البحث عن زوج للدوقة - 123
الفصل 123 : كسر البيضة والخروج منها ⁶
لو تأخر ولو لثانيةً واحدة، لكاد يسقط مِن النافذة.
لكن كيليان، الذي ما زال صغيرًا، لَمْ يكُن يُدرك مدى خطورة الموقف، بل اكتفى بنفخ شفتيه.
“لا ينبغي أنْ أعود إلى شكلي الحقيقي بعد…”
كان ينوي فقط الدخول للحظاتٍ وإلقاء نظرةٍ سرية على أرسين.
لكن بهَذهِ الهيئة، لَمْ يكُن بإمكانهِ المرور عبر النافذة الصغيرة.
“ماذا أفعل؟ إذا كُشفت، سأتعرضُ لعقابٍ شديد.”
غير أنْ تردده لَمْ يدُم طويلًا، فقد نهض كيليان بحزم.
حتى لو عوقب، كان مُصممًا على تحقيق هدفهِ مِن القدوم إلى هُنا.
الغرفة، التي كانت بحجم غرفة كيليان، كانت مليئةً بالأشياء: ألعاب، كتب، دمى، زهور… وعلى السرير الكبير وسط كُل ذَلك، كان هُناك طفلٌ مُستلقٍ.
كان ذَلك الطفل هو أرسين فون أورفيوس، الأخ الأكبر لكيليان وصاحب هَذهِ الغرفة.
تقدم كيليان خطوةً واقترب مِن السرير.
كانت الليلةً مُظلمة بلا ضوء قمر، ولَمْ يكُن هُناك مصباحٌ واحد مضاء، لكن بفضل بصرهِ الحاد في الظلام، تمكن مِن رؤية أرسين بوضوح.
لكن ما رآه لَمْ يكُن كما تخيله أبدًا.
شعرٌ طويل ناصع البياض كالعجائز في القصص الخيالية، وجهٌ شاحب بلا أيِّ دماء. كانت ملامحهُ جميلة كدمية، لكن لَمْ يكُن فيها أيُّ حياة.
كأنهُ شخصٌ ميت.
ارتعدت أوصال كيليان.
لَمْ يسبق لهُ أنْ رأى جثةً مِن قبل، ومع ذَلك، شعر بعدم الارتياح تجاه أرسين بشكلٍ غريزي.
إنه الإحساس الغريزي الذي تشعرُ بهِ الكائنات الحية.
وفي اللحظة التي تراجع فيها لا شعوريًا، فتح أرسين عينيهِ فجأة.
عينان ذهبيتان.
لكن، على عكس عيني كيليان المُتألقتين كأنهُما مغمورتان بالذهب، لَمْ يكُن في عيني أرسين أيُّ ضوء.
كانتا فارغتين تمامًا، مِما أعطى انطباعًا بالفراغ المُطلق.
وبينما كان كيليان مشدوهًا بذَلك المشهد، فتح أرسين شفتيهِ وتحدث.
“كِيليان؟”
“……!”
كان صوته خافتًا لدرجة أنهُ لَمْ يكُن ليسمع في غير سكون الفجر. ومع ذَلك، سمعه كيليان بوضوحٍ شديد.
قطب كيليان حاجبيهِ واتخذ تعبيرًا حذرًا كقطةٍ متوجسة.
“كيف تعرفُني؟”
ابتسم أرسين برفق.
“بالطبع أعرفُكَ. أنتَ أخي الصغير…”
أخي الصغير.
كانت كلمةً غريبة، لكنها دافئةٌ بشكلٍ غير متوقع، مِما جعل ملامح كيليان تنبسطُ على الفور.
احمرّ وجهُه قليلًا.
“وأنا أيضًا أعرفُ اسمكَ، أرسين.”
ازدادت ابتسامةُ أرسين اتساعًا.
وبدأت ملامحه، التي كانت تُشبه الموتى، تستعيدُ القليل مِن الحياة.
رُبما لأنهُما مِن نفس الدم، أو لأنهُما وُلدا مِن نفس الرحم.
رغم أنهُما التقيا للمرة الأولى منذُ أربع سنوات، شعرا وكأنهما يعرفان بعضهُما منذُ زمن طويل.
بدأ كيليان يكتشفُ الكثير عن أرسين.
منذُ أنْ كان رضيعًا، لَمْ تكُن ساقاه تتحركان بشكلٍ صحيح، فَلَمْ يكُن قادرًا على المشي.
إذا تعرض لأشعة الشمس، شعر وكأنْ جلدهُ يحترق، فَلَمْ يستطع مُغادرة غرفتهِ أبدًا.
أما كيليان، فَلَمْ يكُن يعرف كيف يتعاطف مع مشاعر الآخرين، فقد نشأ دوّن أيِّ تفاعلٍ عاطفي تقريبًا.
لكن في ذَلك اليوم، وللمرة الأولى، شعر بألمٍ بسبب شخصٍ آخر.
“أنا أستطيعُ استخدام السحر.”
كان هَذا سرًا لَمْ يُخبر بهِ أحدًا مِن قبل.
حدّق أرسين بهِ بعينين مُتسعتين، فأكمل كيليان كلامهُ بحزم.
“سأدرسُ بجدٍ وأعالجكَ.”
“…….”
“ثم سنخرجُ معًا خارج القصر لنلعب.”
بعد بضع ساعات، حين استعاد قواهُ السحرية وعاد بأمانٍ إلى غرفتهِ، نام كيليان بفرحةٍ غامرة.
وفي تلكَ الليلة، حلم.
كان يومًا مشرقًا، وأشعة الشمس تتغلغل بين الأشجار الكثيفة في الغابة، حيث كان هو وأرسين يركضان بكُل طاقتهم.
أنا أسرع. لا، بل أنا أسرع.
تجادلا وهما يركضان، إلى أنْ رأيا خنفساء كبيرةً تُحلق بصوت طنين، فنسيا أمر السباق وبدآ بمُطاردتها.
كانا يبتسمان بسعادةٍ، وجبهتاهما تتصببان عرقًا.
كان ذَلك ثاني أمنيةٍ حقيقية لكيليان في حياته.
بعد ذَلك، كلما سنحت لهُ الفرصة، كان كيليان يتحول إلى طائرٍ صغير ويتسلل إلى غرفة أرسين.
تبادلا الأحاديث، قرآ الكتب معًا، وأحيانًا لعبا بالدمى.
كان كلاهُما وحيدين دائمًا، لذا كانت تلكَ الأوقات ثمينةً للغاية.
لكن ذَلك السر لَمْ يستمر طويلًا.
في أحد الأيام، اقتحمت الإمبراطورة غرفة أرسين فجأة.
كان كيليان جالسًا على السرير يلعبُ مع أرسين بدمى على شكل خيول، فاتسعت عيناهُ بصدمة.
“أ-أمي…”
لكن قبل أنْ يتمكن مِن تبرير موقفهِ، نزلت صفعةٌ قوية على خدهِ الصغير.
صفعة!
تحت قبضةٍ لا تعرفُ الرحمة، سقط كيليان مِن السرير مُباشرةً على الأرض، بينما حدّقت بهِ الإمبراطورة بعينين متقدتين وصاحت.
“كيف تجرؤ على الدخول إلى هُنا!”
لطالما كانت باردةً تجاه كيليان، لكن هَذهِ كانت المرة الأولى التي تلجأ فيها إلى العُنف.
كان الصبي مذهولًا للغاية لدرجة أنهُ لَمْ يستطع التفوه بكلمة، فأمسكت الإمبراطورة بذراعهِ النحيلة بقوة.
“أمي…!”
حاول أرسين التدخل، لكن دوّن جدوى.
سحبت الإمبراطورة كيليان وسحبته على الأرض، ثم رمته خارج الغرفة.
بوجهٍ يكسوه الذعر وكأنهُ عاجزٌ حتى عن التنفس، حدّقت بهِ الإمبراطورة وهي تصرخ.
“لا تقترب مِن أرسين مُجددًا!”
إذا تجرأت على ذَلك مرةً أخرى، سأقتُلكَ.
كانت نظرتها الغاضبة تنطق بهَذهِ الكلمات بوضوح.
منذُ ذَلك الحين، لَمْ يعُد بإمكان كيليان الذهاب لرؤية أرسين.
فالإمبراطورة ظلّت تُراقب أرسين حتى في منتصف الليل.
لَمْ يكُن لديهِ وقت ليحزن على معاملة أمهِ له أو ليأسف لعدم رؤية أخيهِ. كان عليهِ أنْ يعمل بجد.
‘سأُنمّي قوتي السحرية أكثر، وسأعالج أخي.’
حينها، لَن يظلّ أرسين يُعاني، ولَن تواصل أمي كراهيتي، أليس كذَلك؟
لكن ذَلك الحلم تحطم تمامًا.
لَمْ يتحقق حُلمه بالخروج مِن القصر مع أرسين وهو بصحةٍ جيدة.
حتى هَذهِ اللحظة.
***
“جلالتُك.”
عند سماعهِ الصوت العذب، التفت كيليان ليجد أرتيا تُحدق به بعينين واسعتين.
“هل حقًا لا يوجد شيءٌ ترغب في الحصول عليه لدرجة تجعلكَ تُفكر بجديةٍ هَكذا؟”
تمتمت أرتيا، وكأنها مستغربة.
“أنا لديّ الكثير مِن الأشياء التي أريدها…”
“هُناك شيءٌ أرغبُ في الحصول عليه.”
“ما هو؟”
“إذا أخبرتُكِ، هل ستُحققينه لي؟”
“إذا كان شيئًا يُمكنني فعله، بالطبع.”
“…….”
كانت عيناها الورديتان تتلألآن وكأنها مُتحمسةٌ لمعرفة ما سيقوله.
شعر كيليان بالذهول.
“أرتيا فون إيدينبرغ، هل تُدركين كم هو مخيفٌ ما قلتِه الآن؟”
أريدُ… أنْ أمسك بيدكِ.
أريدُ أنْ أشبك أصابعي بين أصابعكِ البيضاء النحيلة، حتى لا نفترق أبدًا.
أريدُ أنْ أضمّكِ بقوة، بقوةٍ تجعلُني أخشى أنْ تنكسري.
أريدُ أنْ أقبّل شفتيكِ، كما فعلتُ ذات مرة حين لَمْ تكوني واعيّة.
لا، بل بطريقةٍ أكثر رقة وإصرارًا مِن ذي قبل.
لكن لا يُمكنني أنْ أقول مثل هَذهِ الأشياء أبدًا.
لأنهُ في اللحظة التي أفعل فيها ذَلك، لَن تعتبريني صديقًا بعد الآن.
لَمْ يرغب كيليان في كسر هَذهِ العلاقة المُعجزة.
لذَلك، كبح كُل المشاعر التي غمرت عقله.
“فقط… ابقي بجانبي.”
“ماذا؟”
“تنفسي، تحدثي، وابتسمي.”
“…….”
لَمْ تعرف أرتيا كيف يجب أنْ يكون تعبيرُها.
بالنسبة لها، التي لَمْ تتمنّ سوى مكتبةٍ ضخمة مليئةٍ بالكتب التي تُحبها، كان طلب كيليان غامضًا للغاية.
رغم ارتباكها، شعرت بوخزةٍ خفيفة في قلبها.
‘إذًا، يريدُ فقط أنْ نبقى صديقين، أليس كذَلك؟’
يا لهُ مِن أسلوبٍ غريب في التعبير عن نفسه.
ابتسمت أرتيا، مُتمنيةً ألا يُسمع صوت دقات قلبها المتسارعة.
“حسنًا، سأفعل ذَلك.”
لَمْ تكُن تعلم أنْ الشخص الوحيد الذي حقق لكيليان ما تمناه يومًا…
كانت هي فقط.
***
جاءت إيفانجلين لزيارة أرتيا.
“كلما ذكركِ أحد، كان إخوتي الصغار يزمجرون بغضب، أما الآن، فقد أصبحوا هادئين بشكلٍ غريب. حتى أفراد العائلة الفرعية لا يتوقفون عن الإشادة بكِ كلما رأوكِ.”
ابتسمت أرتيا بسعادة.
“إذن، لَمْ تذهب جهودي سدى.”
“كسب ودّ الناس لا يعتمدُ فقط على الجهد. يبدو أنكِ بارعةٌ جدًا في ذَلك.”
كانت حقًا جديرةً بأنْ تُصبح الإيثيريال.
نظرت إليّها إيفانجلين بإعجابٍ.
“بما أنكِ أصبحتِ قريبةً مِن أفراد العائلة، حان الوقت للانتقال إلى المرحلة التالية.”
دووم!
وُضعت كومةً ضخمة مِن السجلات فوق المكتب.
أشارت إيفانجلين إليّها قائلة.
“هَذهِ سجلات العقارات والشركات التجارية وغيرها مِن الأملاك التي تمتلكها عائلة إيدينبرغ. إنها القوة الحقيقية لهَذهِ العائلة.”
“…….”
“إذا كنتِ ترغبين في امتلاك القوة، فعليكِ فهمُ كُل هَذا وإدارته بمهارة.”
حدّقت أرتِيا في الكومة الضخمة مِن السجلات.
رأت إيفانجلين تعبيرها، فضحكت قليلًا.
“لماذا هَذا الوجه؟ هل شعرتِ بالخوف الآن؟”
“……لا، بل أشعرُ بالامتنان.”
لمست أرتِيا السجلات برفقِ، ثم قالت بابتسامة.
“لَمْ أكُن أظن أنني سأحصل على فرصةٍ لرؤية هَذهِ الأشياء في حياتي.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة