الفصل 154 : كسر البيضة والخروج منها ³⁷
خرجت أرتيا مِن غرفتها مرتديةً ثوب النوم.
وما إنْ توقّفت العربة، حتى قفزت منها بسرعة، واتّسعت عيناها بصدمة.
المبنى الذي كان قبل ساعاتٍ قليلة فقط يتباهى بجمالهِ وهيبته، كان الآن يحترق بلونٍ أحمر قانٍ.
“ما… ما الذي يحدث؟!”
تمالكت أرتيا نفسها بصعوبة وسألت بيبي.
“هل أبلغتم إدارة الإطفاء؟”
“نعم، لكنهم بحاجةٍ إلى وقت لإحضار عربات المياه.”
لَمْ يكُن بوسعها انتظارهم مكتوفة الأيدي حتى يصلوا.
“بيبي، ابحثي عن أيِّ مصدرٍ قريب للمياه، واجعلي العمّال يصطفّون في خطٍ لسحبها وإطفاء الحريق!”
وبالفعل، بدأ الخدم الذين أتوا معها مِن القصر بنقل المياه وفقًا لتوجيهات بيبي.
وكانت أرتيا مِن بينهم.
رفعت دلاءً لَمْ تكُن لتتمكن مِن حملها في العادة، وهي تزمّ شفتيها بعزم.
“لا بأس… كل ما عليّ فعله هو إطفاء الحريق بأسرع وقتٍ مُمكن… وحينها، يُمكننا إقامة العرض غدًا كما هو مخطط!”
حتى عندما كانت الشرارات تتطاير على وجهها، وحتى عندما أخذت ذراعاها ترتجفان مِن الإرهاق، لَمْ تتوقف.
لكن النيران لَمْ تأبه بجهودها، واستمرّت في الاشتعال دوّن أنْ تُخمد.
تقدّمت بيبي، التي كان السواد يُغطيها بسبب الرماد.
“سيدتي، مهما سكبنا مِن مياه، فإنَّ الحريق لا يُخمد.”
“ماذا تعنين؟”
“يبدو أنه ليس حريقًا طبيعيًا، بل تم إشعالهُ بطريقةٍ خاصة. مِن المستحيل إطفاؤه بالوسائل العادية.”
توقّف نفس أرتيا للحظة.
لَمْ يكُن الأمر الصادم أنْ الحريق كان مُتعمّدًا، بل أنه يستحيل إخماده.
‘لا، لا تتوقفي! فكّري، تحرّكي، أرتيا!’
لكن عقلها كان فارغًا تمامًا.
لو كان المبنى المُحترق أيِّ مكانٍ آخر، لرُبما استطاعت التفكير بعقلانية.
لكن رؤية المسرح الذي قضت شهورًا في بنائهِ وهو يلتهمه اللهب جعلها غير قادرةٍ على التفكير بوضوح.
وبينما كانت تتلاشى قدرتها على التحمل، انزلقت دمعة صافية مِن عينها.
عندها، دوّى صوت مألوف.
“أرتيا فون إيدينبرغ.”
استدارت ببطء نحو مصدر الصوت.
تحت السماء الداكنة، وقف كيليان.
لَمْ يكُن لديها الوقت لتتساءل كيف ولماذا كان هُناك.
“ساعدني، جلالتُك!”
كان وجهُها ملوثًا بالسواد، وعيناها مغرورقتين بالدموع.
أومأ كيليان برأسه بهدوء.
“حسنًا.”
وبعد هَذا الردّ القصير، بدأ يتقدّم نحو المبنى.
عندها، استوعبت أرتيا ما قالته.
‘ما الذي قلته…؟!’
“جلالتُك، هَذا خطر…!”
لكنها لَمْ تستطع إنهاء جملتها.
لأن عيني كيليان الذهبيّتين توهّجتا، وبدأ ضوء ساطع ينساب مِن جسده.
رفع يده.
وتجمّعت في كفّه جسيمات ذهبية ضخمة، انتشرت في الهواء كأنها غبارٌ زهريّ، وأحاطت بالنيران المشتعلة.
وفي لحظات، بدأت ألسنة اللهب التي عجز العشرات عن إخمادها تتلاشى كأنها لَمْ تكُن.
“……!”
بُهتت أرتيا وجميع الحاضرين، مأخوذين بالمشهد المُعجِز أمامهم.
في لحظات، اختفى الحريق تمامًا.
استدار كيليان نحو أرتيا، وعيناه ما زالتا تشعّان بقايا النور.
ثم قال لها بصوت هادئ.
“لقد أخمدتُ الحريق… لذا…”
رفع يدهُ الكبيرة، ومسح بلطفٍ خدّها.
“لا تبكي.”
وبعد أنْ أنهى كلماته، أغمض عينيه، وبدأ جسدُه المتين يترنّح.
فزعت أرتيا وفتحت ذراعيها، لتُحكم قبضتها عليهِ بقوة.
ورغم أنْ ذراعيها الضعيفتين كانتا ترتجفان، لَمْ تفلتْه أبدًا.
***
قاعة الولائم في القصر الإمبراطوري.
وقف كيليان، وهو طفلٌ في العاشرة مِن عمره، أمام أرتيا التي كانت أقصر منه بقليل.
“أرتيا فون إيدينبرغ.”
رفعت أرتيا رأسها، وانعكس كيليان في عينيها الكبيرتين ذات اللون الوردي.
لَمْ تكُن تشعر بأيِّ خوفٍ منه، بل ابتسمت بخجل.
جلس الاثنان جنبًا إلى جنب على طاولةٍ مستديرة.
وعلى الطاولة، كان هُناك حلوى برتقالية اللون مصنوعةٌ مِن الجزر.
تذوّقت أرتيا قطعةً مِن كعكة الجزر، وارتسمت على وجهها ملامحُ السعادة.
“القصر الإمبراطوري مخيف ولا أحبه، لكنني أحب المجيء إلى هُنا لأنهم يقدمون حلوى الجزر في كل مرة.”
ارتسمت على وجه كيليان ابتسامةٌ متباهية.
“أعلم، لذَلك طلبتُ مِن الخادمات تحضيرها. كُلي منها كثيرًا.”
تساقطت زهور الكرز، وتغيّر المشهد.
انتقلا إلى زاويةٍ معزولة مِن حديقة القصر الإمبراطوري.
كانت أرتيا الصغيرة جالسةً هُناك، تُخفي وجهها في ركبتيها وهي تبكي.
وحين اقترب منها كيليان الصغير، رفعت رأسها ببطء.
تأمّل دموعها التي تُبلّل عينيها الورديتين، ثم مدّ لها منديله.
“لا تبكي.”
مرةً أخرى، تساقطت زهور الكرز، وتغيّر المشهد.
هَذهِ المرة، كانا في قاعة الحفلات المتألقة في القصر الإمبراطوري.
تحت ضوء الثريات اللامعة، لَمْ تكُن أرتيا تلكَ الفتاة الصغيرة ذات الوجنتين المُمتلئتين، بل أصبحت شابةً رائعة الجمال في الثامنة عشرة مِن عمرها.
مدّ كيليان يده إليّها بأدب.
“هل تمنحينني رقصة؟”
اتسعت عينا أرتيا بذهول، ثم احمرّ وجهُها وهي تهزّ رأسها بالموافقة.
تشابكت أيديهما، وبدأا في التحرك بانسجام مع الموسيقى.
عبق رائحتها العذبة جعل رأس كيليان يدور، وشعر بدقات قلبهِ تتسارع وهو يتأمل عُنقها الأبيض النحيف وكتفيها العاريتين.
وعندما أوشكت الرقصة على الانتهاء، همس لها.
“أنتِ جميلةٌ جدًا اليوم.”
تساقطت زهور الكرز مُجددًا.
كان كيليان، في العشرين مِن عمره، في ساحة المعركة.
المكان الذي تفوح منه رائحة الدماء يوميًا، كان خطيرًا وغير مريح، لكنه كان يشعر براحة أكبر هنا مقارنةً بالقصر الإمبراطوري.
لأن وجوده في ساحة المعركة كان يُحرره مِن ضغط الإمبراطور، ومِن استياء الإمبراطورة، ومِن حزن آرسين.
بعد معركةٍ شاقة، عاد إلى خيمتهِ مرتديًا درعه المُلطّخ بالدماء، وبدأ يشرب الخمر القوي كما لو كان ماءً.
حينها، جاءه نوكتورن بتقريرٍ عن أخبار العاصمة.
“أرتيا فون إيدينبرغ ستتزوج مِن لويد فون راينر بعد نصف شهر.”
كان يعلم أنْ لدى أرتيا رجُلًا تُحبه.
وحتى إنْ لَمْ يكُن هُناك أحد، فقد كانت في السنّ التي يتوقع فيها زواج أيِّ سيدةٍ نبيلة.
لقد كان أمرًا متوقعًا تمامًا.
ومع ذَلك، شعر وكأنَّ صدره يغلي.
المشاعر التي ظنّ أنه قطعها حين غادر إلى ساحة المعركة اشتعلت مِن جديد.
‘تماسك، كيليان فون أورفيوس.’
كما تعلّم منذُ صغرهِ، عليه أنْ يكبح نفسه.
يومًا بعد يوم، حاول السيطرة على نفسه بشتى الطرق.
لكن في الليلة التي سبقت زفاف أرتيا، اشتعل بريقٌ ذهبيّ في عينيه.
لَمْ يستطع تحمّل الأمر.
لا، لَمْ يرِد أنْ يتحمّل.
في ظلام الليل، تحوّل إلى فهدٍ أسود وانطلق بسرعة البرق.
لَمْ يكُن قادرًا على التفكير في المعركة التي تنتظره غدًا.
كان كلّ ما يشغل تفكيره هو أرتيا فون إيدينبرغ.
بعد أنْ ركض بلا توقف ليومٍ كامل، وصل أخيرًا إلى القصر الإمبراطوري.
“و… وحش!”
صرخ الناس بفزعٍ عندما رأوا الفهد الأسود الضخم، الذي كان أكبر بكثير مِن الفهود العادية.
لكنه تجاهل الفوضى التي أحدثها وشقّ طريقه إلى الكنيسة حيث يُقام الزفاف.
عند نهاية الممر الطويل، كانت أرتيا تقفُ مرتديةً فستانًا أبيض.
اندفع الفهد الأسود راكضًا على طول الممر باتجاهها.
“آااه!”
صرخ لويد، الذي كان بجوار أرتيا، وهرب مذعورًا.
بينما بقيت أرتيا وحدها، مرتجفةً مِن الصدمة، غير قادرةٍ حتى على التفكير في الهروب.
لكن عيناها، التي كانت مُتصلّبة مٍن الرعب، اتسعتا فجأة.
قبل أنْ يصل إليّها، تحوّل الفهد الضخم إلى هيئة كيليان.
جثا كيليان على ركبتيهِ أمامها، ورفع رأسهُ لينظر إليّها.
ثم تحدث بصوتٍ يائس وكأنهُ يناشدها.
“لا تتزوجي مِن رجُلٍ آخر.”
***
كان كل هُذا مُجرد حلم كيليان.
رغبةً أخفاها بعمقٍ في قلبه، دوّن أنْ يسمح لأيِّ شخص، ولا حتى لنفسه، أنْ يكتشفها.
عاد إلى الواقع، وفتح عينيه ببطء.
فرأى أرتيا.
كان شعرها مُبعثرًا، ووجهُها الشاحب ملطّخًا بالسواد والرماد.
كانت عيناها مغرورقتين بالدموع.
“هل استعدتَ وعيّكَ، جلالتُك؟!”
“……”
“قال الطبيب إنْ حالتكَ ليست خطيرة، لكنكَ لَمْ تستعد وعيّك لفترةٍ طويلة، لقد كنتُ قلقةً جدًا!”
أجهشت أرتيا بالبكاء، وهي تمسحُ دموعها.
وفي تلكَ اللحظة، دوّى صوت كيليان العميق.
“أرتيا فون إيدينبرغ.”
رفعت رأسها، وانعكس كيليان في عينيها الورديتين.
شعر بفرحةٍ هائلة تغمرُه.
“أنا… أحبُكِ.”
لقد كانت الحقيقة التي لَمْ يستطع الاعتراف بها حتى في أحلامه.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 154"