الفصل 158 : كسر البيضة والخروج منها ⁴²

 

في جوٍّ بات أكثر هدوءًا، انحنت أرتيا لتحية كيليان.

 

“أحيي سليل أورفيوس العظيم.”

 

أومأ كيليان برأسه بهدوء.

 

وانتهى اللقاء بين الاثنين عند هَذا الحد.

 

تابعت أرتيا استقبال باقي الضيوف، وجلس كيليان أيضًا في مقعده دوّن أنْ ينبس بكلمة.

 

وبعد انتهاء العرض، بينما كان الناس يتبادلون الأحاديث بانفعالٍ وبهجة، اقتربت أرتيا مِن كيليان مِن جديد.

 

“هل استمتعتَ بالعرض؟”

 

“كثيرًا.”

 

ضحكت أرتيا ردًا على إجابته المقتضبة.

 

لَمْ يكُن ذَلك وجه السيدة الراقية أو سيدة الأعمال اللطيفة التي أظهرتها للآخرين.

 

بل كانت ابتسامة فتاةٍ واقعةٍ في الحب، بريئةٍ تمامًا.

 

ولأن اللحظة كانت قصيرة جدًا، لَمْ يرها أحدٌ سواه.

 

لكن اليوم، كان هُناك شخصٌ آخر لاحظ ابتسامتها.

 

إنه لوكا.

 

خفق قلب لوكا بقوةٍ وسقط في مكانه.

 

اقترب لوكا مِن أرتيا على عجل.

 

“سيدتي، المخرج يطلُبكِ في غرفة الانتظار، يقول إنْ لديه أمرًا عاجلًا.”

 

اتسعت عينا أرتيا بدهشة، ثم نظرت إلى كيليان وقالت:

 

“يبدو أنْ هُناك أمرًا عاجلًا، سأسبقُك. عُدْ إلى المنزل بسلام.”

 

“حسنًا.”

 

أنهت أرتيا تحيّتها واتجهت إلى لوكا.

 

في تلكَ اللحظة، انبعثت مِن كيليان هالةٌ مخيفة، لَمْ يشعر بها سوى لوكا.

 

أرتيا التي كانت تدير ظهرها له لَمْ تشعر بشيء، أمّا لوكا فقد شعر بعداوة كيليان بكل كيانه.

 

كانت رهبةً شديدة جعلت جسده يرتجف بالكامل.

 

ورغم ذَلك، جمع لوكا شجاعته، ونظر إلى كيليان مُباشرةً، مقبضًا يديه المُرتجفتين وهو يصمد.

 

“ما الذي تنتظره؟ هيا، لوكا.”

 

لَمْ يستفق لوكا إلّا حين سمع صوت أرتيا، فاستدار.

 

وبينما كان يشاهد الاثنين يبتعدان جنبًا إلى جنب، تمتم كيليان بصوتٍ منخفض:

 

“مُجرد جروٍ صغير… يُثير غضبي.”

 

***

 

ما قاله رام لأرتيا على عجل لَمْ يكُن سوى: “هيا نذهب إلى عشاء الفريق!”

 

كان ذَلك الموعد قد تأجّل مرارًا منذُ بدء العرض بسبب الانشغال.

 

وتوجّه جميع أعضاء الفرقة إلى الحانة التي أصرّ رام على الذهاب إليّها.

 

تحدث رام بحماسةٍ، وهو يلهث مِن شدة الإثارة.

 

“الشراب هُنا لذيذٌ جدًا. إنه المكان الوحيد الذي يُضاهي مذاق الخمر الإمبراطوري!”

 

“لكن يبدو أنْ المكان باهظ الثمن.”

 

وهزّت ساندرا رأسها موافقة.

 

“نعم، ليلةٌ واحدة هُنا كفيلةٌ بجعلنا مفلسين.”

 

ورغم قلق الاثنين، أومأ رام بفخر.

 

“صحيح! لهَذا السبب لا أستطيع المجيء كثيرًا. لكن الليلة، سأشرب بلا قلق. بما أنه عشاءٌ رسمي للفريق، فالسيدة الرئيسة هي مَن ستدفع!”

 

توجّهت الأنظار فجأة إلى أرتيا، فابتسمت بلطف.

 

“نعم، الليلة اشربوا كما تشاؤون.”

 

وعلى الرغم مِن كلماتها الكريمة، كانت نبرتها مليئةً بالحيوية، فهتف الجميع بحماس.

 

“وااااو!”

 

انطلق الحفل في أجواءٍ صاخبة مِن الضحك والكلام والشراب.

 

وكانت أرتيا بين الناس، تشاركهم البهجة.

 

لقد خاضت حفلات كهَذهِ مِن قبل أثناء التحضير للعرض، لكنها تختلف تمامًا عن حفلات النبلاء.

 

لا حاجة للانضباط أو الالتزام بالأعراف.

 

فقط الشراب، والضحك، والمرح.

 

وقد استمتعت أرتيا بهَذا الجو كثيرًا.

 

تجمّع الناس مِن حولها.

 

رغم أنها الابنة الشرعية لدوق، ورئيسة شركة الإنتاج، لَمْ تتفاخر أبدًا، ولهَذا كانت محبوبةً كثيرًا بين أعضاء الفرقة.

 

“سيدتي، اشتريتُ دبوس شعرٍ جديد بالأمس، ما رأيُكِ؟”

 

“أنهُ يُناسبُكِ ، نانا.”

 

“زوجتي مِن معجباتكِ، فأرسلت لكِ بعض الكعك.”

 

“يا إلهي، شكرًا جزيلاً.”

 

وبينما كانت تتحدث مع الناس وتضحك، كان هُناك مَن يجلس بجانبها، يحدّق بها فقط.

 

إنه لوكا.

 

يرتشف عصير التفاح، ولكنّ ملامحه لَمْ تكُن كالمعتاد، بل شابها القلق.

 

بسبب ما رآه سابقًا.

 

‘سيدتي… ما علاقتكِ بالأمير؟’

 

كان يعلم أنّ كيليان يكُنّ مشاعر لأرتيا.

 

فمنذُ وقتٍ طويل، عبّر له عن مشاعره بوضوح.

 

حينها، كل ما شعر بهِ لوكا كان الخوف.

 

لكنّ اليوم كان مختلفًا.

 

حين رأى ابتسامة أرتيا وهي تنظر إلى كيليان، انقبض قلبه، وغمرته مشاعرٌ لَمْ يعهدها مِن قبل.

 

كره كيليان… و… غار منه.

 

حينها، استدارت أرتيا إلى لوكا.

 

“آه، لوكا! تعلّمتُ خدعةً سحريةً مُمتعة، أغمض عينيكَ وعد حتى العشرة!”

 

“حسنًا!”

 

رغم أنْ طلبها بدا مفاجئًا، إلا أنْ لوكا أغلق عينيه فورًا وبدأ العد.

 

وما العشرة؟ لو طلبت أرتيا، لأمضى عمره يعدّ دوّن توقف.

 

“… عشرة.”

 

وحين فتح عينيه، كانت أرتيا أمامه تحمل كعكةً كبيرة.

 

وكان الناس قد تجمّعوا حوله وهم يهتفون بصوتٍ واحد:

 

“عيد ميلادٍ سعيد، لوكا!”

 

“…!”

 

كان لوكا يعرف فقط كم يبلغ مِن العمر، لكنه لا يعرف متى وُلد بالضبط.

 

فرغم أنْ نوما كانت تُحبه كحفيد، إلا أنّها لَمْ تكُن تملك الوقت أو الظروف لتتذكّر أو تحتفل بيوم مولده.

 

قالت أرتيا موجِّهةً كلامها إلى لوكا الذي تجمَّد مِن الذهول:

 

“اليوم هو يوم إقامة حفلة الظهور الاجتماعي للنبلاء. اعتبارًا مِن اليوم، تُصبح في الثامنة عشرة مِن عمركَ بشكلٍ رسمي وتُعَدّ بالغًا. لذا، أعددتُ لكَ مفاجأةً صغيرة.”

 

“…….”

 

لَمْ يستطع لوكا قول شيء.

 

كانت هَذهِ أول مرةٍ في حياته يتلقى فيها تهنئةً بعيد ميلاده.

 

وعندما رأى ميخائيل وساندرا عينيه تدمعان، ضحكا بخفّة.

 

“أصغرنا يبكي، إنهُ يبكي فعلاً.”

 

“في سن الثامنة عشرة، يكون الإنسان بالغًا فقط على الورق، لكنه لا يزال في سن البكاء.”

 

“لا، لستُ أبكي!”

 

كان يومًا سعيدًا. لَمْ يرغب أبدًا في البكاء.

 

وعندما رأت أرتيا وجه لوكا وهو يعضّ شفتيه بقوة، ابتسمت وقدّمت له الكعكة.

 

“وأنت تُطفئ الشموع، تمنَّ أمنيةً عن نوع البالغ الذي تود أنْ تُصبحه. حينها، ستُباركك الإلهة لتحقيق ذَلك الحُلم.”

 

حُلم…

 

لَمْ يُفكّر لوكا يومًا في أمرٍ كهَذا.

 

فقد كانت حياتُه تقتصر على النجاة مِن يومٍ إلى آخر، وكان مُجرد التمني بذخًا لا يُسمح له به.

 

لكن الآن…

 

أدار لوكا ناظريه إلى الأشخاص المحيطين به.

 

أرتيا، رام، ميخائيل، ساندرا… كلهم ينظرون إليّه بعينٍ دافئة.

 

كان مشهدًا أشبه بمعجزة، لَمْ يجرؤ يومًا على تخيّله.

 

‘هؤلاء جميعًا يُحبّونني. يمدحونني ويقولون إنني رائع. إذًا…’

 

ألَن أستطيع أنا أيضًا أنْ أُحقّق شيئًا ما إنْ تمنَّيتُ وسعيتُ نحوه؟

 

لأول مرةٍ في حياته، تمنّى لوكا أمنية.

 

‘أُريد أن أصبح رجلاً رائعًا. رجلاً يُمكنه الوقوف بثقةٍ إلى جانب سيدتي.’

 

نفخ لوكا الشموع متمنّيًا بكلّ إخلاص، وسط تصفيقٍ مفعم بالبهجة.

 

***

 

قال ميخائيل وهو ينظر إلى لوكا.

 

“ما الذي جرى لأصغرنا؟”

 

كان وجه لوكا مُحمرًّا، يضحك ويغنّي بلا توقّف.

 

فأخذت ساندرا الكأس الموضوع أمامه، وشمّت رائحته ثم عبست.

 

“هَذا ليس عصيرًا، إنه خمر. مَن الذي قدّمه لهَذا لطفل؟”

 

“أنا!”

 

رفع رام يده عاليًا قائلاً بصوتٍ جهوري، وهو يترنّح وزجاجتا الخمر في يديه.

 

“عيد ميلاده انتهى، لقد أصبح بالغًا الآن! إذًا، عليه أنْ يشرب! كيف لا يشرب شيئًا بهَذهِ الجودة؟!”

 

قطّب ميخائيل حاجبيه.

 

“هَذا السكير العجوز… كان يجب أنْ نربطه في الزاوية مِنذ البداية.”

 

بينما كان ميخائيل يُفكّر فيما إذا كان عليه إبعاد رام كي لا يُسبّب المشاكل للآخرين، تحدّث إليّه لوكا.

 

“ميخائيل.”

 

“لماذا تناديني، أيها الناشئ الطموح نحو سُكر المستقبلي؟”

 

“هل يُمكنني أنْ أناديكَ بأخي مرةً واحدة فقط؟ لقد شعرتُ بغيرةٍ شديدة عندما جاء إخوتكَ ينادونكَ بذَلك.”

 

“…….”

 

نظر إليّه ميخائيل مندهشًا وهو يوسّع عينيه، ثم حكّ ذقنه.

 

“حسنًا، افعل.”

 

ابتسم لوكا ابتسامةً مشرقة كما لو أنه كان ينتظر هذه اللحظة.

 

” أخي ميخائيل!”

 

في تلكَ اللحظة، أمسك ميخائيل بصدرهِ دوّن وعي.

 

“أصغرنا… كنتُ أعلم، لكنهُ لطيفٌ للغاية!”

 

حينها، تدخّلت ساندرا التي كانت تقف بجانبهما.

 

“وأنا! نادِني بأختي الكبرى أيضًا!”

 

لبّى لوكا طلبها بسرور.

 

“أختي.”

 

ابتسم لوكا بخجلٍ ووجهه محمرٌّ قليلًا، ففقدت ساندرا عقلها وصرخت.

 

“سأتخلّى عن دوق الشمال وسأتزوج شاين بدلًا منه!”

 

ثم دفعها رام بعيدًا واقترب مِن لوكا وسأله.

 

“وأنا؟!”

 

أحدهم أصبح أخًا، والآخر أختًا… إذًا أنا؟ رُبما أكون بمنزلة العم؟!

 

قال لوكا، موجّهًا كلامه إلى رام الذي كان يتوقّع شيئًا مميزًا.

 

“أيُها المخرج.”

 

“لماذا، لماذا أنا فقط ما زلتُ مُجرّد مخرج…؟”

 

وقبل أنْ يُكمل تذمّره، قبّله لوكا قبلةً خفيفة على خده.

 

ثم قال وهو يبتسم.

 

“أشكركَ مِن أعماق قلبي على تعليمكَ لي كلّ شيء، مِن الألف إلى الياء. لِن أنسى هَذا الفضل طوال حياتي.”

 

“…….”

 

لَمْ يكُن يعلم ذَلك سوى قلّة، لكن رام الذي عاش غارقًا في العمل طوال عمره، لَمٌ يسبق له أنْ عاش تجربة حب.

 

ولا حتى تجربةً جسدية.

 

ولذَلك، كانت قبلة لوكا له صدمةً هائلة.

 

‘لماذا، لماذا يخفقُ قلبي بهَذهِ السرعة؟ هل مِن الممكن أنْ… أنْ تكون هَذهِ ميولي؟!’

 

رام، الذي غرق في أكبر صدمةٍ في حياته، بقي مذهولًا بينما نهضّ لوكا من مقعده وتوجّه نحو أرتيا.

 

═════• •✠•❀•✠ •═════

الترجمة: فاطمة 

حسابي ✿《التليغرام》

《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》