البحث عن زوج للدوقة - 139
الفصل 139 : كسر البيضة والخروج منها ²²
نظرت أرتيا إلى لوكا بحذرٍ قبل أنْ تسأله.
“هل هُناك سببٌ خاص يجعلُكَ تعمل خادمًا لدى السيدة تنغويل؟”
تردد لوما قليلًا قبل أنْ يُجيب.
“أنا آسف، لكنني لا أفهم ما تعنينهُ تمامًا.”
“أعني، هل تدفعُ لكِ أجرًا أعلى مِن غيرها؟ أم أنها قدمت لكَ معروفًا خاصًّا؟ أو رُبما هددتكَ بطريقةٍ ما؟”
رمش لوكا بعينيهِ الأرجوانيتين ببطء قبل أنْ يُجيب.
“أنا لا أتلقى أيَّ راتبٍ.”
اتسعت عينا أرتيا بصدمة.
مهما كان الأمر، فقد كانت تعرفُ أنْ تنغويل على الأقل لا تبخلُ بالمال.
“لماذا لا تتلقى راتبًا؟”
عند رؤية ملامح أرتيا الغاضبة، شعر لوكا وكأنهُ قد ارتكب خطأً ما، فسارع لتبرير موقفه.
“لأن سيدتي أنفقت مبلغًا ضخمًا لأخذي مِن مالكي السابق.”
قطبت أرتيا حاجبيها.
في بعض الأحيان، كان أصحاب العمل يدفعون رسوم كسر العقد لجلب عمال لَمْ تنتهِ عقودهم بعد.
لكن هَذا الوضع كان مُختلفًا تمامًا.
“ما علاقة المال الذي دفعتهُ لأجلكَ بعدم دفعها راتبًا لكَ؟”
شعر لوكا وكأنَّ أنفاسهُ انحبست عند سماع سؤال أرتيا.
لأنهُ لَمْ يكُن يعلم الجواب بنفسه.
بعد صمتٍ طويل، أجاب بصعوبة.
“لقد كان الأمر هَكذا دائمًا.”
“ماذا…؟”
“منذُ أنْ بدأتُ العمل، كان كُل مَن أخذني يدفع المال. ولأنهُم دفعوا مبلغًا كبيرًا، كانوا يخبرونّي بإنه عليّ أنْ أكون مُمتنًّا وأعمل بجد.”
“……”
لَمْ تستطع أرتيا استيعاب هَذا الكلام.
وهَذا هو الفرق بين أرتيا ولوكا.
فبينما نشأت ارتيا نبيلةً تُحيط بها الامتيازات والتبجيل، كان لوكا مجرد كودراني نشأ في القاع، مُحتقرًا ومهمشًا.
نظر إليّها لوكا بحذر، ثم تحدث بنبرةٍ خجولة.
“سيدتي لا تدفعُ لي راتبًا، لكنها تمنحني أشياء ثمينة.
لقد سمحت لي بالعيش في غرفةٍ تدخلها أشعة الشمس، وأعطتني عشرات الملابس الفاخرة، بل وتُحضر لي الطعام بنفسها.”
لكن أَرْتِيَا لَمْ تستطع أنْ تقول: ‘يا لكَ مِن محظوظ، إنها تعاملُكَ أفضل معاملة!’.
لأنها كانت تفهم نوايا تنغويل جيدًا.
‘إنها فقط تهتم كما يهتمُ المرء بحيوانهِ الأليف.’
عند رؤية نظرتها، بدا لوكا مُحبطًا.
رغم ضخامة جسدهِ، إلا أنهُ شبك يديهِ معًا وتململ بتوترِ، غيرِ مُتأكد مِما يجب أنْ يقوله بعد ذَلك.
بعد صمتٍ طويل، تحدثت أرتيا مُجددًا.
“لوكا، اترك هَذا المكان وتعالَ إلى منزلي.”
“ماذا؟”
“أعلم أنني أطلبُ منكَ الكثير رغم أننا التقينا مرتين فقط، لكنني لا أريدً إرسالكَ مُجددًا إلى تنغويل. مِن غير المقبول أنْ يُعامل أحدٌ البشر وكأنهم عبيد.”
“……”
“لَن أجبركَ على البقاء في منزلي إلى الأبد. يُمكنكَ الرحيل متى شئت، أو حتى العودة إلى هُنا إنْ رغبت. الأمر متروكٌ لكَ. ماذا تريدُ أنْ تفعل؟”
طوال حياته، كان هُناك العديد مِن النبيلات اللواتي طلبن منهُ أنْ يأتي إلى منازلهن.
لكن ولا واحدةٍ منهُن سألتهُ عن رأيه.
“أنا…”
عند سماع هَذا السؤال لأول مرة، خفق قلبُه بعنفٍ وجف حلقُه.
ظل صامتًا طويلًا قبل أنْ يتمكن أخيرًا مِن الإجابة بصوتٍ خافت.
“لا أعلم…”
حتى هو شعر بأنَّ جوابهُ كان سخيفًا.
عضَّ شفتيهِ بقلق.
هل ستغضب؟
أم أنها، بما أنها شخصٌ مُتسامح، ستتنهَّد فقط وتراهُ تافهًا؟
لكن أرتيا تصرفت بشكلٍ مُختلفِ تمامًا عن توقعاته.
“فهمت. إذن، فكِّر بالأمر أكثر، وأخبرني عندما تتخذ قرارك. لكن، بالمُقابل… يجبُ أنْ تُفكر وأنتَ بجانبي.”
“……؟!”
لَمْ تمنحهُ أرتيا فرصةً للاعتراض.
بل أخذتهُ إلى العربة وعادت بهَ إلى المنزل معها.
* * *
رمشَ لوكا بعينيه.
قبل ساعاتٍ فقط، كان مُمددًا على الأرض، مراقبًا مزاج تنغويل، أما الآن، فقد وجد نفسهُ داخل قصر عائلة الدوق إيدينبرغ.
الغرفة التي أرشدتهُ إليّها الخادمة كانت بحجمٍ مُناسب ونظيفةً ومرتبة.
بعد فترة، عادت الخادمة مُجددًا حاملةً وجبة الطعام.
على الطبق، كان هُناك حساءٌ دافئ، وخبزٌ دائري، ولحمٌ مشوي.
لكن لوكا، الذي فوجئ بالأحداث المُفاجئة، لَمْ يشعر برغبةٍ في الأكل.
“لكن إنْ تركتُ الطعام، سأتعرضُ للتوبيخ…”
أخذ قضمةً صغيرة مِن الخبز بدافع الواجب، ولكن عينيهِ اتسعتا فورًا.
“لذيذ!”
كانت تنغويل تُراقب نظامه الغذائي بعناية، بحجة أنهُ لا يجب أنْ يزداد وزنه.
لهَذا، كان عليهِ أنْ يأكل طعامًا صحيًّا تمامًا، بلا أيِّ نكهة، وبنفس القائمة كُل يوم.
أما الآن، فكان يتذوق طعامًا مُتبلًا بشكلٍ مُناسب لأول مرةٍ منذُ زمنٍ طويل.
وفي لمح البصر، كان قد التهم كل ما في طبقه.
عندها، عادت الخادمة مُجددًا، جالبةً ماءً للاستحمام وملابس نظيفة.
لَمْ تكُن جديدة، لكنها كانت مغسولةً بعناية ومرتبة، والأهم مِن ذَلك، أنها لَمْ تكُن مبالغًا في فخامتها كما كانت ملابسه في قصر تنغويل.
بعد فترة، كان لوكا قد استحمَّ وارتدى ملابسهُ الجديدة، جالسًا على طرف السرير.
نظر إلى السماء المُظلمة، وفجأةً، عادت ملامحهُ الجميلة إلى القلق.
“الجد نوما…”
كان نوما، جده، يغسل الملابس القذرة في قبو متجر يديرهُ أحد سكان الإمبراطورية.
ولأنه لَمْ يكُن هُناك مِن يعتني به، فقد كان يحمله معه دائمًا.
حتى عندما كان صغيرًا، كان لوكا جميل الملامح، لكن أحدًا لَمْ يلاحظ ذَلك في ذَلك المكان.
فَلَمْ يكُن هُناك مِن يهتمُ بصبيٍ كودراني قذر.
لكن عندما بلغ الرابعة عشرة، بدأ جسدُه في التغيّر، وبدأ الناس ينظرون إليّهِ بشكلٍ مُختلف.
وكانت أول مِن لاحظ ذَلك هنَّ الخادمات اللاتي كنَّ يعملن مع جده.
“ما هَذا الجمال؟ هَذا الفتى وسيمٌ بشكلٍ لا يُصدق!”
ضحكنَ، وبدأن يلمسنهُ دوّن تردد، وبعضهن ضربن مؤخرته مازحات، مطالباتٍ إياه بالزواج منهن عندما يكبر.
لوكا لَمْ يكُن يستطيع الاعتراض أو إظهار امتعاضهٍ، بل كان يكتفي بالضحك.
لأن ذَلك كان الشيء الوحيد الذي يُمكن أنْ يفعله فتى كودراني في وضعه.
وفي أحد الأيام، التقى بزوجة صاحب المتجر.
لَمْ يكُن اللقاء صدفة.
فقد سمعت المرأة حديث الخادمات عن وسامته، فجاءت لرؤيتهِ بنفسها.
“ارفع رأسكَ.”
رفع لوكا رأسهُ ببطء، وعندها اتسعت عينا المرأة، ثم ابتسمت بخُبث.
كأنها وجدت لعبةً أعجبتها كثيرًا.
ومنذُ ذَلك اليوم، أصبح الخادم الخاص بها.
“كيف نشأ فتى كودراني بهَذا الجمال؟”
كانت تتحدث باستهزاء، لكنها لَمْ تتركه بعيدًا عن ناظريها.
لكن عندما عاد زوجها مِن سفره، ورآها مع لوكا، استشاط غضبًا، وكأنهُ ذكرٌ سُلبت منه أنثاه.
وفي ذَلك اليوم، قام بتحطيم جسد لوكا ضربًا، ثم ألقى بهِ خارج المنزل.
“أحدهم، أرجوكم… أنقذوا حفيدي!”
كان نوما يلهث، يبحث عن طبيب.
لكن الجميع رفضوا، قائلين إنهم لا يريدون علاج كودراني.
إلى أنْ ظهر طبيبٌ واحدٌ فقط، وافق على علاجه…
لكن بضعف الأجر المُعتاد.
لَمْ يستطع نوما حتى الغضب، فقد كان الخيار الوحيد لإنقاذ حفيده.
بفضل العلاج، استعاد لوكا صحته، لكن وجهُ جده بقي قاتمًا.
فقد تم طردُهما مِن المتجر، وحتى بعد جمع كُل المال الذي استطاع توفيره، لَمْ يكُن كافيًا لتغطية تكاليف العلاج.
حينها، أمسك لوكا بيده المتجعدة.
“لا تقلق، جدي. سأجلبُ المال.”
وهَكذا، غادر لوكا المنزل.
بحث في كُل مكان عن عمل.
لكنهً لَمْ يجد سوى الإهانات والشتائم، وأحيانًا، كان يتلقى دلوًا مِن الماء القذر فوق رأسه.
لكنهُ لَمْ يستسلم.
وأخيرًا، وجد شخصًا يوافق على تشغيله.
قال له الرجل، الذي كان يُشبه الجرذ.
“هل يُمكنكَ القيام بأيِّ شيء؟”
“نعم! فقط أعطني فرصة!”
رد لوكا بصوتٍ أعلى مِن المُعتاد، مُتلهفًا للعمل.
وهَكذا بدأ.
كان عليهِ خدمة زوجة صاحب المنزل.
ومع مرور الوقت، تغيّرت الأسماء، وتغيّرت الوجوه، لكن طبيعة العمل بقيت كما هي.
النساء الثريات أردنه، وكانوا يضحكون بسخريةٍ بينما يُجبرنه على تنفيذ رغباتهن.
عاد لوكا مِن ذكرياته إلى الواقع، وهمس بصوتٍ خافت كأنهُ يحُدث نفسه.
“السيدة أرتيا مُختلفةٌ عن البقية. إنها طيبةٌ… ورحيمة.”
لكن حتى لو كان رأيهُ فيها إيجابيًّا، لَمْ يكُن ذَلك يعني أنهُ يثق بها.
كان يعتقد أنه بما أنها أخذتهُ إلى منزلها، ووفرت له حياةً مريحة، فلا بد أنْ هُناك شيئًا تُريده منه.
وبالنسبة له، كان مُستعدًّا لفعل أيِّ شيءٍ تطلُبه.
لأنه لَمْ يعرف أيِّ طريقةٍ أخرى للعيش.
نظر إلى الباب المُغلق بعينين مُنطفئتين، مُترقبًا ظهورها.
لكن، وعلى عكس توقعاته…
أرتيا لَمْ تأتِ.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة