35
الحلقة 35 : أسوأ خاطِب ⁹
حدق شايلوك باندهاشٍ في عينيها الوردية المُتألقة بثقةٍ.
لَمْ يكُن هُناك الكثير مِمَن يجرؤون على الوقوف أمامهُ بهَذهِ الجرأة، خاصةً عندما يكون غاضبًا.
بل لَمٌ يسبق لهُ أنْ رأى امرأة تتصرفُ بهَذهِ الطريقة مِن قبل.
‘سمعتُ أنها جبانةُ لا ترفعُ نظرها عن الأرض…’
لكنها كانت مُختلفةٌ تمامًا عما قيل عنها.
رغم أنْ مظهرها بدا رقيقًا كما تصفهُ الشائعات، إلا أنْ الهالة المُنبعثة منها كانت نابضةً بالحياة بشكلٍ لا يُصدق، تمامًا كزهرةٍ نمت بعد سنواتٍ منٍ الدفن تحت الأرض.
اغتنمت أرتيا لحظة ذهولهِ وتابعت حديثها.
“كنتُ أتساءل عن الأمر العاجل الذي أتى بكَ، فإذا بهِ مُجرد تدخّلٍ وقح لا أكثر. لا أرغبُ في مواجهة شخصٍ فظٍ مثلكَ بعد الآن، لذا، تفضل بالمُغادرة.”
“لَن أفعل.”
“عليكَ أنْ تفعل.”
ارتسمت على شفتي شايلوك ابتسامةٌ مائلة بسبب ردها الذي لَمْ يخضع لهُ قيد أنملة.
“قلتُ لَن أفعل.”
“إذًا، لا خيار أمامي سوى مساعدتكَ على المُغادرة.”
أشارت أرتيا بعينيها إلى بيبي، التي اقتربت مِن شايلوك وأمسكت بكتفهِ.
قال شايلوك بصوتٍ حاد.
“كيف تجرؤين على لمسي؟”
لكن بيبي، بوجهها الخالي مِن التعبيّر، استمرت في سحب شايلوك إلى الخارج.
سرعان ما تحولت ملامحهُ الصارمة إلى دهشة.
‘ما هَذهِ القوة؟!’
بغض النظر عن مدى محاولتهِ التحرر، لَمْ يتمكن مِن إبعاد يد بيبي.
وفي النهاية، تم جرّهُ خارج القصر بشكلٍ مُهين.
بعد مُغادرة شايلوك، اقتربت أرتيا مٍن سيمون، الذي كان لا يزال يرتجف بوجهٍ شاحب.
وضعت يدها برفقٍ على كتفهِ
“هل أنتَ بخير؟”
عندها فقط استعاد سيمون وعيّه، وأومأ برأسهِ سريعًا.
“ن، نعم، أنا بخير.”
ثم نظر إلى أرتيا بوجهٍ كاد أنْ يبكي، وانحنى لها.
“أنا… أنا آسفٌ حقًا. عندما أخبرتُ أخي أنني لَن ألتقي بكِ مُجددًا، غضب بشدةٍ وجاء إلى هُنا.”
“أفهمُ ذَلك.”
“أعتقدُ أنني أحمقٌ كما يقول أخي… لَمْ أستطع حتى منعه، والآن تسببتُ لكِ بكل هَذا الإزعاج…”
بدا كطفلٍ صغيرٍ أكثر مِن كونهِ شابًا بالغًا، مِما جعل الخادمات مِن حولهم يُشيحْن بنظرهن، غيرَ مُرتاحاتٍ لرؤية هَذا المشهد.
لكن أرتيا لَمْ تجدهُ مشهدًا سخيفًا.
بل رأت في سيمون انعكاسًا لماضيها.
تذكرت نفسها حين لَمْ تكُن قادرةً على التعبير عما بداخلها، حين كانت تشعرُ بالعجز والضيق.
أمسكت بيد سيمون وقالت له:
“لقد كنتَ صادقًا معي منذُ البداية وحتى النهاية. عبّرتَ عن مشاعركَ بوضوحٍ وصراحة.”
لَمْ يكُن هُناك أيُّ مشاعرٍ خاصة تجاه رجل لَمْ تلتقهِ سوى ثلاث مرات.
لكنها أرادت أنْ يرى سيمون العالم خارج قوقعته، تمامًا كما أرادت هي يومًا ما أنْ تتحرر.
“أنتَ شخصٌ رائع، ولا يقلُ شأنكَ عن أيِّ أحد.”
كانت كلماتُها بمثابة دعمٍ حقيقي لرجُل لَمْ ينضُج قلبه بقدر ما نما جسده.
“سيدة إيدنبيرغ…”
لَمْ تكُن أرتيا تتخيل أبدًا…
أنْ كلماتها ستشعلُ نارًا في قلب سيمون، الذي كان حتى لحظاتٍ مضت مُتردّدًا وبارد المشاعر.
* * *
عاد الشقيقان مِن عائلة لوشيان إلى منزلهم، واستعاد قصر إيدنبيرغ هدوءه!
لكن… ليومٍ واحدٍ فقط.
“هَذهِ هديةٌ مِن السيد سيمون.”
كانت بيبي تحملُ حقيبةً ومجموعة مجوهرات.
قفزت كاثرين مُتحمسةً وعيناها تلمعان.
“يا إلهي! هَذهِ الحقيبة مِن صُنع لوي ڤيران! وهَذهِ مجموعةٌ مِن الياقوت الطبيعي مِن أويلا! كلها أشياء فاخرة مِن الدرجة الأولى!”
لكن على عكس حماس كاثرين، بقيت نظراتُ أرتيا باردة.
منذُ اليوم التالي للفوضى التي أحدثها شايلوك، بدأ سيمون بإرسال هدايا يوميًا.
“أرسلها إليّكِ لأنكِ كنتِ في بالي، يا سيدة إيدنبيرغ.”
كان يُرفقها برسائلٍ خجولةٍ كهَذهِ.
كانت نواياهُ واضحةً جدًا… مُغازلة امرأةٍ نالت إعجابه.
‘كل ما فعلتُه هو طرد لوشيان الشرير وتشجيعُ لوشيان المُحبط، فأيُّ جزءٍ تحديدًا جعلهُ يتعلقُ بي بهَذا الشكل؟!’
تنهدت أرتيا وقالت لبيبي:
“أعيدي كل هَذهِ الأشياء. ولا تدخلي إلى القصر أيَّ شيءٍ آخر يُرسله السيد سيمون مِن الآن فصاعدًا.”
قفزت كاثرين غاضبةً وهي لا تزال تُلاعب الحقيبة ومجموعة الياقوت بسعادة.
“هل ستُعيدينها مُجددًا؟!”
“نعم.”
“إرجاع الهدايا تصرفٌ غيرُ لائق!”
“بل إنْ إرسال هدايا باهظةً دوّن مُراعاة مشاعر الطرف الآخر هو التصرف غيرُ اللائق. لا أريدُ شيئًا مِن السيد سيمون.”
“لو كانت أشياءً رخيصة، لفهمتُ رفضكِ! لكن كلها هدايا مِن أفخم الأنواع!”
“ولهَذا السبب بالذات لا أريدها.”
“أنتِ حقًا…”
عضت كاثرين شفتيها وقالت بحدةٍ.
“أنتِ بالكاد تستطيعين تحمّل نفقاتكِ الآن، أليس كذَلك؟ مِن المُستحيل أنْ تحلُمي بمثل هَذهِ الحقيبة في وضعكِ الحالي! فقط خذيها!”
“حتى لو أصبحتُ مُفلسةً تمامًا، فَلَن أقبل بهَذهِ الأشياء.”
“إذًا، أعطيني إياها! سأستفيدُ منها على الأقل!”
لَمْ تُجبها أرتيا على هَذا الكلام العبثي، بل نظرت إلى بيبي، التي فهمت الإشارة فورًا واقتربت مِن كاثرين.
عانقت كاثرين الحقيبة وصندوق المجوهرات بقوةٍ، وكأنها تُحاول حمايتهما بحياتها.
لكنها لَمْ تكُن تملك أيَّ فرصةٍ أمام بيبي، التي كانت أقوى مِن دبٍّ رغم مظهرها كخادمةٍ نبيلة.
“عذرًا، سيدتي.”
أخذت بيبي الحقيبة والمجوهرات بسهولةٍ كما لو كانت تسحبُ شيئًا مِن يد طفلٍ نائم.
“أنتِ…!”
تألقت عينا كاثرين بغضبٍ وأظهرت هيبتُها كدوقة.
لكن بيبي لَمْ تُظهر أيَّ خوفٍ أو تردد، خلافًا للخادمات الأخريات اللواتي كُنّ ينحنين فور ملاقاة نظر كاثرين. بل نظرت مُباشرةً إلى أرتيا وسألتها:
“سأعيدُها عبرَ أحد الخدم بكل احترام.”
كانت أرتيا على وشك الإيماء بالموافقة، لكنها غيرت رأيّها.
لقد أعادت الهدايا بالفعل عدة مراتٍ، وأوضحت مرارًا أنها لا تُريد شيئًا منه. لكن سيمون استمر في تجاهل رغبتها.
‘أنا أكرهُ التهاون في مثل هَذهِ الأمور. يجبُ أنْ أضع حدًا لهَذا الأمر بنفسي.’
“سأعيدها بنفسي.”
توجهت أرتيا إلى قصر البارون لوشيان.
لكن لسوء الحظ، كان المطر يهطُل بغزارةٍ.
تحركت بحذرٍ لتجنُب تبلل أطراف فستانها، ثم دخلت القصر.
كما هو متوقع مِن عائلة بنت ثروتها مِن الأعمال المالية، كان القصر فخمًا للغاية.
كل شيء فيهِ كان يلمعُ، مِن الأعمدة إلى السقف، وحتى الزخارف في الممرات.
‘لكن الأمر مُبالغ فيهِ إلى حدٍّ لا يجعلهُ يبدو جميلًا، بل مجرد ترفٍ مًفرط.’
تذكرت السمعة التي تحيط بهَذهِ العائلة…
“عائلةٌ اختارت المال على حساب الشرف.”
عندما دخلت إلى غرفة الاستقبال، فوجئت بالمشهد الذي رأته.
كان سيمون واقفًا هُناك، يرتدي ملابس مُطرزةً بخيوط الذهب، مع بروشٍ ضخم مِن الألماس بحجم قبضة اليد مُثبت على صدره. كان يحملُ باقةً ضخمةً مِن الورود.
احمرّ وجههُ وقال بحماس:
“مرحبًا بكِ، يا سيدة إيدنبيرغ. لا يُمكنكِ تصور مدى سعادتي عندما علمتُ أنكِ ستأتين إلى هُنا!”
‘هَذا واضح.’
بدا وكأنهُ طاووسٌ قضى الصباح كُله يتزين بانتظارها.
مدّ الطاووس باقة الزهور نحو أرتيا.
“بما أنكِ قادمة، فكرتُ مليًا في نوع الهدية التي سأقدمها لكِ. كنتُ أودّ أنْ أهديكِ كُل زهور العاصمة، لكن بما أنْ ذَلك مُستحيل، اخترتُ لكِ الزهرة الأكثر رواجًا هَذهِ الأيام.”
كانت زهور التوليب.
أصبحت التوليب هوسًا لدى النبلاء مؤخرًا، وباتت أسعارها مُرتفعةً إلى حدٍ أنْ سعر الزهرة الواحدة يُعادل قيراطًا مِن الألماس.
بما أنْ الباقة كانت تحوي أكثر مِن 100 زهرة، فقد كان ثمنُها مهولًا.
حاولت أرتيا إخفاء انزعاجها، وهزّت رأسها قائلة:
“أنا آسفة، يا سيد سيمون. لا يُمكنني قبولها.”
“……!”
“ولَن أقبل أيَّ شيءٍ آخر غيرَ الزهور أيضًا. جئتُ إلى هُنا فقط لأخبركَ بذَلك.”
رغم أنْ كلماتها كانت مُهذبة، إلا أنها كانت حاسمة.
بدت الصدمة على وجه سيمون، وظلّ مُتجمّدًا للحظاتٍ قبل أنْ يتمكن مِن النطق مجددًا.
“هل… هل أنا لا أعجبكِ؟”
“لا.”
“إذًا، هل يُعجبكِ شخصٌ آخر؟”
“لا، لا أشعرُ بأيِّ شيءٍ تجاهكَ، يا سيد سيمون.”
“……!”
اتسعت عيناهُ كأنه فقد عالمهُ بأكمله.
لكنهُ لِمْ يُخفض رأسهُ مُستسلمًا كما فعل مِن قبل.
بل نظر إلى أرتيا بعينين مليئتين بالعزيمة، وقال بصوتٍ حازم:
“أنا مُعجبٌ بكِ، يا سيدة إيدنبرغ… لا، بل أحبُكِ.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة