البحث عن زوج للدوقة - 132
الفصل 132 : كسر البيضة والخروج منها ¹⁵
في الإمبراطورية، كانت العروض المسرحية تنقسم إلى نوعين واضحين تمامًا.
أحدهُما يُنتج في القصر الإمبراطوري ويُعرض أمام شخصياتٍ مُحددة، والآخر يُعدّه العامة ويُعرض لأيِّ شخصٍ مُقابل المال.
بطبيعة الحال، لَمْ يكُن النبلاء يعترفون بالفن إلا في النوع الأول.
أما النوع الثاني، فقد اعتبروه مُجرد أعمالٍ رديئة يبتكرُها العامة بدافع الجشع والربح، دوّن أيِّ قيمةٍ حقيقية.
لذَلك، لَمْ يكُن مِن اللائق بنظرهم أنْ تخوض سيدةٌ نبيلة في مثل هَذا المجال.
“رغم أنها دأبت على القيام بتصرفاتٍ صادمة منذُ طلاقها، إلا أنْ الأمور باتت تتجاوز الحدود. يبدو أنها تخلّت تمامًا عن أيِّ اعتبارٍ لمكانتها كنبيلة.”
لكن لَمْ تكُن جميع الآراء سلبية.
فقد دافعت عنها بعض النساء اللواتي تجمعهنَ بها صداقة، وعلى رأسهن سيدات الزهور.
“بصراحة، لا توجد عروضٌ مسرحية تستحقُ المشاهدة في الإمبراطورية. العروض التي يُنتجها القصر الإمبراطوري ذاتً مستوى رفيعٍ لكنها مُكررة المحتوى، في حين أنَّ عروض العامة مُمتعةٌ لكنها تفتقر إلى الجودة.”
لذَلك، كان عشاق المسرح يضطرون للسفر إلى الخارج لمُشاهدة العروض.
“أنا متشوقةٌ لمعرفة ما ستُنتجه عندما يتم تمويل العروض برأس مالٍ ضخم.”
لكن أحدُ الرجال سخر قائلًا.
“هاه، امرأةٌ لا تُجيد سوى احتساء الشاي في منزلها، ماذا يُمكن أنْ تُنتج؟ لَن تُدرك مدى صعوبة كسب المال إلا بعد أنْ تُهدر ثروتها وتفشل فشلًا ذريعًا.”
تحوّل هَذا الموضوع إلى حديث الساعة بين النبلاء، حيثُ كثرت الآراء المتباينة، مِما زاد مِن تأثيرهِ وانتشاره.
وفي نهاية المطاف، وصلت هَذهِ الأحاديث إلى مسامع الإمبراطورة في القصر.
كانت مستلقيةً على أريكةٍ طويلة عندما عقدت حاجبيها بضيق.
“إيدينبرغ مُجددًا؟”
منذُ أنْ أعلنت طلاقها، كانت مصدر إزعاجٍ لها.
ثم تدخلت في مُحاكمة الكونت إليزيوم وزوجته، وأصبحت إيثيريال.
والآن، تجرؤ على الدخول إلى عالم الأعمال؟
كانت الإمبراطورة تكرهُ كُل مَن يُثير استياءها.
“هل تحتاجُ إلى درسٍ قاسٍ كي تتصرف بشكلٍ لائق؟”
“لا تهدري طاقتكِ في أمورٍ لا داعي لها، يا أمي.”
رفعت الإمبراطورة رأسها مُتفاجئةً عند سماع الصوت المُنخفض، لتجد أنَّ كيليان كان قد دخل الغرفة دوّن أنْ تشعُر.
ازدادت نظراتُها حدةً فور رؤيته، لكنهُ تابع كلامه ببرود.
“أنا أتابعً مشروع أرتيا فون إيدينبرغ عن كثب. التدخل فيهِ لَن يعود عليكِ بأيِّ فائدة.”
كانت نبرتُه هادئة، لكن كلماتُه حملت تهديدًا مُبطنًا.
شعرت الإمبراطورة بالضيق، لكنها لَمْ تعاتبه على أسلوبه.
فَلَمْ تكُن تكنّ له مِن المشاعر ما يكفي لفعل ذَلك.
لكنها لَمْ تخفِ دهشتها.
“ولماذا تهتمُ بمثل هَذا المشروع التافه؟ … ثم إنكَ تدخّلت أيضًا عندما حصل طلاقُها، أليس كذَلك؟”
لمعت نظرةٌ غريبة في عينيها.
“لا تقل لي أنكَ مُهتمٌ بتلكَ الفتاة؟”
أجابها كيليان بوجهٍ بارد وهو يومئ برأسه.
“نعم، مُهتم بها. صحيح أنْ دوقية إيدينبرغ فقدت مكانتها، لكنها كانت ذات يوم واحدةً مِن أعمدة الإمبراطورية منذُ عهد الإمبراطور الأول. ببعض التعديلات والاستثمار المدروس، يُمكنها استعادة قوتها، مِما سيجعلها داعمًا للإمبراطورية مُجددًا.”
كانت طريقة تفكيره، التي تقيّم الناس بناءً على فائدتهم للإمبراطورية والعائلة الإمبراطورية، نسخةً طبق الأصل عن والده.
وضعت الإمبراطورة يدها على فمها، تكاد تتقيأ مِن الاشمئزاز.
أما كيليان، فاكتفى بالنظر إليّها بصمت.
أدركت الإمبراطورة مغزى نظراتهِ، فتكلمت بوجهٍ مُتجهم.
“لَن أتدخل. هل هَذا كافٍ؟”
“قرارٌ حكيم.”
رمقتهُ الإمبراطورة بنظرةٍ قاتلة، ثم أدارت وجهها بعيدًا.
لَمْ تعُد تحتمل رؤية وجه ابنها، الذي كانت تعشقًه نساء الإمبراطورية بأسرها.
“أين أرسين؟”
“نائمٌ بعمق.”
ارتعشت رموشها الطويلة قليلًا قبل أنْ تطلق زفرة ارتياح.
في تلكَ الليلة، حين شرب كيليان مع أرتيا في ريجو، وصله تقريرٌ طارئ مِن نوكتورن، فهرع عائدًا إلى القصر الإمبراطوري.
ما إنْ رأتهُ الإمبراطورة حتى صفعت خده وهي تبكي بحرقة.
“كيف يُمكنكَ الحضور الآن فقط؟! انتظرتَ حتى يلفظ شقيقُكَ أنفاسه الأخيرة، أليس كذَلك؟!”
كان غياب كيليان عن القصر سرًّا لا يعرفُه سوى نوكتورن، لكن حتى لو علمت الإمبراطورة به، لما كان ليُغيّر مِن مشاعرها.
فَحين يتعلق الأمر بأرسين، كانت تفقدُ كل منطقها.
تجاهل نظراتها المليئة بالكراهية، ودخل الغرفة.
“هاه… هاه…”
كان أرسين مُستلقيًا على السرير، يلهثُ وكأنه يحتضر.
تحلق حوله ثلاثة أطباء، لكنهم لَمْ يستطيعوا فعل شيءٍ سوى التعرق بغزارةٍ مِن التوتر.
اقترب كيليان منهُ بسرعةٍ، واحتضن جسدهُ الهزيل.
لو كان جسدُه محمومًا، لكان الأمر أقل رعبًا.
لكن جسد أرسين كان باردًا كالجليد.
ربّت كيليان على ظهر شقيقهِ الهزيل.
“أنا هُنا… أخي.”
نظر كيليان إلى أرسين، الذي كان يلهث دوّن أنْ يتمكن حتى مِن الرد، ثم واصل حديثهُ بصوتٍ هادئ.
“ستكون بخيرٍ قريبًا.”
لَمْ يكُن كيليان يملك القدرة على شفاء الآخرين بالسحر.
لو كان جسد أرسين محمومًا، لكان ذَلك أقل إثارةً للرعب، لكن جسدُه كان باردًا كالجليد.
على مدى سنوات، بذل كيليان كُل جهوده لمساعدة أرسين، لكن دوّن جدوى.
ومع ذَلك، في كُل مرةٍ كان أرسين يعاني مِن أعراضٍ مجهولة السبب، كان ضمهُ إلى صدره يُخفف مِن حالتهِ تدريجيًا بشكلٍ غريب.
لكن هَذهِ المرة، استغرق الأمر وقتًا أطول مِن المًعتاد.
استمرت حالتُه في التدهور لثلاثة أيامٍ متواصلة، قبل أنْ يستقر تنفُسه أخيرًا. حتى بعد ذَلك، كان يُعاني مِن نوباتٍ مُتقطعة مِن التنفس المضطرب، إلى أنْ تعافى تمامًا مؤخرًا.
بينما كانت الإمبراطورة تمسح بلطفٍ خد أرسين، الذي نام بوجهٍ هادئ، تكلمت ببرود.
“يكفي، يُمكنكَ الذهاب الآن.”
كان كلامها موجّهًا إلى كيليان، الذي كان واقفًا خلفها.
لَمْ يكُن بحاجة لرؤية وجهها ليعرف مدى شفقة نظراتها وهي تنظرُ إلى أرسين.
حدّق فيهما كيليان طويلًا، ثم أومأ برأسه.
“حسنًا.”
لَمْ تكُن هَذهِ المرة الأولى.
كم مرةً شعر بأنهُ الابن المنبوذ؟
كان البكاء بسبب الشعور بالظُلم شيئًا مِن الماضي.
أما الآن، وهو شابٌ في الثالثة والعشرين مِن عمره، لَمْ تعد دموعه تنهمر، ولَمْ يعُد قلبه يؤلمه.
لكن… كان يشتاق إلى رؤية أرتيا فون إيدينبرغ.
***
في المكتب المؤقت داخل الملحق التابع لقصر إيدينبرغ،
كان هُناك لافتة مُعلقة على الباب تحمل اسم ‘إيدينبرغ للإنتاج’.
عندما سمعت أرتيا صوت طرق الباب، التفتت بسرعة، ثم أطلقت صرخة صغيرة.
“آآآآه!”
كان وجه رام أكثر شحوبًا مِما رأتهُ قبل أيامٍ قليلة.
“هل… هل أنتَ بخير؟”
“أوه، نعم… لَمْ أنم طوال الخمسة أيام، لذا أبدو هَكذا، لكني لَن أموت… على الأرجح…”
“كلمة ‘على الأرجح’ هَذهِ تثير قلقي حقًا.”
“لا تقلقي… لَن أدع ملك الموت يسحبُني قبل أنْ أنهي هَذا العمل…”
كان وجهُه يوحي بأنه على شفا الموت، ومع ذَلك، قال هَذهِ الكلمات بجنون وهو يمدّ يده بمجموعةٍ كبيرة مِن الأوراق نحو أرتيا.
كان ذَلك هو السيناريو الذي أنهك روحهُ لإكماله.
ما إنْ انتهت أرتيا مِن قراءته، حتى شبكت يديها بامتنانٍ له.
“مُذهل، رام! حتى بِمُجرد قراءة النص، أستطيعُ أنْ أتخيل روعة المسرح الذي سنصنعُه.”
رام، الذي كان يُعرف بعبقري الإخراج، لَمْ يعتبر هَذا الإطراء شيئًا استثنائيًا، بل ردّ بكُل طبيعية.
“بما أنْ السيناريو جاهز، فقد حان الوقت لاختيار مِن سيُجسّد هَذهِ الكلمات على المسرح.”
لمعت عيناهُ المُتعبة بحماس.
“رغم أنْ صناعة المسرح في إمبراطوريةٍ عتيقة كروثٍ مُتراكم منذُ ألف عام، إلا أنني خرجت مِن وسطها كعبقري. وبالنسبة للمُمثلين، هُناك العديد مِن المواهب التي لَمْ تُكتشف بعد.”
كانت شركة الإنتاج حديثة العهد، لكنها تابعة لدوقية إيدينبرغ، مِما منحها مصداقيةً كبيرة.
أضف إلى ذَلك الأجور العالية التي لَمْ يكُن بإمكان أيِّ شركةٍ أخرى تقديمها، ووجود رام، المُخرج العبقري، في طاقم العمل.
لذَلك، لَمْ يكُن هُناك أيُّ ممثلٍ سيرفض فرصة المشاركة في هَذا المشروع.
وهَكذا، بدأ طاقم العمل بالتشكّل تدريجيًا.
وفي اليوم الذي التقت فيه أرتيا بالمُمثلين الذين سيلعبون الأدوار الرئيسية، لَمْ تستطع منع نفسها منِ التعليق بذهول.
“يا إلهي، لقد خرج راينهارت وماريا مِن بين صفحات الرواية!”
لَمْ يكُن هَذا مُجرد تعبيرٍ مجازي.
كان الممثل الذي سيؤدي دور البطل رجلاً طويل القامة، بجسدٍ ضخم جعلها ترفعُ رأسها لتنظر إليّهِ، تمامًا كما في الرواية قلب الدوق الشمالي المُشتعل.
أما المُمثلة التي ستؤدي دور البطلة، فكانت امرأةٌ جميلة ذات عيونٍ مائلة للأسفل، مُطابقةً تمامًا لوصف ماريا في القصة.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة