الفصل 175 : حُبّ أورفيوس ¹⁴
في ليلةٍ كان القمر فيها ساطعًا، وضع كيليان السوار في معصم أرتيا وقال:
“لقد ألقيتُ عليه سحرًا يحميكِ. إن جاءكِ خطر، رددي التَعويذة.”
“لكنني سأكون دائمًا بجانبكِ، لذا لن تضطري أبدًا لاستعماله.”
أنت، الذي قلتَ ذَلك، تحاول الآن قتلي… فماذا سيحدث إن رددتُ التعويذة؟
هل لن يحدث شيء؟
أم أنك ستتحرر من السحر وتُلقي سيفك؟
تحدثت أرتيا بصوتٍ مرتعش، متمنيةً أن يتحقق ذلك.
“ساعدني، يا كيليان…”
في اللحظة التي نطقت فيها التعويذة، انبعث ضوءٌ ذهبي من السوار.
كان الضوء شديد السطوع لدرجة أن أرتيا، وكذلك كيليان وآرسين، أغلقوا أعينهم بإحكام.
وحين اختفى الضوء وفتحوا أعينهم مجددًا، لم يكن أمام كيليان أحد.
ابتسم آرسين ابتسامةً ملتوية وهو يُطلق تنهيدةً قصيرة.
“لم أتوقع أن تفلتا بهذه الطريقة…”
“كيليان، الحقْ بهما فورًا واقتلهـ…”
لكنه لم يُكمل كلامه.
إذ انهمرت دمعةٌ من عيني كيليان الخاليتين من أي تعبير.
وحينها فقط، أدرك آرسين… أن السحر الذي ألقاه لم يكن كاملًا.
***
كان كيليان يتأمل السوار المرصّع بالألماس الوردي بوجهٍ جاد، غارقًا في التفكير.
أيُّ تعويذةٍ ينبغي أن أُلقي؟
رغم براعته في التحوّل إلى حيوانات، كان يجد صعوبةً في أنواع السحر الأخرى.
حتى أنه لم يكن واثقًا من نجاح السحر من الأساس.
وبعد ساعاتٍ من التفكير، قرر أن يصوغ ما يريده بدقّة.
“حين تُردد أرتيا فون إيدينبرغ تعويذةً معينة، تُنقل فورًا إلى جانب كيليان فون أورفيوس.”
لكن ابتسامتُه الراضية لم تدم طويلًا، إذ عبس حاجباه بعد لحظة.
فهو واثقٌ من قدرتهِ على حماية أرتيا من أي شيء.
لكن العالم مليء بالمتغيرات الخارجة عن السيطرة.
ولأجل سلامتها، عليه أن يتصرف دون ترك أي ثغرة.
وفي النهاية، غيّر وجهة الانتقال.
“إلى المكان الذي تتوق أرتيا إليه أكثر من أي شيءٍ آخر.”
وبذل كيليان خلال أيامٍ عدة كل ما يملك من قوةٍ سحرية في ذلك السوار.
ليحميها بكل ما لديه من قلبٍ وإرادة.
***
مع ومضةٍ ضوء شديدة، شعرت أرتيا بإحساسٍ غريب وكأن جسدها تفتّت ثم أعيد تكوينه.
وحين اختفى الضوء وفتحت عينيها، وجدت أمامها…
“لماذا تقتحمين بيت أحدهم دون دعوة؟”
كانت شارلوت، ترتدي بيجاما واسعة، وتنهمك في صنع دميةٍ قطنية تُشبه لوكا.
وقبل أن تتمكن أرتيا من الرد، تدفق الدم الأحمر من فم بيبي.
سارعت أرتيا لاحتضان بيبي التي كانت توشك على السقوط، وصرخت.
“ساعديني، آنسة شارلوت!”
بدت علامات الذهول على وجه شارلوت، ثم أطلقت تنهيدة طويلة.
“هاه….”
شارلوت لم تكن طبيبة، لكنها كانت تملك معرفةً طبية واسعة بفضل قراءتها الكثيرة.
عالَجت الجرح الغائر في ظهر بيبي بمهارة.
“الجرح عميق كأنَّ دُبًا ضخمًا هو من أحدثه.”
لولا عضلات بيبي القوية التي تفوق البشر العاديين، لكانت قُتلت بضربةٍ واحدة.
“رغم تجنبها للضربة القاتلة، حالتُها خطيرة. علينا أن نجتاز هذه الليلة لنطمئن.”
نظرت أرتيا إلى بيبي بعينيها المتورمتين من البكاء.
فقدت بيبي وعيها بسبب الجروح الخطيرة والانتقال المكاني المفاجئ.
حبست دموعها بصعوبةٍ وهي ترى وجه بيبي الشاحب.
ليس الآن وقت البكاء…
عضّت على شفتيها وانحنت برأسها.
“شكرًا جزيلًا لكِ، آنسة شارلوت.”
“أنا لا أُقدّم مساعدتي لأي أحد. ستردين الجميل، مفهوم؟”
قالت ذلك، ثم ناولت أرتيا وعاء ماءٍ ومنشفة.
“لقد فعلتُ كل ما أستطيع. من الآن فصاعدًا، الأمر لكِ.”
بلّلت أرتيا المنشفة بالماء وبدأت بمسح جسد بيبي المحموم.
وفي اليوم التالي، مع حلول الظهيرة، دخلت شارلوت الغرفة مجددًا.
وعندما رأت أرتيا، عقدت حاجبيها:
“هل كنتِ على هذه الحال طوال الليل؟”
“حرارة بيبي لم تنخفض… ماذا افعل الآن؟”
فحصت شارلوت حالة بيبي.
“انخفضت حرارتها كثيرًا. نبضها أصبح أكثر استقرارًا. لا داعي للقلق بشأن موتها الآن.”
تنفست أرتيا الصعداء أخيرًا.
“هذا جيد…”
ومع انحسار التوتر، شعرت بالإرهاق ينهال على جسدها، فتمايلت.
لكنها تماسكت بالإمساك بكرسي.
“هل يُمكننا التحدث؟”
رغم صوتها المتشقق المتعب، إلا أن عينيها الزهريتين كانتا تلمعان بشدة.
إنها تتماسك بصعوبة.
فجسد أرتيا وذهنها كانا على وشك الانهيار، لا يتحملان أكثر.
وربما أدركت من تعبير شارلوت العابِس ذلك، فتابعت أرتيا تقول.
“سأقدّم لكِ كل ما تطلبينه، فقط أرجوكِ… استمعي إلى قصتي.”
أوه… كيف يمكنني تجاهل نظراتٍ كتلك؟
تنهدت شارلوت وجلست على الكرسي بثقل.
“ما الذي تريدين قوله؟”
نظرت أرتيا إليها مباشرةً وقالت:
“أرجوكِ، اقرئي ما حدث لي البارحة.”
“لقد قرأت.”
سألتها أرتيا، تحاول تهدئة صوتها المرتعش.
“كيف يُمكنني فَكُّ السِّحرِ الذي أُلقيَ على جَلالتِه؟”
لم تفتح شارلوت فمها بالكلام إلّا بعد مرورِ وقتٍ طويل.
“قبل أن أُجيب، هناك شيءٌ عليّ إخبارُكِ به. تعلمين أنني قابلتُ آرسين منذ أيام، أليس كذلك؟”
هل يُعقل أن شيئًا ما حدث في تلك الأثناء؟
حدّقت شارلوت في وجه أرتيا المتجمِّد وأكملت حديثها.
“أثناء قراءتي لآرسين، رأيتُ ذلك الشيء.”
“ذلك الشيء؟”
في أعماقِ أعماقِ آرسين، كان هناك رجل.
رجلٌ جميل ذو شعرٍ طويل كالليل، وعينين ذهبيَّتين شرستين كعيون الوحوش.
رجلٌ يُشبه كيليان إلى حدٍّ لا يُصدّق…
“إنّه أورفيوس.”
اتّسعت عينا أرتيا في ذهولٍ وهي لا تفهم ما قِيل لها.
“ماذا؟”
“أورفيوس! ذاك اللعين الذي أسّس الإمبراطوريّة قبل خمسمئة عام ومات! كان داخل جسد آرسين!”
ولم يقتصر الأمر على ذلك.
فعندما رأى أورفيوس شارلوت، ابتسم بتكبُّر.
“ما زالت لديكِ تلك القدرة المزعجة على قراءة أرواح الآخرين دون إذن. لولا ظروفي، لما تركتُكِ وشأنكِ…”
واصل أورفيوس حديثه وهو ينظر إلى وجه شارلوت الذي شحب لونه تمامًا.
“لم أقابل أحدًا يعرف هيئتي الحقيقيّة منذ مئات السنين. يبدو الأمر لطيفًا. سأجعلُكِ تقرئين شيئًا مميزًا بهذه المناسبة: سرّ آرسين فون أورفيوس.”
تلاقت نظراته الذهبيّة مع نظراتها.
فجأة، انجذبت روحُ شارلوت قسرًا إلى أعماق روحه.
***
قبل خمسمئة عام، كان هُناك رجلٌ يُدعى أورفيوس.
مات والداه فورَ ولادته. لم يكن له نسبٌ ولا مكانة.
ورغم ذلك، لم يكُن تعيسًا.
فكأنّه كان مختارًا من قِبَلِ الحاكم، يملكُ كلّ شيء.
جسدٌ قويّ، ملامحُ فاتنة…
وقوةٌ سحريةٌ طاغية.
وكان أكثرَ ما يُميّزه عن بقيّة السحرة قدرته على التحكم في عقول البشر.
كان أورفيوس يُدمِّرُ عقلَ خصومه في لحظة، ويجعل من يُعجَب به يركعُ له بإرادته.
كان التلاعب بالبشر أسهل عليه من لعب الأطفال.
وهكذا، استطاع أورفيوس أن يُوحِّد القارة الغارقة في الفوضى وهو لم يتجاوز العشرين من عمره.
“كم هو سهل…”
قال ذلك وهو يُحلّق بشعره الأسود الطويل، ينظر إلى الأرض الشاسعة التي باتت مُلكه.
لقد أنجز ما لا يُمكن لأي إنسانٍ عاديّ تصوُّره، ومع ذلك لم يظهر عليه أيّ ملل.
بل كانت عيناه لا تزالان تتوهّجان بشغفٍ شديد.
لأنّ لديه الكثير بعدُ ليُنجزه.
“منذ ولادتي، وهذه الأرض غارقةٌ في التعاسة.”
الحروب المتكرّرة دفعت الناس إلى العيش في الفقر والعذاب، وكانوا يموتون موتةً بائسة كالحشرات.
“لكن هذا الجحيم سينتهي. سأبني على هذه الأرض أُمّةً جديدة.”
أرضٌ خصبة، مدنٌ جميلة، عالمٌ يضحكُ فيه الجميع.
ذلك كان حلم أورفيوس النقيّ الذي لا تشوبه شائبة.
في يومٍ مشمسٍ ساطع، أُقيمَ حفلُ التتويج.
امتلأت الكنيسةُ العظيمة بآلاف الوزراء الذين ساعدوه في تأسيس الدولة، ومن بينهم إيدينبرغ.
وفي عيونهم نظرةُ رهبةٍ واحترامٍ للإمبراطور الشاب الذي سيقود الأمة.
ظهر أورفيوس.
كان يرتدي ثيابًا سوداء احتفالية، تبدو عليه قداسةٌ وجمالٌ كأنّه حاكمٌ نزل من السماء.
سار بخطًى مهيبة نحو المنصّة.
وكان على المنصة تاجٌ مرصّعٌ بأندر الجواهر.
ولأنّه لم يكن هناك مَن يستحقُّ وضع التاج على رأسه، قرّر أورفيوس أن يضعه بنفسه.
ومع اقترابه من التاج، امتلأ قلبه بعاطفةٍ عظيمة.
إمبراطور.
حاكم هذه الأرض الشاسعة.
إنّه لقبٌ يُعجبه للغاية.
ابتسم ومدّ يده نحو التاج…
“……!”
وفجأة، شعر بألمٍ كأنّ سيفًا انغرس في قلبه، ثمّ انهار على الأرض.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 175"