31
الفصل 31 : أسوأ خاطِب ⁵
زيوس.
كان أشهرَ مقهى في الإمبراطورية.
ولَمْ يكُن سبب شهرة زيوس مُجرد ديكورهِ الفاخر وطعمُه الفريد فَحسب.
بل كان يعمل بنظام العضوية الصارم، وكانت تكلفتُه باهظةً للغاية.
لدرجة أنْ مُعظم النبلاء كانوا يجدون صعوبةً في تحمل تكاليف الدخول إليّه بسهولة.
‘لهَذا السبب، بعد طلاقي مِن لويد، ألغيتُ عضويتي هُنا على الفور. فقد كان إنفاقًا مُبالغًا فيهِ في ظلّ وضعي المالي الحالي.’
لكن سيمون جلس براحةٍ وكأنهُ في أحد المتاجر العادية المُنتشرة في العاصمة، وطلب كمياتٍ كبيرةً مِن المشروبات والحلويات.
‘لطالما نسيتُ ذَلك بسبب مظهرهِ اليافع، لكنهُ بالفعل واحدٌ مِن أغنى الأشخاص في العاصمة.’
ارتشفت أرتيا الشاي بينما تذكرت مُجددًا ثروة عائلة البارون لوشيان.
ثم احمرّ وجهها الناصع قليلًا.
‘واو…’
حتى لو اعتبرهُ البعض قمة الترف والإسراف، فقد كان زيوس يظل زيوس.
فقد كان طعمُ الشاي المصنوع مِن أوراق يُقال إنها أثمن مِن الذهب رائعًا بحق.
ابتسم سيمون مثل طفلٍ وهو يُراقب أرتيا التي رفعت فنجان الشاي بملامحٍ سعيدة.
“في الحقيقة، أوصاني شقيقي أنْ آتي إلى زيوس برفقة سيدة إدينبرغ، ولهَذا جئتُ إلى هُنا.”
“هَكذا إذن.”
“في البداية لَمْ أكُن مُرتاحًا لفكرة اتباع كلام شقيقي كعادتي، لكن بما أنْ السيدة سعيدة بقدومها، فأعتقدُ أنني أحسنتُ الاختيار.”
ثم أشار إلى الطاولة المُمتلئة بالحلويات وتابع حديثه.
“جربي هَذهِ الكعكة أيضًا، إنها ناعمةٌ ولذيذةٌ جدًا. أما الفيانيه المصنوعة مِن دقيق اللوز فهي رائعةٌ، ولا تنسي الجيلي المليء بالفراولة…”
كان سيمون، بعينيهِ المُتألقتين، أقرب إلى كلبٍ صغير يهزُّ ذيله بسعادةٍ مِن كونه نبيلًا ناضجًا.
ابتسمت أرتيا لا إراديًا، لكن فجأةً خطرت في بالها صورة رجلٍ مُختلف تمامًا.
رجلٌ متغطرسٌ ووحشي، لكنهُ في الوقت ذاتهِ أنيقٌ وجميل كالفهد الأسود…
“الأمير كيليان؟!”
نعم، إنهُ هو.
أومأت أرتيا دوّن وعيّ، ثم استعادت إدراكها بسرعةٍ لتُدرك الموقف.
لَمْ تكُن هي مَن نطقت باسمهِ، بل كان سيمون.
نظرت إليّه، فوجدتهُ يحدق وفمهُ مفتوحًا في اتجاهٍ معين.
وعندما تبعت نظراته، اتسعت عيناها تمامًا كما فعل هو.
الرجُل الذي تذكرتهُ قبل قليل كان قد دخل إلى المقهى.
الأمير كيليان، المُتغطرس، الوحشي، الأنيق، والجميل، كان هُنا.
“هاه…!”
شحُبَ وجهُ سيمون كما لو كان قد شهد ظهور ملك الشياطين نفسه.
ولَمْ يكُن الوحيد الذي أصيب بالذهول.
فقد توقف كل مَن كان داخل المبنى عن الحركة وحدقوا في كيليان.
كأنْ الزمن قد توقف.
مَن كسر هَذا الصمت الخانق كانت امرأة.
وقفت مِن على طاولتها واقتربت مِن كيليان بخطواتٍ سريعة.
“أقدمُ تحياتي لسليل أورفيوس العظيم. أنا إليشيا مِن عائلة الكونت ريناند. هل تذكرُني؟”
ابتسمت المرأة ابتسامةً مُفرطة الحماس وهي تُحيي الأمير بدلال.
لكن كيليان لَمْ ينظر إليّها حتى وهو يفتحُ فمه ليتحدث.
“تحملتُكِ حتى الآن وألقيتِ تحيتكِ، لكن لا تتجاوزي ذَلك الحد.”
“إلا إذا كنتِ مُصممةً على إثارة غضبي ودفع الأمور إلى إراقة الدماء.”
رغم كلماتهُ المرعبة، إلا أنْ نظرتهِ بقيت هادئةً ونبرته كسولةً وأنيقة.
ومع ذَلك، كانت كافيةً لإثارة خوفٍ بدائي في القلوب.
تجمدت المرأة التي اقتربت منهُ بحماس، وبدت شاحبةً الوجه وهي ترتجف.
مر كيليان بجانبها دوّن اكتراث، بينما كان كل مَن في المقهى يُفكرون في الأمر ذاته.
‘هَذا الأمير مُذهل الجمال ونبيل، لكنهُ في الوقت ذاتهِ مرعبٌ للغاية… مِن الأفضل ألا يقترب مني أبدًا.’
كانت أرتيا مِن بين أولئكَ الذين تمنوا ذَلك بشدة.
فقد خفضت رأسها سريعًا، مُتجنبةً لفت انتباههِ.
‘حتى لو كان شخصًا يُهدد امرأة بالموت لمُجرد أنها ألقت عليهِ التحية، فَهو على الأرجح لَن يلاحظني…’
لكن الواقع كان قاسيًا.
فقد سمعت صوتًا مُنخفضًا يُناديها مِن فوق رأسها مُباشرةً.
“أرتيا فون إدينبيرغ.”
قفزّ قلبُها مِن الخوف، لكنها لَمْ تجد أيَّ مفرٍ بعد أنْ ناداها باسمها.
فرفعت طرف ثوبها برأسٍ مُنخفضٍ وألقت التحية.
“أقدمُ تحياتي لسليل أورفيوس العظيم.”
كانت تحيتُها رسميةً تمامًا مُقارنةً بتلكَ المرأة قبل قليل. لَمْ يكُن فيها أيُّ حماسٍ أو ابتسامةٌ مشرقة.
ومع ذَلك، ارتفع طرفُ شفتي كيليان في ابتسامةٍ بالكاد يُمكن ملاحظتها.
لكنها سرعان ما اختفت.
إذ ما إنْ وقع نظرهُ على سيمون الجالس أمام أرتيا، حتى تجمد وجههُ الجميل ببرود.
ظلّ سيمون مُحدقًا فيهِ بذهولٍ حتى استعاد وعيّهُ فجأةً، فانحنى على عجل.
“أ… أ… أ… أقدمُ ت… ت… ت… ت…حياتي لس… س… س… سليل أورفيوس العظيم.”
تمكن بالكاد مِن نُطق كلماتهِ، لكنهُ كان مرعوبًا.
أكثر حتى مِن خوفهِ مِن شقيقه، أو رًبما أكثر بكثيرٍ.
نظرَ كيليان إلى سيمون المُرتجف تحتهُ، ثم فتحَ فمهُ وسأل.
“هل أنتَ خطيب أرتيا فون إدينبيرغ؟”
كان سؤالًا قد يبدو طبيعيًا عند رؤية شابٍ وفتاة يجلسان معًا، لكنهُ كان يحملُ بعض الوقاحة.
ومع ذَلك، شعر سيمون وكأنهُ يُستجوب بتهمة الخيانة العظمى.
كانت الهالة المُنبعثة مِن عيني كيليان الذهبيتين حادةً لدرجةٍ لا تُحتمل.
‘إذا لَمْ أجب بشكلٍ صحيح، فَسأنال عقابًا رهيبًا.’
كان عليهِ أنْ يُجيب فورًا…
لكن جسدُه المُتوتر لَمْ يتحمل الخوف الشديد، وفي النهاية، سقط على الأرض مصحوبًا بصوتٍ ارتطام.
“سيمون!”
حاولت أرتيا مد يدها نحوه، لكن كيليان وقف أمامها ليمنعها.
تحدثت بسرعةٍ وقلق:
“سيمون هو مرافقٌ لي، سأصطحبهُ إلى طبيب.”
“لا داعي لذَلك.”
‘كيف لا؟!’
صرخت في داخلها، لكن كليان قال ببرود.
“سأتولى علاجهُ بنفسي.”
“……؟!”
عجزت أرتيا عن إخفاء دهشتها، وارتسمت على وجهها ملامحٌ غيرُ لائقة، وكأنها شهدت مشهدًا غريبًا للغاية.
“لماذا سيفعل الأمير ذَلك؟”
كان سؤالها غيرَ مُهذبٍ للغاية، لكنها لَمْ تُدرك حتى أنها نطقت به.
التقت عيناها بعيني كيليان،
“لأنه بسببي. يجبُ أنْ أتحمل المسؤولية.”
…كان ذَلك منطقيًا.
ولهَذا السبب بالذات، شعرت أرتيا بارتباكٍ أكبر.
‘حين يقول الأمير شيئًا منطقيًا، يُصبح الأمر أكثر إثارةً للريبة!’
لوّح كيليان لأحد الموظفين الذين كانوا يُراقبون الموقف.
“خُذ هَذا الرجل إلى القصر الإمبراطوري.”
“ن… نعم؟!”
قفز الموظف مذعورًا، ثم حمل سيمون على ظهرهِ وخرج مُسرعًا.
في هَذهِ اللحظة، لَمْ يعُد بإمكان أرتيا منعه.
فقد كان اعتراضُها على أوامر الأمير تصرفًا غيرَ لائق… ناهيك عن أنها كانت خائفةً أيضًا.
في النهاية، لَمْ يكُن أمامها سوى أنْ تضُم يديها وتتحدث بتوسل.
“أرجو أنْ تعتني بسيمون جيدًا.”
نظر إليّها كيليان ببرود،ٍ ثم نطق ببرودٍ أكثر.
“هل يُعجبكِ هَذا الرجل إلى هَذهِ الدرجة؟”
“ماذا؟!”
قطبت حاجبيها، غيرَ قادرةٍ على فهم ما يقصدُه.
لكن كيليان لَمْ يكُن ينتظرُ إجابةً على ما يبدو، فقد أدار رأسهُ بعيدًا عنها.
طوال الطريق عائدةً إلى القصر، لَمْ تشعر أرتيا بالراحة أبدًا.
‘وجه الأمير في النهاية لَمْ يكُن يبدو وكأنهُ سيعتني بسيمون جيدًا…’
بل على العكس، بدا وكأنه سيحرصُ على ألا يفتح سيمون عينيهِ أبدًا مُجددًا.
وبينما كانت أرتيا تُفكر بقلقٍ، تحدثت بيبي.
“سيدتي، لقد جاء قط أسود إلى القصر قبل قليل.”
“ماذا؟!”
كانت أرتيا قد أعطت تعليمات لخادماتها بعدم طرد أيِّ قطٍ أسود قد يظهرُ في القصر، فقد كانت تتوقعُ قدوم “نوي” أثناء غيابها.
حدقت ببيبي بعيونٍ مُتألقة وسألتها بحماسٍ.
“أخبريني بالتفصيل!”
“قبل ساعةٍ تقريبًا، رأت إحدى الخادمات قطًا أسود جالسًا خارج نافذة غرفتكِ أثناء تنظيفها. وما إنْ تلاقت أعينهما، حتى اختفى في لمح البصر. لكنها أكدت أنهُ كان قطًا رائع الجمال، تمامًا كما وصفتِه يا سيدتي.”
بِمُجرد سماع ذَلك، ركضت أرتيا إلى غرفتها وفتحت النافذة.
لكن كما توقعت، لَمْ يكًن “نوي” هُناك.
تنهدت بخيبة أملٍ.
“نوي…”
كم كان الأمرُ مؤسفًا أنْ يأتي القطُ بينما كانت في الخارج.
لقد أعدت لهُ الكثير مِن الوجبات الخفيفة والألعاب لتستقبلهُ بها…
” سوف يعود مُجددًا…”
وبهَذهِ السرعة، اختفى قلقُها بشأن سيمون مِن عقلها تمامًا.
في نفس الوقت، كان كيليان واقفًا عند النافذة، يعقد ذراعيهِ على صدرهِ.
اقترب نوكترن منهُ وقال.
“جلالتُكَ، لقد استعاد سيمون فون لوشيان وعيّه.”
بما أنهُ فقد وعيّه مِن الخوف فقط، لَمْ يكُن بحاجةٍ إلى أيِّ علاجٍ حقيقي، لذا استيقظ سريعًا.
لكنهُ، بِمُجرد أنْ أدرك أنهُ في القصر الإمبراطوري، بدا وكأنهُ سيُغمى عليهِ مُجددًا.
“اجعلوهُ يفقدُ وعيّه مجددًا. هَذهِ المرة، إلى الأبد.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة