الفصل 179 : حُبّ أورفيوس ¹⁸
لو لم يكُن هناك طفل، لصرخت بجنون وحطّمت كل ما في الغرفة.
راودها حتى شعورٌ بأن تجرح معصمها.
لكنها لم تستطع فعل ذلك.
لأن طفلها، طفلها الذي يتنفس بصوتٍ خافتٍ بشكلٍ استثنائي، كان نائمًا.
فلم تستطع فيليسيتي أن تُصدر صوتًا، واكتفت بالبكاء وهي تحتضن طفلها.
ومع ذلك، فإن دفء الطفل الخافت ورائحته الباهتة زادت من حزنها أكثر.
وبعد عدّة أيام، تمّت المعاشرة الزوجية.
لا، بل كان ذلك أشبه بتزاوج الحيوانات.
كان الهدف الوحيد هو إنجاب طفلٍ ذكر يحمل الدم الملكي.
وبعد عدّة أسابيع، عندما علمت فيليسيتي بأنها حامل، لم تستطع التوقف عن التقيؤ.
‘أشعر وكأن دودةً دخلت إلى بطني!’
وبعد ولادة الطفل، تعاظمت تلك المشاعر أكثر.
شعرٌ أسود، وعينان ذهبيتان واضحتان.
كلما رأت الطفل الذي يُشبه الإمبراطور تمامًا، كانت مشاعر الاشمئزاز والكراهية تتفجّر بداخلها.
وكلما كبر كيليان، وكلما نال اعتراف الإمبراطور ومديح الناس، ازدادت تلك المشاعر.
وخاصةً عند مقارنته بأرسين، الذي لم يستطع سوى أن ينجو يومًا بعد يوم داخل غرفته.
لذلك، كانت تُريد أن تعطي منصب الإمبراطور لأرسين.
فذلك كان حلم الإمبراطورة العميق منذ زمن طويل.
لكن أرسين قال:
“أُريد أن يُصبح كيليان الإمبراطور، يا أمي.”
لا خيار.
إن كان طفلي العزيز البائس يُريد ذلك، فليس أمام الأم سوى أن تتنازل.
“جلالة الإمبراطور، من الآن فصاعدًا، سأُؤيّد أن يخلف كيليان العرش.”
اتسعت عينا الإمبراطور قليلاً عند سماعه كلام الإمبراطورة.
لكنه لم يسأل عن السبب.
فهو لم يكن مهتماً يوماً بمعرفة أفكار الآخرين.
بل اكتفى بإيماءةٍ متعجرفة.
“قرارٌ حكيم.”
في الحقيقة، لم يكن الإمبراطور قد عيّن كيليان كوليٍّ للعهد حتى الآن، بسبب المعارضة الشرسة من الإمبراطورة، التي استنجدت حتى بموطنها الأصلي.
والآن بعد أن تراجعت الإمبراطورة خطوة، سيُعيَّن كيليان كوليٍّ للعهد، وسيُصبح الإمبراطور التالي بشكلٍ طبيعي.
وكان يكفي أن ينتهي الأمر عند هذا الحد.
لكن الإمبراطورة لم تكن تُريد أن تترك الأمور كذلك.
‘أنا أكرهك كثيرًا’
لن أسمح لك بأن تفعل كل ما تُريد وترحل بهدوء.
وفي اللحظة التي نظرت فيها الإمبراطورة إلى الإمبراطور بعينين مملوءتين بالحقد، أطلق الإمبراطور تأوّها وأمسك صدره.
حينها فتحت الإمبراطورة فمها وتكلّمت.
“لقد كنتُ أُقدّم لك الشاي طوال الثمانية والعشرين سنة الماضية.”
تقديم الشاي للإمبراطور كان من مهام الإمبراطورات المتعاقبات.
وبعد أن استعادت الإمبراطورة صحتها عقب ولادتها لكيليان، بدأت من جديد بتأدية تلك المهمة.
كانت تكتم رغبتها بالتقيؤ وتحافظ على هدوئها بأقصى ما يُمكن.
لأن السبيل الوحيد لحماية أرسين هو أن تُظهر ولاءها للإمبراطور.
…ولكي تضع حدًا لحياته بيدها في يومٍ ما.
“قلبك سيتوقف عن النبض قريبًا، وستنقطع أنفاسك. لن يكون الأمر مؤلمًا.”
كان موتًا رحيمًا لرجلٍ حوّل حياتها إلى جحيمٍ كامل.
استجمع الإمبراطور صوته وقال:
“تسميم الإمبراطور… عقوبته الإعدام…”
تفاجأت الإمبراطورة من كلماته، ثم ابتسمت ابتسامةً مشوّهة.
“إن مُتّ، سيُصبح هذا العالم لي. وولي العهد هو ابني، فمن سيتجرأ على إيذائي؟”
أُووه…
انهار الإمبراطور على الأرض وهو ممسكٌ بصدره، ونظر إلى الإمبراطورة بوجهٍ يتلوّى ألمًا.
والإمبراطورة بدورها نظرت من أعلى إلى آخر لحظةٍ في حياة رجلٍ امتلك سلطة العالم.
ولم تذرف دمعةً واحدة. كان ذلك كبرياءها.
لم تُرِد أن تحزن عليه ولو قليلاً.
***
“في الليلة الماضية، تفاقم مرض الإمبراطور المزمن وفارق الحياة فجأة.”
صُعق الحاضرون ولم يتمكنوا من قول شيء.
تحدث خُدّام الإمبراطور بوجوهٍ مرتبكة.
“صحيحٌ أن جلالته لم يكن بصحةٍ جيدة مؤخرًا، لكنّ موته كان مفاجئًا جدًا. نرجو التحقيق الدقيق في سبب الوفاة.”
تغيّرت نظرة الإمبراطورة.
“ما الأمر؟ أتظنون أن جلالته قد تم اغتياله؟”
تردّد الخدم، لكنهم لم يتراجعوا.
“نعتذر، لكن نعتقد أن ذلك احتمالٌ وارد. فجلالته، بمكانتهِ السامية، كان مهددًا من قِبل كثيرين.”
“كلا، لم يحدث شيءٌ كهذا.”
“ولكن…”
“كنتُ معه لحظة وفاته. شرب الشاي الذي قدّمته له، وفجأة أمسك صدره وهو يتألم. استدعينا الطبيب في الحال، لكنه لم يفتح عينيه مرة أخرى.”
قال الطبيب الملكي بوجهٍ كئيب.
“كما قالت جلالة الإمبراطورة. لقد فحصنا جثمان جلالته بعناية، ولم نجد أي علامةٍ تثير الشك.”
قالتِ الإمبراطورة وهي تُحدِّق في الوزراء بنظرةٍ قاسية.
“إنْ راودَكم الشكُّ في موتِ جلالةِ الإمبراطور، على الرغمِ من شهادتي وشهادةِ الطبيبِ، فتعالَوا متى شئتم. سأُثبِتُ براءتي حتى تقتنعوا تمامًا. لكن، استعدّوا لدفعِ ثمنِ شكوككم المُتسرِّعة.”
كانتِ الملكةُ تَستندُ إلى دولةٍ عظمى تُضاهي الإمبراطورية في قوّتها.
وفوقَ كلِّ شيء، كانت الأمَّ الحقيقيةَ للأميرَينِ أرسين وكيليان، ومهما يكنْ مَن سيعتلي العرشَ منهما، فستُوطِّدُ سُلطتها كـ أمبراطورةٍ أرملة.
لذلك، لم يجرؤ أحدٌ على مخالفةِ رغبتها.
ففي النهاية، كانتْ حياتُهم الشخصية أهمَّ من الولاءِ لشخصٍ ميّت.
تحدث الوزراء بانحناءةٍ واعتذار
“نعتذر، يا جلالةَ الإمبراطورة. لقد أخطأنا بحقِّ من يُفترَضُ أنه أكثرُ النّاسِ حُزنًا في هذه اللحظة. نرجو أنْ تغفري لنا.”
نظرتِ الإمبراطورة إليهم بازدراء، ثم أدارت وجهها عنهم فجأة.
***
في ظلِّ الانقسامِ حولَ أسبابِ وفاةِ الإمبراطورِ المفاجئة، أُقيمتْ مراسمُ الجنازة.
كان من المُفترضِ أنْ تستمرَّ لشهرٍ كامل، لكن الإمبراطورة رأتْ أنَّه لا يُمكنُ تركُ العرشِ شاغرًا كلَّ تلك المدّة، فاختصرتْها إلى أسبوعين.
ورغمَ اعتراضِ الوزراء الشديد، فإنَّ موقفَ الإمبراطورة كان أقوى.
لكنّ الكلمةَ التي أسكتتْ تذمُّر النبلاء كانت.
“ألَا تتمنّون أنْ يعتلي الأميرُ كيليان العرشَ في أقربِ وقت؟”
لقد توقّع الجميعُ أن تُطالبَ الملكةُ بتنصيبِ أرسين إمبراطورًا.
لكنّها أيّدت كيليان!
كان الإمبراطورُ السابقُ لا يُعابُ عليه شيءٌ كبير، لكنّه لم يتميّزْ بشيء، ولم يُحسن رعايةَ حاشيته، فلم يحظَ بولاءٍ حقيقي.
أما كيليان فكان مختلفًا.
شابٌ يَجمعُ بين القوةِ الجسديةِ والكفاءة، صارمٌ لكنّه يُجيدُ مُكافأةَ المواهب، مما أكسبه ولاءَ أتباعه.
وفوقَ ذلك، كانت هناك آمالٌ كبيرةٌ بأنْ يُعيدَ للإمبراطوريةِ قوّتها المُتدهورة.
فرحَ كثيرون بتنصيبه، وحضروا الجنازةَ لهذا السبب.
تقدّمَ كيليان والإمبراطورة في موكبَ الجنازةِ مرتديَينِ السّواد.
همسَ الناسُ حين رأوهما.
“رغمَ برودةِ جلالتِه تجاه عائلته، لا يبدو عليهما الحزنُ على الإطلاق.”
“صحيح. المنظرُ وحده يُرعبُني.”
“أيمكن أن يكونا قد تآمرا على الإمبراطور؟”
“اخفضْ صوتَك! أتريدُ أن يُقطعَ رأسُك؟”
وفي ظلِّ هذه الهمسات، انحنى كيليان نحو قبرِ الإمبراطور وقال:
“ارقدْ بسلام، والدي.”
نطقها دون أيِّ مشاعر.
أما الإمبراطورة، فقد كان في صوتها غضبٌ عارم.
“اذهبْ إلى الجحيم. وتألَّمْ هناك إلى الأبد.”
في تلك اللحظة، كان أرسين يرتجفُ على سريرِ كيليان.
كان يبدو كما لو أنّه يبكي.
لكنَّ وجهه المختبئ تحت شعره الأبيض كان يبتسم.
“منذُ ولادتي، عامَلَني كخطيئةٍ يجبُ محوُها.”
لوْلا الملكةُ، لكان قتلَه منذُ زمن.
فبالنسبةِ لأرسين، لم يكن الإمبراطور والدًا، بل عدوًّا يُهدِّدُ حياتَه.
وقد فرحَ لموتِ عدُوّه.
لكن، وبينما كان يضحكُ ضحكةً مكتومة، انسابت دمعةٌ فجأة.
تشنّجَ وجههُ الشاحب.
“لا تفكِّرْ في الخروج، واصمتْ تمامًا، يا أرسين.”
فجأةً، اختفتِ الدّمعةُ، وعادت الابتسامة الطفوليُّ تعلو وجهه الباهت.
***
كوخُ شارلوت.
صاحت آرتيا بدهشة.
“جلالةُ الإمبراطور… تُوفي؟!”
كانت بيبي هي مَن نقلَ الخبرَ إلى آرتيا.
فبعدما تعافت، ذهبت إلى العاصمةِ لتعرفَ ما يجري.
وكانت الأنباءُ التي جاءت بها صادمة.
“يقولون إنّه مات بسببِ توقُّفِ قلبه الناتج عن مرضٍ مزمن. لكنّ وفاته المفاجئة أثارتْ شائعاتٍ بأنّ الإمبراطورة قد تسبّبت بها. ومع ذلك، لم تجرِ القصرُ تحقيقًا، بل سارَعوا إلى إقامةِ الجنازة.”
أظلمَ وجهُ آرتيا.
فلم تكن لها صلةٌ خاصّةٌ بالإمبراطور، بل شعرت فقط بالحزنِ لموتِ إمبراطور البلاد.
لكنه كان والدَ كيليان.
‘هل سيكونُ بخير؟’
قالت شارلوت، الجالسةُ أمام آرتيا:
“حتى لو لم يكن خاضعًا لغسيل دماغ أورفيوس، لما حزنَ على أبيه أكثرَ منكِ.”
كانت تضحكُ وهي تنظرُ إلى صورةِ لوكا التي أحضرتها بيبي.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 179"