الفصل 177 : حُبّ أورفيوس ¹⁶
رفعت أرتيا رأسها بسرعة.
“ما الذي تعنيه بذلك؟”
شارلوت قالت وهي تربّت على رأسها بخفة:
“عقل الإنسان شيء بالغ الحساسية. وإنْ تم أستخدم السحر للتلاعب به قسرًا وتحريكه كما تشاء، فذلك يعني…”
لا بد أن يخلّف آثارًا جانبية مروعة.
فقد بعض الأشخاص ذاكرتهم. وبعضهم فقد عقله تمامًا وأصبح كجسدٍ بلا روح.
ولهذا كانت شارلوت تخاف مِن أورفيوس وتحتقره.
لأنه لم يتردد في استخدام سحر يُحطّم الإنسان.
شعرت أرتيا بخوف يفوق ذلك الذي شعرت به حين حاول كيليان قتلها.
قد تخسره.
إلى الأبد.
“يجب أن أُبطل سحر صاحب السمو.”
حتى لو اضطرت لقتل الأمير آرسين.
لم يكن في عينيها الورديتين المتوهجتين أيُّ تردد.
بل كان الحزم الصارم وحده.
قالت شارلوت وهي ترفع كتفيها:
“حماسكِ لا بأس به، لكن الأمر ليس بهذه السهولة.”
فـ آرسين ساحرٌ يمتلك قوى أورفيوس، وهو في أعماق القصر الإمبراطوري.
والاقتراب منه أمرٌ بالغ الصعوبة.
وفوق ذلك، هناك أمرٌ خطير يُهدّد أرتيا في وضعها الحالي.
“أنتِ الآن مطلوبةٌ بتهمة محاولة اغتيال الأمير. سيكون من الصعب حتى الحفاظ على حياتكِ.”
***
هربت أرتيا فون إيدينبرغ بعد فشلها في محاولة اغتيال الأمير كيليان.
صرخ الفارس الملكي الذي أعلن هذه الحقيقة الصادمة.
“أيُّ شخصٍ يرى أرتيا فون إيدينبرغ يجب أن يُبلغ عنها فورًا! ومن يجرؤ على إخفاء هذه المجرمة، سيُعاقب بشدةٍ بغض النظر عن هويته أو السبب!”
اقتحم فرسان القصر الملكي قصر إيدينبرغ، بل وحتى منازل الأقارب والمقرّبين من أرتيا.
صرخت ماريغولد حين رأت الجنود يفتشون القصر:
“لا يُمكن أن تكون تيا قد ارتكبت مثل هذا الفعل!”
كانت ماريغولد من القلائل الذين لاحظوا العلاقة الخاصة بين أرتيا وكيليان.
لم تسمع بالأمر مُباشرةً من أرتيا.
لكنها كانت تجد من الغريب أن كيليان، الذي يُقال إنه يكره النساء أكثر من الوحوش، يتقاطع طريقه مع أرتيا باستمرار، وقد قالت لها ذات مرةٍ مازحة.
“هل يُمكن أن يكون سموه مُعجبًا بكِ؟”
لكن ردة فعل أرتيا لم تكن كما توقّعت.
لم تنكر الأمر بحدة، ولم تضحك كأنها تسمع مزحة سخيفة.
بل احمرّ وجهها كما لو أنها تلقت سؤالًا محرجًا.
ولو كانت فتاةً أخرى، لما أظهرت مثل هذا التصرّف البرئ.
لكن أرتيا لم تكن ترغب في وضع قناعٍ أو الكذب أمام ماريغولد.
كدت ماريغولد تُسقط فنجان الشاي من يدها من شدة الدهشة.
وبعد أن استعادت رباطة جأشها، همست لـ أرتيا.
“سموه لا يعاني من رهاب النساء، بل يبدو أن معاييره مرتفعةٌ جدًا فحسب.”
ضحكت أرتيا ضحكة طفولية.
ومنذ ذلك الحين، لم تتحدث ماريغولد عن الأمر مجددًا حتى لا تُسبب الحرج لصديقتها.
‘لا يُمكن أن تكون أرتيا هي مَن حاولت قتل سمو الأمير كيليان!’
الكونت غولدجرس لم يكن يعرف هذه الأمور، لكنه كان يُشارك زوجته ذات الرأي.
لم تكن أرتيا من النوع الذي يرتكب مثل هذا الفعل.
وليس هناك أيُّ مصلحةٍ قد تجنيها من ذلك.
وضع الكونت غولدجرس يديه على كتفي ماريغولد وكأنه يُحاول تهدئتها.
“أفهم شعوركِ، لكن التهمة الموجهة ليست جريمةً عادية، بل محاولة قتل فردٍ من العائلة الإمبراطورية. إن أبدينا أدنى شك، فقد نُعرّض حياتنا للخطر.”
كان الكونت غولدجرس شجاعًا، لكنه يعرف متى يُخفض رأسه إن تعلق الأمر بحياته وحياة أسرته.
“علينا أن نبقى هادئين، عزيزتي.”
وكان حال باقي الأصدقاء مشابهًا.
وفي خضم هذه الأجواء، جاء إيان وديريك إلى إيفانجلين.
كلاهما لم يكن يُحب أرتيا.
لم تكتفِ تلك الصغيرة بفرض سيطرتها على العائلة، بل استولت على منصب القائم بأعمال رب العائلة إيدينبرغ.
لكن بعيدًا عن مشاعرهما، كانا يعلمان أن سمعة العائلة التي كانت قد تداعت، بدأت تعود بفضل أرتيا.
حتى مشاعر البغض تراجعت قليلًا.
“أختي! علينا أن نفعل شيئًا! وإلا فسيًقبض على أرتيا بتهمة اغتيال وتُقتل!”
تحدث ديريك، الذي بدت عليه آثار التعب خلال الأيام الماضية.
“وإن حدث ذلك، فستتضرر عائلتنا كثيرًا. لا يُمكن أن نتركها.”
“أفهم ما تشعران به، لكن علينا أن نلتزم الهدوء الآن.”
“لكن…!”
ولما بدا أن إيان على وشك الانفجار، تابعَت إيفانجلين قائلة:
“إن أُلقي القبض على أرتيا، فسنتحرّك حينها. وسنحميها باسم عائلة إيدينبرغ.”
هزّ إيان وديريك رأسيهما بحزم على صوت إيفانجلين الحازم.
***
“النبلاء لا يعترضون على تهمة اغتيال الموجهة إلى أرتيا فون إيدينبرغ، بل يتعاونون معها. في الظاهر، على الأقل.”
كان كيليان يجلس أمامه بوجهٍ بارد يتلقى التقرير.
وبجانبه كان آرسين جالسًا على كرسيٍّ مُتحرك خشبي.
واصل نوكتورن حديثه مُتجاهلًا وجود آرسين وكأنَّ لا أحد غير كيليان أمامه.
“لكن في قرارة أنفسهم، يُنكرون أو يستغربون فكرة أن أرتيا فون إيدينبرغ قد تكون ارتكبت مثل هذه الجريمة.”
كان هناك كثيرون من النبلاء الذين لا يحبّون أرتيا.
لكن حتى أولئك، لم يستطيعوا تصديق التهمة الموجهة إليها.
فرغم أنها كانت تُثير الجدل دائمًا بخطواتها الجريئة، إلا أنها كانت إنسانةً أخلاقية وحكيمة.
ابتسم أرسين ابتسامة ًباهتة.
‘يا لها من مكانة بين الناس لا تليق بكِ.’
لكن في الحقيقة، لم تكن أرتيا كما يُظَن بها من ضعفٍ أو عجز.
ولولا ارتباطها بـ كيليان، لربما اتّخذها وزيرًا له.
رغم أن ذلك لم يعد ممكنًا الآن.
نظر أرسين مطولًا إلى نوكتورن الذي كان واقفًا بهدوء، ثم سأله.
“لمَ لا تتساءل عن حالة كيليان؟”
نوكتورن هو الخادم الأقرب إلى كيليان، ولن يُخفى عليه تغيّره.
أجاب نوكتورن دون أي تغيّرٍ في ملامحه.
“أعذرني، لكن لا أفهم ما الذي تعنيه، في نظري، سموّه يبدو كما هو دائمًا، مفعمًا بالحيوية وبصحةٍ جيدة…”
هل يتظاهر بعدم الفهم؟
‘لا، بل لا يعنيه الأمر.’
نوكترن كان يخفي طموحًا جريئًا خلف مظهره الهادئ اللطيف.
ولم يكن بقاؤه إلى جانب سيدٍ صعب المراس كـ كيليان بدافع الخوف من العواقب فحسب.
بل لأنه أراد البقاء إلى جانب من سيُصبح إمبراطورًا ذات يوم.
ولهذا، لم يكن لديه ما يعترض عليه في كيليان حاليًا.
تقلّصت عينا أرسين بابتسامةٍ ساخرة.
‘أخي المسكين، حتى خادمك الوحيد لا يريد منكَ سوى أن تكون شيئًا واحدًا فقط…’
الإمبراطور.
صاحب السُلطة المطلقة الذي يقود هذه الأرض الشاسعة.
وهذا هو الطريق الذي يجب أن يسلكه كيليان، لا أن يلهو مع فتاةٍ تافهة.
نظر أرسين إلى نوكتورن بعينين راضيتين.
“يُمكنك الانصراف.”
“نعم.”
وبعد مغادرة نوكتورن، بقي في الغرفة الواسعة كل من أرسين وكيليان فقط.
“كيليان.”
ردّ كيليان على مناداته:
“نعم.”
كان صوتهُ أجوفًا، خاليًا من أي مشاعر.
ولم يكن صوته وحده كذلك، بل حتى عينيه الذهبيتين خلت من أي أثرٍ للمودّة أو الحب.
رغم أن أرسين لم يُعجبه هذا، لكنه لم يكن بوسعه فعل شيء.
‘إنْ أزلتُ السحر، سيترُكني ويذهب لتلكَ المرأة.’
لا يجب أن يحدث ذلك.
‘عليك أن تبقى بجانبي وتحقق الحُلم الذي أريده، كيليان.’
مسح أرسين بيده على وجه كيليان الخالي من التعابير وقال:
“كيليان، كُن إمبراطورًا.”
“نعم.”
عند هذا الجواب المطيع، ارتسمت ابتسامةٌ في عيني أرسين.
لم يكن ينوي الانتظار أكثر لتحقيق حلمه.
***
كانت الإمبراطورة تبكي وهي مستلقيةٌ في غرفتها.
‘أرسين تغيّر منذ أن زارته الساحرة شارلوت…’
جسده الهشّ لم يتغير، لكن في عينيهِ الذابلتين ظهرت نظراتٌ حادّة لم تكن فيهما من قبل.
وأكثر ما كان يؤلمها، هو أنه لم يعُد يفارق كيليان.
من الصباح حتى المساء، على الدوام.
“أرسين، عُد إلى غرفتك الآن، يكفي.”
“لا.”
كان هذا أول رفضٍ تسمعه من ابنها.
شعرت الإمبراطورة بألمٍ يمزّق قلبها.
لكن ما كان بوسعها فعله، وهي التي تحب ابنها حبًّا جمًّا، هو أن تعود إلى القصر وتبكي في صمت.
وفي أحد الأيام، دعاها أرسين بنفسه.
فهرعت إليه مسرعة، من دون أن تُفكّر في كرامتها كأمبراطورة.
وبعينيها المتورمتين من كثرة البكاء، ابتسمت بسعادة.
“أرسين!”
عندما احتضنته، لم تستطع أن تضغط عليه.
خشيت أن تؤذيه بجسده الضعيف.
أما أرسين، وهو بين أحضانها، فقد أغمض عينيه.
‘رائحةٌ مألوفة…’
رغم أنه لم يُلقِ عليها سحرًا، إلا أنها وهبته كل شيء.
كان في الماضي محطّ احترام الكثيرين، لكن لم يُظهر له أحدٌ حبًّا بهذا العمق من قبل.
ولهذا، كانت في نظرهِ امرأةً مثيرةً للشفقة.
فلا أرسين ولا أورفيوس أحباها، بل وحده كيليان من كان يحبها.
كانت في علاقة حبٍّ من طرف واحد، مؤلمة.
أحسّ أرسين ببعض الذنب حيال ذلك، لكن أورفيوس لم يشعر بشيء.
بالنسبة له، كانت الإمبراطورة مجرّد دميةٍ سهلة الانقياد.
فتح أرسين فمه وسألها:
“أمي، هل يُمكنك فعل أي شيءٍ من أجلي؟”
لم يكن أرسين يومًا من أولئك الذين يطلبون شيئًا.
كان يتصرّف دائمًا كأنه على وشك الرحيل، ولا يطمع في شيء.
ولهذا، لم تكن الإمبراطورة متفاجئة بقدر ما كانت سعيدة.
“بالطبع، إن كان لأجلك، فأنا مستعدّةٌ لأن أهبك حياتي.”
وفي الحقيقة، كانت تعاني من اكتئابٍ شديد،
وكانت تراودها يوميًّا رغبةٌ في إنهاء حياتها.
لكنها لم تُقدِم على ذلك ولو مرة واحدة.
لأنها أرادت أن تعيش أطول من أرسين، لكي ترعاه.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 177"