناك بتعبيرٍ مُتعجرفٍ.
‘شخصٌ يُحدق في النساء كما لو كان سيقتلهم، مُجرد كونهِ قد ركب العربة معي أمرٌ يستحق الامتنان.’
لَمْ تكُن أرتيا تُحب أنْ يرافقها أحدٌ أثناء ركوبها أو نزولها مِن العربة على أيِّ حال.
لكن المُشكلة كانت في شيءٍ آخر هَذهِ المرة…
كيليان كان يُحدق بها بحدةٍ، كما لو كان يثقبها بعينيه.
‘لماذا يُحدق بي هَكذا؟ هل هَذا طلبٌ غير مُعلن لكي أنزل بسرعةٍ دوّن إزعاجه؟’
اعتقدت أنهُ يطلب منها النزول بسرعة، فَحاولت التحرك سريعًا.
لكن…
“آه!”
داسَت على طرف فستانها بالخطأ، فاختل توازنها للحظة.
لحُسن الحظ، استعادت توازنها سريعًا، لكن عينيها اتسعتا عندما رأت كيليان.
قبل لحظةٍ فقط، كان يُحدق بها ببرودٍ وكأنهُما ليسا شركاء، لكنهُ كان قد مد يدهُ نحوها.
‘هل كان على وشك الإمساك بي؟’
رفعت رأسها لتنظر إليّه بدهشةٍ، وتذكرت جملةً سمعتها مِن قبل.
-أكره النساء المجروحات أكثر مِن أيِّ شيءٍ آخر.
‘بالفعل، إذا كان يكرهُ وجودهنَ، فسيكون مِن الأسوأ بالنسبة له أنْ يراهنَ في موقفٍ مزعج.’
فهمت أرتيا الأمر وضحكت بهدوء.
“شكرًا لكَ.”
بغض النظر عن نيتهِ، فقد كان يُحاول مساعدتها.
حدق كيليان بها لوهلةٍ، ثم حوَّل نظرهُ بعيدًا.
“لنذهب.”
“نعم.”
تبعت أرتيا خطوات كيليان.
وبعد لحظات، فُتِحت أبواب قاعة الحفل المُغلقة بإحكام.
بِمُجرد دخولها إلى القاعة، شعرت أرتيا بالارتباك.
كان المشهد مُختلفًا تمامًا عن أيِّ حفلٍ سبق أنْ حضرته.
لَمْ تكُن الأضواء الصاخبة لثريات الكريستال تُنير القاعة، بل كانت الشموع الخافتة تنشرُ ضوءًا باهتًا في المكان المُظلم.
على الطاولات، لَمْ تكُن هُناك زهورٌ مزينةٌ بشكلٍ أنيق، بل زجاجاتُ خمرٍ مكدسة، وكان الجو مليئًا برائحة التبغ العفنة بدلًا مِن العطور الفاخرة.
لكن الأكثر غرابة كان تصرفات الحاضرين.
الضيوف المُقنعون لَمْ يبدوا كالنبلاء، بل كانوا يتحدثون بأصواتٍ عاليةٍ غيرَ مكترثين بآداب الحديث، فيما كان بعضهم يتبادلون اللمسات الحميمة بلا خجل—في عرضٍ صريحٍ للفساد والانحلال.
يا إلهي!
منذُ رؤيتها لعلاقة لويد وليليكا، لَمْ تشهد أيَّ مشهدٍ عاطفي مُماثل عن قرب.
‘لا، لا يجبُ أنْ أظهر أيَّ علامات ارتباك. سيكون ذَلك مُريبًا.’
حاولت أرتيا تهدئة نبضات قلبها المُضطربة ونظرت إلى كيليان.
كان لا يزال يضعُ قناعه الأسود، مِما جعل تعبيرهُ غير واضح، لكنهُ لَمْ يُظهر أيَّ ردة فعلٍ تُذكر، وكأنهُ ينظر إلى مُجرد حصاةٍ على الطريق.
‘بالطبع، لا يُمكن لهَذا الرجل أنْ يتأثر بمثل هَذا المشهد.’
هَذا رجل يُقال إنهُ ضحك بعد أنْ تلطخت يداهُ بدماء الآلاف.
لا أحد في هَذا العالم قادرٌ على زعزعة هَذا النمر الأسود، المُتعجرف والقوي.
أو هَكذا اعتقدت…
حينها، اقتربت منهُ امرأةٌ ترتدي قناعًا فاخرًا، تُبرز قوامها الجذاب بثقة.
“يا إلهي! حتى مع القناع الذي يُغطي نصف وجههِ، لا يزال مِن الواضح أنهُ وسيمٌ بشكلٍ لا يُصدق!”
“…….”
“وجسدهُ… رائعٌ أيضًا.”
جالت المرأة بنظرها على جسد كيليان مِن الأعلى إلى الأسفل، ثم لعقت شفتيها الحمراء بلسانها.
كما لو أنها كلبٌ وجد قطعة لحمٍ شهية.
“هل ترغبُ في تمضية الليلة معي؟”
وبينما كانت تهمّ بالاقتراب منه، وقفت أرتيا في طريقها.
“لا.”
تفاجأت المرأة للحظة مِن ظهور أرتيا، لكن سرعان ما تحول نظرها إلى حادٍّ.
لقد كانت تعلمُ مُسبقًا أنْ تلكَ المرأة ذاتُ القناع الأبيض كانت تقفُ بجوار الرجل المُقنَّع بالأسود منذُ البداية.
ومع ذَلك، لَمْ تتردد في التقرب منه لأنها كانت واثقةً بنفسها.
واثقةً مِن قدرتها على سحق فتاةٍ باهتةٍ لا تمتلكُ أيَّ حضور.
“يبدو أنكِ مبتدئة، لكن في هَذا الحفل، لا معنى لوجود شريك. كل ما عليكِ هو الانسجام وفقًا لرغباتكِ، وفقًا لما يمليهِ عليكِ حدسُكِ.”
أوه، فهمت. سأحترم قواعد الحفل.
إذا أردتِ الرقص بشكلٍ هستيري، أو الصراخ مثل بطة، أو فعل أيِّ شيءٍ آخر، فافعليهِ بحرية.
لكن هَذا الرجل ممنوعٌ لمسه. إنْ فعلتِ، فسيطيرُ رأسكِ!
لَمْ تكُن أرتيا ترغبُ في رؤية مثل هَذا المشهد الدموي يحدُث أمامها.
‘يبدو أنها لَن تُغادر بكلامٍ مهذب…’
في مثل هَذهِ المواقف، لا بد مِن اتخاذ موقفٍ حازم.
“……؟!”
اتسعت عينا المرأة بدهشة.
كانت عينا أرتيا، اللتين ظهرتا بين فتحات القناع الأبيض، تحملان نظرةً حادة.
“إنهُ رجُلي.”
“……؟!”
مدّت أرتيا مروحتها أمام المرأة.
“إذا لمستِه…”
حركت المروحة يمينًا ويسارًا، كما لو أنها تلوح بسيفٍ مُستعد لقطع عنقها.
“ستموتين؟”
“……؟!”
على الرغم مِن أنْ هَذا المكان كان يعجُّ باللهو والفجور، فإنْ الحاضرين كانوا جميعهم نبلاء في النهاية.
لَمْ يسبق للمرأة أنْ سمعت كلامًا فظًّا كهَذا في حياتها، مِما جعل وجهها يتجهم كما لو أنها تلقت لكمة.
لكن بِمُجرد أنْ استعادت وعيّها، أطلقت نظرةً شرسة نحو أرتيا…
لتجد أمامها عينين ورديتين تلمعان بجنونٍ يفوق جنونها بكثير.
حينها، أدركت المرأة شيئًا مهمًا.
‘إنها أكثرُ جنونًا مني!’
وبما أنْ العبث مع شخصٍ مجنون سيجلبُ المتاعب، فقد استدارت المرأة غاضبةً وهي تتمتم بامتعاض.
“يا لهُ مِن مشهدٍ غريب.”
بعد مُغادرتها، التفتت أرتيا بهدوءٍ لتنظر إلى كيليان.
بسبب قناعهِ، لَمْ تستطع رؤية تعبيره، لكنها انحنت له بخجل.
“أعتذر، أرجو أنْ تُسامحني.”
“على ماذا؟”
“على تجرئي بالتفوه بكلماتٍ غيرِ لائقةٍ بحق جلالتكَ… أعني، قولي إنكَ رجُلي.”
“……”
كانت قد نطقت بذَلك على عجلٍ، خشيةً أنْ تُقتل المرأة المسكينة لمُجرد أنها تعرفت على وسامتهِ رغم القناع.
لكن الآن، كلما فكرت في الأمر، شعرت بالرهبة.
مهما قال كيليان إنها ‘مقبولة نوعًا ما’، فإنها في النهاية تبقى امرأة.
ومِن وجهة نظرهِ، قد يكون سماعها تُعلن ملكيتها له أشبه بوحشٍ قبيحٍ يدّعي أنهُ يمتلكه.
‘قد يتراجع حتى عن قوله إنني مقبولة!’
حدقت أرتيا في كيليان بقلقٍ، مترقبةً ردة فعله.
ولكن على عكس توقعاتها…
“لا بأس.”
…أهَذا كُل شيء؟
لا نظرةً قاتلة، لا هالةً تُهدد بسحق أنفاسها، لا سحبٌ مُفاجئ لسيفٍ ليقطع رأسها…؟
الأغرب مِن ذِلك، لَمْ يكُن هُناك أدنى شعورٍ بالانزعاج منه.
بل على العكس…
‘هل ارتفعت زاوية شفتيهِ قليلًا؟’
لا، لا بد أنها تتخيل ذَلك.
نفت أرتيا هَذهِ الفكرة السخيفة مِن رأسها.
“إذن، إذا تكرر موقفٌ مُشابه، هل يُمكنني حمايتُكَ مرةً أخرى؟”
“أليس هدفكِ حماية النساء الأخريات، وليس أنا؟”
ردّت أرتيا دوّن تردد:
“هَذا صحيح. لكنني أريدُ أيضًا أنْ أحميكِ، جلالتكَ. عندما تلمسكَ امرأةٌ غريبة، يبدو الأمر مُتعبًا عليك.”
“……”
كان رُهاب كيليان مِن النساء معروفًا جيدًا.
لطالما حرص الناس على عدم إزعاج الأمير سيئ المزاج.
لكنهم في الخفاء كانوا يسخرون منه، أو ينكرون حتى وجود رجال لا يحبون النساء.
أما أرتيا… فَلَم تفعل ذَلك.
تحميني؟
لَمْ يسبق لأحدٍ أنْ أخبرهُ بذَلك مِن قبل.
لأول مرة، كان مُمتنًا لأنهُ يرتدي قناعًا.
لَمْ يكُن يريد أنْ يرى أحدٌ تعبيرهُ في تلكَ اللحظة.
ثم تحدث بصوتٍ بارد:
“افعلي ما تشائين.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة