34
الفصل 34 : أسوأ خاطِب ⁸
عندما لَمْ تسمع أيَّ إجابةٍ، سألت أرتيا مرةً أخرى.
“عذرًا، هل رُبما أغمي عليكَ؟”
كان صوتها مُنخفضًا، لَمْ تستطع الاقتراب أكثر وهي تتحدث.
‘بما أنني لا أرى وجههُ، يُمكنني التحدث جيدًا.’
رفع كيليان زاوية شفتيهِ قليلًا وفتحَ فمه.
“لازلتُ واعيًّا.”
كان صوتهُ مُنخفضًا وأجشّ على غيرِ العادة. لكنهُ بدا أكثر ليونةً بكثيرٍ مِن المُعتاد، لدرجة أنهُ لَمْ يكًن يبدو وكأنه كيليان.
وكما هو متوقع، لَمْ تلاحظ أرتيا ذَلك. لو كانت قد أدركت، لكانت هربت على الفور، لكنها لَمْ تفعل وقالت جملةً أخرى.
“هَذا مُطمئن. لديِّ ظرفٌ يمنعني مِن مساعدتكَ.”
كانت هَذهِ هي المرة الأولى التي يتحدثُ فيها كيليان مع أرتيا. عندما كان على هيئتهِ الأصلية، كانت تهربُ بِمُجرد أنْ تلتقي أعينهما، وعندما كان على هيئة القط الأسود، كانت هي الوحيدة التي تتحدث دوّن توقف.
‘ليس سيئًا.’
لَمْ يكُن يشعرُ بالانزعاج أثناء مُحادثتهِ مع شخصٍ آخر منذُ فترةٍ طويلة.
في تلكَ اللحظة، امتدت يدٌ مِن بين الشجيرات. كانت يدها صغيرةً لدرجة أنْ المرء قد يتساءل إنْ كانت في نفس عمر كيليان، وكانت تُمسك بمنديلٍ أبيض.
“استخدمه إنْ احتجت إليّه.”
على عكس صوتها القوي، كانت يُدها التي تُمسك بالمنديل ترتجف برفق.
وكأنها استجمعت كل شجاعتها.
حدّق كيليان بالمنديل قبل أنْ يمسكه. لكن، رغم حرصهِ، لامست أطراف أصابعهِ يدها قليلًا.
“آه!”
صرخت أرتيا وسحبت يدها بسرعةٍ وكأنها لمست نارًا.
تحدثت بسرعةٍ مُضاعفة مقارنةً بالسابق.
“آسفة! أنا جبانةٌ جدًّا…”
بدلًا مِن الإجابة، نظر كيليان إلى أطراف أصابعهِ التي لامست يدها.
كان ذَلك للحظة فقط، لكنهُ شعر بمدى نعومتها المُدهشة.
ثم سمع صوت أرتيا يُتابع حديثه.
“لا داعي لأن تُعيد المنديل، استخدمه كما تشاء. سأذهبُ الآن.”
سمع صوت خطواتها تبتعد، ورائحتُها تلاشت أيضًا.
بعد أنْ اختفت تمامًا، نظر كيليان إلى المنديل.
كاد يمسحُ بهِ فمه، لكنهُ توقف.
كانت تفوحُ مِن القماش الأبيض رائحةُ أرتيا فون إيدنبيرغ.
رائحةُ زهرة الكرز الخفيفة.
وفي النهاية، لَمْ يستخدم كيليان المنديل، بل وضعهُ في جيبه.
بعد ذَلك، عاد كيليان إلى قاعة الحفل.
كان يبدو واثقًا إلى درجة أنْ أحدًا لَمْ يُلحظ أنه كان يُعاني قبل قليل.
تحولت أنظار جميع الحاضرين في القاعة الواسعة نحوه. كانت النساء، اللواتي تزينّ ببذخ بمناسبة ظهورهنَ الأول في المجتمع، يحدّقنَ بهِ بشغفٍ شديد.
لكن كيليان لَمْ يلقِ نظرةً على أيِّ واحدةٍ منهن، بل بحث عن شخصٍ مُعين.
ووجده فورًا.
أرتيا فون إيدنبيرغ، مُختبئة خلف أحد الأعمدة في الزاوية.
كانت تخفضُ رأسها بوجهٍ متوترٍ للغاية، مرتديةً فستانًا ورديًا فاتحًا.
كان الفستان المصنوع مِن طبقاتٍ عديدةٍ مِن القماش الرقيق يبدو وكأنهُ مصنوع مِن زهور الكرز.
لَمْ يستطع كيليان أنْ يُبعد نظرهُ عنها.
شعر بانقباضٍ خفيف في صدرهِ حيثُ وضع المنديل الأبيض الذي تلقاهُ منها.
‘هل يجب أنْ أطلب منها رقصة؟’
كانت هَذهِ أول مرةٍ تراودهُ هَذهِ الفكرة.
وفي تلكَ اللحظة، التقت عيناهُ بعيني أرتيا.
رغم المسافة البعيدة بينهما، شهقت أرتيا بصوتٍ مسموع قبل أنْ تخفض رأسها بسرعة.
جسدها، المُغطى بالفستان الوردي، بدأ يرتجفُ بشدة.
وكأنها صادفت وحشًا.
“…..”
لَمْ يكُن كيليان يريد أنْ تفقد أرتيا وعيّها في حفل ظهورها الأول في المجتمع.
كما أراد أنْ يكون هَذا اليوم ذكرى جيدةً لها، كما كان كذَلك بالنسبة له.
لذا، حوّل نظرهُ بعيدًا ولَمْ ينظر نحوها مًجددًا.
في وقتٍ لاحق، عندما عاد كيليان إلى هيئتهِ الأصلية مِن القط الأسود، تمتم بصوتٍ خافت.
“لقد كانت جميلةً… جدًا.”
كان هَذا ردّه المتأخر، الذي لَمْ يتمكن مِن قولهِ أمامها.
* * *
مقهى زيوس
جلست أرتيا مقابل سيمون.
كان اليوم هو اليوم الأخير الذي قررت فيه لقائه.
كانت تنوي إنهاء الأمر كما فعلت في المرتين السابقتين، بعد تبادل حديثٍ قصيرٍ معه، ولكن سيمون قال شيئًا غيرَ متوقع.
“سيدة إيدنبيرغ، هل يُمكننا أنْ نلتقي مرةً أخرى؟”
“ماذا؟”
“ل، لستُ أقصد أيَّ نيةٍ غيرَ لائقة. فقط، أستمتعً كثيرًا بالحديث معكِ. إذا كنتِ تشعرين بالمثل، فَلماذا لا نلتقي بضع مراتٍ أخرى؟”
“…….”
لَمْ تكُن أرتيا تكرهُ سيمون.
لَمْ يكُن مُناسبًا كزوج، لكنها فكرت أنه رُبما يُمكن أنْ تظل علاقتُهما على مستوى المعرفة.
لكنها أدركت في تلكَ اللحظة.
‘لا يُمكنني البقاء معهُ في علاقةٍ غامضةٍ هَكذا.’
لأنهُ يرى فيها امرأة.
نظرت أرتيا إلى سيمون، الذي كانت عيناهُ مليئتين بالتوقعات، وقالت:
“أقدّر كلماتكَ، ولكن كما اتفقنا في البداية، سيكون اليوم هو آخر لقاءٍ لنا.”
“……!”
“لقد كان وقتًا مُمتعًا، وأتمنى لكَ أنْ تجد شريكًا مُناسبًا.”
بدا سيمون وكأنهُ على وشك البكاء، لكنهُ نهض بسرعةٍ وانحنى.
“ن، نعم. لنفعل ذَلك. لقد استمتعتُ أيضًا.”
كانت تحيتُه غيرَ متقنةٍ على الإطلاق بالنسبة لرجل مِن النبلاء، لكن أرتيا لَمْ تسخر منه، بل انحنت لهُ برشاقةٍ.
وهَكذا، انتهى اللقاء مع خاطبها الخامس!
أو هَكذا اعتقدت…
بعد بضعة أيامٍ، وصل زائرٌ غيرُ متوقعٍ.
“البارون لوشيان قد أتى لرؤيتكِ.”
شايلوك فون لوشيان.
سيد الأسرة في عائلة بارون لوشيان، والأخ الأكبر لسيمون.
“يقول إنهُ بحاجةٍ لرؤيتكِ على وجه السرعة.”
كان مِن قواعد الأدب طلبُ الإذن مُسبقًا قبل زيارة أحدهم.
لكن أرتيا لَمْ تكُن قريبةً مِن البارون لوشيان لدرجة أنْ يتجاهل هَذا التقليد.
‘بل لَمْ أحيّه بشكلٍ صحيح حتى الآن.’
تجعد حاجباها بسبب وقاحتهِ الواضحة.
لاحظت بيبي، خادمتُها، ملامحها وسألت:
“هل تُريدين أنْ أخبرهُ أنْ يعود بعد أنْ يطلب الإذن رسميًا؟”
“……لا، سأسمعُ ما لديهِ أولًا.”
إنْ كان قد أتى على عجل، فقد يكون هُناك أمرٌ مُهم كما يقول.
وضعت أرتيا كاردينًا فوق فستانها الداخلي وخرجت.
كان هُناك رجلٌ يرتدي بذلةً سوداء واقفًا عند المدخل.
شعرهُ مصففٌ بإحكام دوّن خصلاتٍ مُتناثرة، وعيناهُ الحادة تلمعان خلف نظاراته.
كان مظهرهُ صارمًا تمامًا كما يُشاع عنه كرجلٍ بارد لا يهتمُ سوى بالمال.
‘لا يُشبه سيمون على الإطلاق.’
لَمْ يكُن مُجرد اختلاف، بل كانا نقيضين تمامًا، حتى أنْ مِن الصعب تصديق أنهما شقيقان مِن نفس الأبوين.
حين التقت أعينهما، قال شايلوك بصوتٍ حاد:
“سيدة إيدنبيرغ، لقد التقيتِ بأخي ثلاث مراتٍ، فأثرتِ مشاعرهُ بعُمق، والآن ترفضينهُ بهَذهِ البساطة؟ هل كنتِ تتلاعبين به؟”
عندها فقط أدركت أرتيا سبب قدومه.
‘إذًا، أتى ليعترض على قراري بعدم لقاء سيمون مًجددًا؟’
لَمْ تُصدق الأمر.
كانت تعرف أنْ سيمون أخبرها أنْ أخاه يتدخل في شؤونهِ، لكنها لِمْ تتوقع أنْ يكون الأمر بهَذا الحد.
بينما كانت تُفكر في كيفية التعامل مع هَذا الأخ المُفرط في الحماية، ظهر ضيفٌ غيرُ مدعوٍ آخر.
“أ، أخي!”
اندفع سيمون نحوهم بوجهٍ شاحب، ووقف أمام شايلوك.
“م، ماذا تفعل هُنا؟”
“ماذا أفعل؟ بما أنكَ أحمقٌ لا تستطيع التعبير عن رغباتكَ بوضوح، أتيتُ نيابةً عنك.”
نظر شايلوك إلى سيمون بعينين قاسيتين وأكمل حديثُه:
“كم مرةً أخبرتُكَ؟ إذا أردت شيئًا، فعليكَ أنْ تحرص على الحصول عليهِ. لكنكَ مرةً أخرى تتصرفُ كأحمق. أيًّ رجلٍ يهرب بِمُجرد أنْ يرى امرأةً تتدللُ قليلاً؟”
“أنا… أنا فقط…”
كان سيمون قد ركض إلى هُنا ليوقف أخاه، لكنهُ لَمْ يستطع قول أيِّ شيء.
كان خائفًا للغاية.
بدأت أنفاسُه تتسارع.
شعر وكأنهُ سيفقد وعيّه في أيِّ لحظة.
عندها، صدح صوتٌ نقي في أذنه.
“كفى، أيُها البارون لوشيان.”
وجد أرتيا تقفُ أمامه، وكأنها تحميه.
نظر إليها شايلوك مِن أعلى، وقال بصوتٍ بارد:
“لا تتدخلي في أمورٍ العائلات الأخرى.”
كانت عيناهُ الحادتان تُشبهان عينا الأفاعي، لكن أرتيا لَمْ تتراجع، بل أجابتهُ بثبات.
“لستُ أنا مَن لا يجبُ أنْ يتدخل، بل أنتَ.”
“ماذا…؟”
“أنا وسيمون التقينا ثلاث مرات لمعرفة بعضنا البعض، وقررنا أننا لا نريدُ تطوير علاقتنا أكثر. لذا، توقف عن التدخل في الأمر. هَذهِ مسألة تخصني وتخصً سيمون فقط.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة