32
الفصل 32 : أسوأ خاطِب ⁶
رمش نوكترن بعينيه كثيرًا.
“هل حاول سيمون فون لوشيان الانقلاب؟”
“لا.”
“إذن، لماذا أحضرت هَذا الرجل إلى القصر…؟”
لَمْ يكُن كيليان مِن النوع الذي يعتني بِمَن يسقطُ بسببهِ. بل كان غالبًا ما يسحقُهم ويمضي قدمًا.
نظرَ كيليان إلى نوكترن المُرتبك وتحدث.
“ذَلك الرجل…”
ذَلك الرجل؟
ماذا عنه؟!
حدّق نوكترن بفم كيليان دوّن أنْ يرمش، لكن شفتاهُ المثالية أطبقتا بإحكامٍ.
بعد فترةٍ طويلة، تحدث كيليان بصوتٍ مُنخفض.
“اطردُه. لا تدعُه يكون مصدر إزعاجٍ لعينيّ.”
كانت نبرتُه توحي وكأنهُ يأمر بالتخلص مِن امتعةٍ مزعجة.
إذا كان الأمر كذَلك، فلماذا أحضرتهُ منذُ البداية، يا صاحب السمو؟
لكن إنْ استمر النقاش أكثر مِن اللازم، فقد يُصدر أمرٌ بالتخلص مِن سيمون البريء.
ولكي لا يحدُث مثل هَذا الأمر، أومأ نوكترن برأسهِ بسرعة.
“أمرك.”
بعد مُغادرة نوكترن الغرفة، بقي كيليان وحيدًا وهو ينظرُ إلى سماء الليل.
قبل بضع ساعاتٍ، بعد أنْ أنهى كيليان عملهُ لليوم، تحوّل إلى قطٍ أسود للمرة الأولى منذُ مدة.
لأنني أشعرُ بالملل.
وهَكذا، توجه بشكلٍ طبيعي نحو قصر إيدنبيرغ.
اليوم، لَن ألعب معها حتى لو لوّحت بذَلك الشيء الغريب أمامي. سأمزقُه بِمخالبي وأحطمهُ بالكامل.
… هل ستبكي حينها؟
لا أريدُ ذَلك.
قطّب القط الأسود جبينهُ وقفز إلى حافة النافذة.
لكن الغرفة التي كانت خلف النافذة كانت فارغةً تمامًا.
“……!”
عندما فكر في الأمر، كان هَذا أمرًا طبيعيًا.
فَلَمْ تعُد أرتيا محبوسةً في غرفتها كما في السابق.
ومع ذَلك، شعر كيليان بالصدمة لعدم رؤيتها هًناك.
عندها، سمع أصوات الخادمات في الممر خارج الغرفة.
“لقد رفضت سيدتنا جميع الخُطّاب، لكنها بدت معجبةً بالسيد الذي جاء اليوم، أليس كذَلك؟”
“طبعًا! وإلا لما قابلتهُ مرتين، بل حتى خرجت في موعدٍ معه.”
“آه! أتمنى أنْ تسير الأمور بينهما بشكلٍ جيد.”
وفي تلكَ اللحظة، فُتح الباب.
“يا إلهي!”
عندما رأت إحدى الخادمات القط الأسود واقفًا عند النافذة، صرخت بفزع.
لكن القط اختفى وكأنهُ لَمْ يكُن هُناك منذُ البداية.
ركض القط الأسود، مُتتبعًا رائحة خفيفة لأزهار الكرز.
بالرغم مِن تطور حاسة الشم لديهِ بعد تحوله إلى قط، إلا أنْ المدينة كانت مليئةً بالبشر.
ومع ذَلك، تمكن مِن العثور عليها بوضوح.
أرتيا فون إيدنبيرغ.
سرعان ما وصل القط الأسود إلى مبنى ضخم لمقهى راقٍ.
لَمْ يكُن كيليان يزور أماكن كهَذهِ عادةً، لكنهُ كان يعرفها جيدًا.
أماكن مُناسبةً تمامًا لإغراء النساء.
بِمُجرد أنْ خطرت لهُ هَذهِ الفكرة، ارتفع ذيلُه الطويل في انزعاج.
وبعد لحظاتٍ، عاد إلى شكلهُ البشري ودخل المبنى.
في أحد الزوايا، كانت المرأة التي كان يبحثُ عنها جالسة.
برفقة رجُلٍ غامض، أشبهُ بكومة غبارٍ غيرِ واضحةٍ المعالم.
تذكر كيليان ذَلك المشهد وهمس بانزعاج.
“… ذَلك الرجُل تجرأ على الجلوس مع أرتيا فون إيدنبيرغ.”
في اليوم التالي، وصل خادم مِن عائلة لوشيان إلى أرتيا.
“بعد تلقيهِ العلاج في القصر الإمبراطوري، عاد السيد سيمون إلى المنزل بأمان. وقد طلب مني إبلاغكِ بأنهُ يشعرُ بالخجل والأسف لظهورهِ بتلكَ الحالة.”
هفف.
تنهدت أرتيا براحةٍ وكتبت رسالةً قصيرة، مرفقةً بهدية، وأعطتها للخادم.
“لستُ مِن النوع الذي يرى في فقدان الوعيّ ضعفًا، لذا لا تقلق. مِن الجيد أنكَ بخير.
أرسلتُ لكَ بعض الشاي المُهدئ، اشربهُ واسترح جيدًا.”
أكثر مِن أيِّ شيء، شعرت أرتيا بالذنب تجاه سيمون.
لَمْ يكُن الأمر مقصودًا، لكن كيليان، الذي تسبب في إغمائهِ، كان قد دخل في حياتها بسببها.
وبغض النظر عن ذَلك، كان مِن الطبيعي أنْ تقلق على شخصٍ فقد وعيّه أثناء وجودهِ معها.
حتى لو لَمْ يكُن شخصًا مُميزًا بالنسبة لها.
لكن عندما قرأ سيمون رسالة أرتيا، انهمرت دموعهُ.
“رغم أنني كنتُ في حالةٍ يُرثى لها، إلا أنها عاملتني بلطفٍ شديد…”
في تلكَ اللحظة، لَمْ تكُن أرتيا تتخيل أبدًا أنْ سيمون قد تأثر تأثرًا بالغًا، بل كانت تجلسُ مقابل كاثرين.
وكالعادة، بدأت كاثرين حصتها اليومية مِن التوبيخ.
“هل أنتِ عجوزٌ على مشارف الموت؟ أم أرملةٌ فقدت زوجها؟ أم أنكِ نبيلةٌ مُفلسة غرقت في الديون؟ أيُّ امرأةٍ نبيلة ترتدي فستانًا بهَذهِ البساطة، خاليًا تمامًا مِن الزينة؟”
كان انتقادُها لاذعًا، لكن بدلاً مِن أنْ تشعر أرتيا بالإحراج، ارتسمت ابتسامةٌ على شفتيها.
“انتِ تقولين هَذا مجددًا يا أمي، أنني قد ارتديتُ ما ينُاسبني تمامًا. لا أرغبُ في أنْ أبدو جذابةً للرجال على أيِّ حال.”
وضعت كاثرين يدها على جبهتها وكأنها تشعرُ بالصداع.
عادةً ما كانت المُحادثات بينهما تنتهي عند هَذا الحد، لكن كاثرين لَمْ تكُن تنوي ترك الأمور تسير بهَذهِ الطريقة اليوم.
“حسنًا، لنفترض أنْ هَذا مقبول أمامٌ الرجال. فقد يكون هُناك مَن يُفضل المظهر البسيط وكأنكِ ترتدين زي راهبة. لكن هل ستذهبين إلى قاعة الحفلات بفستانٍ كهَذا أيضًا؟ سيسخرون منكِ ويقولون إنْ متسولةً قد حضرت!”
لَمْ تحضُر أرتيا أيَّ حفلةٍ منذُ وقتٍ طويل، حتى بعد طلاقها.
كانت تتلقى الكثير مِن الدعوات، لكنها لَمْ تشعُر بالحاجة لحضور أيٍّ منها.
لكن…
‘أنا دوقة، وقد أضطرُ إلى حضور حفلةٍ بشكلٍ مُفاجئ.’
كما قالت كاثرين، الفساتين التي تملكها الآن قد تكون سببًا في إحراجها. وبينما كانت تُفكر في أنْ امتلاك فستان جديد وجيد قد يكون أمرًا مُفيدًا.
“لنخرُج فورًا ونطلب فستانًا جديدًا.”
لكن أرتيا هزّت رأسها.
“ليس لديّ مال.”
لَمْ تكُن تقول ذَلك مِن باب المجاملة، بل إنها لَمْ تكُن تملك المال حقًا.
فالسلطات التي أخذها الشيوخ منها تضمنت أيضًا التحكم في أموال العائلة.
وبحجة القلق مِن تبذيرها، خفضوا المبلغ الذي تستطيع استخدامه إلى الحد الأدنى.
كان عليها أنْ تعيش بمبلغٍ لا يُشكل حتى ربع ما يمتلكهُ النبلاء العاديون.
كان بإمكانها أنْ تحصل على خدمة الخدم، وتأكل ما تشتهي، وتقرأ ما تريد، لكن شراء أشياء باهظة الثمن مثل الفساتين كان أمرًا مُستحيلًا.
عندها تمتمت كاثرين بغضب:
“أولئك العجائز البغيضون…”
“سأشتريهِ لكِ.”
اتسعت عينا أرتيا مِن الدهشة.
فَهي تعرفُ أنْ وضع كاثرين المالي لَمْ يكُن مُختلفًا كثيرًا عن وضعها.
بعد وفاة بينيديكت، لَمْ تحظَ كاثرين، التي لَمْ تكُن الزوجة الأولى ولَمْ تُنجب أطفالًا، بمكانةٍ مُحترمة داخل العائلة.
رغم أنها كانت تُلقب رسميًا بسيدة العائلة، إلا أنْ الجميع عاملوها كعجوزٍ مُهملة.
سواء كان ذَلك لويد أو الشيوخ، كان سلوكهم مُتشابهًا. كانوا يرسلون لها مبلغًا زهيدًا مِن المال، ثم يلومونها على إنفاقهِ.
ضغطت كاثرين بأصابعها على جبينها وقالت.
“التوتر بسبب المال جعل التجاعيد تظهرُ على وجهي.”
لكن بشرتُها ناعمةٌ تمامًا…
فكرت أرتيا في ذَلك، لكن كاثرين لَمْ تمنحها فرصةً للرد، إذ قالت.
“لهَذا السبب أخبركِ دائمًا أنْ تجدي زوجًا ثريًا. الحُب قد يزول، وقد يموت الزوج، لكن المال سيبقى.”
لَمْ تكُن أرتيا ساذجةً لدرجة أنْ تصدمها هَذهِ الكلمات.
“ليس العُنصر الأهم، لكنهُ جزءٌ يجبُ وضعه في الاعتبار.”
اتسعت عينا كاثرين قليلًا، ثم ابتسمت بسخرية.
“كنتُ أظُن أنْ رأسكِ مليءٌ بالأوهام، لكن مِن الجيد أنكِ تُفكرين بواقعية.”
أمسكت بيد أرتيا وقالت:
“على أيِّ حال، فقط تعالي معي. يُمكنني على الأقل شراء فستانٍ واحدٍ لكِ.”
لكن المُفاجأة كانت أنْ كاثرين قد أخذت أرتيا إلى متجرٍ يبيعُ السلع المُستعملة.
بالنسبة للسيدات النبيلات، كانت سمعتهنَ أهمُ مِن حياتهنَ، وكان مُجرد معرفة أنْ إحداهنَ زارت متجرًا كهذا أمرًا قد يشوهُ مكانتها.
لكن كاثرين طمأنتها قائلة:
“لا تقلقي. هَذا المكان يتعاملُ فقط مع النبلاء، وهم يحرصون بشدةٍ على سرية البائعين والمُشترين.”
وكما هو متوقع مِن متجرٍ مُخصصٍ للنبلاء، استقبلهما صاحبهُ بلباقةٍ واحترام.
“يُشرفنا حضوركما. ما التحفة الثمينة التي جئتما للتبرع بها؟”
إذن، بدلاً مِن قول “انتُم هُنا للبيع”، يقولون “تبرع”، كي لا يُحرج الزبائن؟
ابتسمت أرتيا في سرها، مُعترفةً بأن المتجر يُتقن تلبية ذوق السيدات النبيلات.
أعطت خادمةُ كاثرين صندوقًا كبيرًا لصاحب المتجر، وكان بداخلهِ فساتينٌ كانت كاثرين قد ارتدتها سابقًا.
تفحصَ صاحبُ المتجر الملابس بعنايةٍ، ثم قال:
“إنها قطعٌ رائعةٌ بالفعل. إذا تبرعتُم بها، يُمكننا أنْ نُقدم لكم 5 ملايين كتعبيرٍ عن امتناننا.”
كانت كاثرين على وشك الموافقة بأناقة، لكن أرتيا تدخلت قائلة:
“هَذا الفستان قديمٌ بعض الشيء، لكنهُ بتصميمٍ كلاسيكي لا يتأثرُ بالموضة، كما أنهُ بالكاد استُخدم، لذا فَهو في حالةٍ مُمتازة. حتى مع كونهِ مُستعملًا، ألا تعتقد أنْ السعر قليلٌ جدًا؟”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة