البحث عن زوج للدوقة - 122
الفصل 122 : كسر البيضة والخروج منها ⁵
تركت الإمبراطورة تربية كيليان وتعليمه بالكامل للخدم.
كانت دائمًا بجانب ابنها البكر، أرسين، بينما كيليان نادرًا ما رأى وجه أمهِ وهو يكبر.
ومع ذَلك، كان كيليان دائمًا يتوق لرؤية الإمبراطورة.
كان ذَلك غريزةً طبيعية الطفل وُلِد ونشأ في رحمها.
لكن هَذا الحب كان مِن طرفٍ واحد.
كانت الإمبراطورة تعبُس بِمُجرد أنْ تلتقي عيناها بعيني كيليان. وإذا لامسها قليلًا، كانت تُبعد يده الصغيرة كما لو كان لمسُها كارثة.
وفي أحد الأيام، أُصيب كيليان بنزلة بردٍ شديدة.
لأنهُ كان بصحةٍ جيدة ولَمْ يمرض مِن قبل، فقد كان الألم الذي واجههُ لأول مرةٍ مؤلمًا ومخيفًا للغاية.
انهمرت الدموع مِن عيني كيليان الكبيرتين، رغم أنهُ لَمْ يكُن سوى طفلٍ في الثالثة مِن عمره.
“أمي…”
شحُب وجه المُربية عند سماع صوت كيليان الرقيق.
“صاحب السمو، انتظر قليلًا. سأذهب لاستدعاء صاحبة الجلالة الإمبراطورة.”
لكن الإمبراطورة لَمْ تأتِ. ولَمْ تعُد المربية أيضًا.
بعد أنْ أمضى أسبوعًا كاملًا في المرض، تعافى كيليان وسأل عن مكان مُربيته.
“أين ذهبت آن؟”
أجابت الخادمة بابتسامةٍ مُتكلفة.
“إنها ليست على ما يرام، لذا غادرت القصر لبعض الوقت.”
بعد بضعة أيام، أدرك كيليان أنْ ذَلك لَمْ يكُن صحيحًا.
لقد كان مُمددًا في سريره، مُغلقًا عينيه، وعندها سمع الخادمات يتهامسن، معتقداتٍ أنه نائم.
“آن لَن تعود إلى القصر أبدًا، أليس كذَلك؟”
“نعم، لقد أزعجت صاحبة الجلالة الإمبراطورة. بغض النظر عن مدى رغبة سمو الأمير في رؤية الإمبراطورة، كيف لها أنْ تجرؤ على الذهاب لاستدعائها؟”
“أنا لا أفهم صاحبة الجلالة الإمبراطورة. صحيح أنها تُحب صاحب السمو أرسين كثيرًا بسبب ضعفه، ولكن كيليان أيضًا ابنُها. كيف يُمكنها أنْ تكون قاسيةً بهَذا الشكل؟”
“ألا تعلمين السبب؟”
نظرت إحدى الخادمات إلى كيليان، الذي بدا نائمًا بعُمق، ثم خفضت صوتها.
“لقد أجبر جلالة الإمبراطور الإمبراطورة على المعاشرة، وهَكذا وُلد صاحب السمو كيليان.”
وُلد ولي العهد الأول ضعيفًا لدرجة أنهُ لَمْ يستطع حتى البكاء بشكلٍ صحيح.
تجمّع أمهر أطباء الإمبراطورية حولهُ لإنقاذ حياته، لكن حالتُه لَمْ تتحسن.
كان أرسين يمرض باستمرار، وكان دومًا تحت تأثير الأدوية القوية التي تجعلُه يغطّ في النوم.
في النهاية، اتخذ الإمبراطور قرارًا.
كان عليهِ أنْ يُنجب وريثًا آخر في أسرع وقتٍ مُمكن.
لَمْ يكُن لرأي الإمبراطورة أيُّ أهميةٍ في ذَلك القرار.
أُجبرت الإمبراطورة، التي لَمْ تكُن تفارق أرسين لحظة، على الانفصال عنه، وخضعت لإرادة الإمبراطور.
وبعد عامٍ واحدٍ فقط مِن ولادة طفلها الأول، أنجبت طفلها الثاني.
“لقد كانت حياة صاحبة الجلالة الإمبراطورة في خطرٍ أثناء الولادة لأنها لَمْ تكُن قد تعافت تمامًا مِن حملها الأول. فَكيف يُمكنها أنْ تشعر بأيِّ عاطفة تجاه هَذا الطفل؟”
بدا الغضب واضحًا في صوت الخادمة التي كانت تحترم الإمبراطورة.
“إذا كانت تكرهُه لدرجة أنها تُريد قتله، فذَلك أمرٌ آخر.”
لَمْ يكُن هَذا كلامًا يُمكن أنْ تقوله خادمةٌ تعمل في القصر الإمبراطوري.
ومع ذَلك، تمكنت مِن قول ذَلك بصوتٍ عالٍ لأن الإمبراطورة لَمْ تُخفِ كرهها لكيليان.
وفوق ذَلك، هل يُمكن لطفل لَمْ يتجاوز الثالثة مِن عمره أنْ يفهم مثل هَذا الحديث؟
بعد أنْ غادرت الخادمات الغرفة، فتح كيليان عينيه.
كان كيليان صغيرًا، لكنهُ كان أذكى بكثيرٍ مِن أقرانه. رُبما لَمْ يتمكن مِن فهم كل ما قيل، لكن هُناك شيءٌ واحد أدركه بوضوح.
“أمّي تكرهني… إلى حدّ الرغبة في قتلي.”
شعر بألمٍ يمزّق صدره.
كان ذَلك أشدّ إيلامًا مِن الحمى التي عانى منها لعدة أيام.
انهمرت الدموع مِن عينيه الذهبيتين.
“قالت آن إنْ الأمير لا يجبُ أنْ يبكي أبدًا أمام الآخرين.”
لذَلك، لذَلك، يجبُ ألا يراه أحدٌ وهو يبكي.
دفن كيليان وجههُ في الوسادة، محاولًا كتم صوته، وتنهد بصمت.
منذُ ذَلك اليوم، لَمْ يعُد كيليان يُلحّ في طلب رؤية أمه. لَمْ يعُد يركض نحوها بحماس.
كل ما فعله هو مراقبة تعابير وجهها، وبذل كُل جهدهِ لعدم إزعاجها.
وكأنَّ ذَلك كان السبيل الوحيد لطفلٍ صغير كي لا يُكرَه أكثر مِن قِبل أمه.
أما المرة الثانية التي شعر فيها كيليان بالرغبة في شيء ما، فكانت بعد مرور عام.
حتى ذَلك الحين، لَمْ يكُن قد رأى أرسين ولو مرة واحدة.
منذُ ولادته وهو ضعيف، بقي أرسين دائمًا في غرفتهِ الخاصة داخل جناح الإمبراطورة.
كانت الإمبراطورة تفرضُ رقابةً صارمة على الدخول إلى الغرفة، ولَمْ يُسمح لأحدٍ بدخولها سوى الإمبراطورة نفسها، والطبيب الخاص، وبعض الخادمات.
كلما مرَّ كيليان بجانب المبنى العالي حيث تقع غرفة أرسين، كان الفضول يشتعل في داخله.
“كيف يبدو أخي؟”
كان اسم أرسين مِن المُحرَّمات داخل القصر الإمبراطوري.
لَمْ يجرؤ الخدم على نطق هَذا الاسم أبدًا، ولهَذا لَمْ يكُن كيليان يعرف شيئًا عن أخيه تقريبًا.
“لا بد أنهُ يملك شعرًا أسود مثلي، وعينين ذهبيتين أيضًا، أليس كذَلك؟”
“بما أنهُ أخي الأكبر، فلا بد أنه طويل القامة، ويمكنهُ القفز عاليًا جدًّا.”
كان يريدُ رؤيته.
الشخص الوحيد في هَذا العالم الذي يُشاركه نفس الأب والأم.
ولكن مُجرد نطق اسم أرسين كان كفيلًا بإثارة غضب الإمبراطور والإمبراطورة كالرعد.
كان كيليان يعرفُ ذَلك جيدًا، ولهَذا لَمْ يستطع إخبار أحدٍ برغبتهِ في رؤية أخيه.
وفي أحد الأيام… رأى كيليان طائرًا صغيرًا يجلس على حافة نافذة غرفة أرسين المُرتفعة.
في تلكَ اللحظة، تلألأت عيناه الذهبيتان ببريقٍ مشع.
“إذا تحوَّلتُ إلى طائر، يُمكنني الذهاب لمُقابلة أخي!”
في ذَلك الوقت، لَمْ يكُن كيليان قادرًا على استخدام أيِّ قدرٍ مِن السحر.
حتى أساتذة السحر الذين درَّسوه أعربوا عن حزنهم، قائلين إنهُ لا يستطيع إطلاق أيِّ طاقةٍ سحرية، مِما يجعله عمليًّا شخصًا عاديًا.
ومع ذَلك، كان كيليان يشعرُ بوجود قوةٍ غامضة داخله.
قبض بيدهُ الصغيرة بإصرار.
“سأتحوَّل إلى طائر.”
كان قد درس نظريات استخدام السحر بما فيه الكفاية.
أغلق كيليان عينيهِ وركَّز بكُل حواسه.
“ابحث عن الطاقة الكامنة في جسدك، أيِّ السحر. استخرجه وفعِّله. الأمر ليس مُختلفًا عن إصدار صوت أو تحريك العضلات. بِمُجرد أنْ تتعلم الطريقة، ستتمكن مِن استخدامه كما لو كان جزءًا مِن جسدك.”
تذكَّر الكلمات التي كرَّرها أستاذه حتى كاد يُصاب بالصمم منها.
لكن حتى عندما كان الأستاذ يُساعده، لَمْ ينجح الأمر، فَكيف سينجح الآن فجأة؟
ومع ذَلك، لَمْ يستسلم كيليان.
حاول عشرات، بل مئات المرات، حتى شحُب وجهه الصغير وأصبح تنفسهُ مضطربًا.
“مرةً واحدةً فقط…!”
بكُل ما أوتي مِن قوة، استجمع كيليان طاقته، وأخيرًا تمكَّن مِن العثور على السحر الكامن داخله وسحبهُ للخارج.
لقد نجح في ذَلك مِن قبل عدة مرات، لكن المشكلة كانت في الخطوة التالية.
تحويل السحر إلى الشكل الذي يريدُه.
“أرجوك… أرجوك… أرجوك…!”
“أريدُ أنْ أرى أخي!”
بعد لحظات، انبعث ضوءٌ ساطع مِن جسدهِ الصغير، ثم تقلَّص حجمُه أكثر فأكثر حتى تحوَّل إلى طائرٍ صغير ناعم الريش، أسود اللون بعينين ذهبيتين.
“رائع، لقد نجحت!”
تغريد!
لكن بدلًا مِن صوتٍ بشري، خرج مِن فمهِ صوت زقزقة الطيور.
غير أنْ مُشكلةً جديدة ظهرت على الفور.
مهما رفرف بجناحيهِ القصيرين، لَمْ يتمكن مِن التحليق في الهواء.
كانت طاقتُه السحرية لا تزال غير مُستقرةٍ، لذا لَمْ يكُن مِن السهل التحرك بشكلٍ طبيعي كطائرِ حقيقي.
لحُسن الحظ، كان ينام وحدهُ دوّن خدم، مِما منحه الفرصة للتدرب على الطيران لياليَ طويلة بعد أنْ يتحول إلى طائر.
لَمْ يكُن كِليان موهوبًا في السحر، لكنهُ كان بارعًا بالفطرة في التحكم بجسده.
وهَكذا، لَمْ يمر وقتٌ طويل حتى تمكَّن أخيرًا مِن الطيران، ولو بشكلٍ غير مُتقن.
ثم جاء اليوم المُنتظر.
اختار يومًا غائمًا ومظلمًا قدر الإمكان، حتى يقل احتمال أنْ يراه أحد.
الآن، وقد أصبح أكثر مهارةً في استخدام السحر، تحوَّل كيليان إلى طائر صغير في لحظة.
وقف الطائر على حافة النافذة، وابتلع ريقهُ بتوتر.
كان السقوط مِن هَذا الارتفاع يعني تحطُمه مثل قطعةٍ مهروسة مِن الحلوى.
كان خائفًا بشدة، لكنهُ لَمْ يكُن مستعدًا للتخلي عن حلم تمناه طويلًا.
“هووف…”
أخذ الطائر نفسًا عميقًا، ثم ركض بخطواتهِ الصغيرة نحو النافذة المفتوحة، ناشرًا جناحيه القصيرين.
قفز جسدُه الصغير خارج النافذة.
“يُمكنني فعلها…!”
رفرف الطائر بجناحيهِ بأقصى قوته، فشعر بجسده يطفو في الهواء.
كان لا يزال ضعيفًا، لذا كاد أنْ ينجرف مع الرياح كلما هبَّت بقوة.
ولكن رغم ذَلك، لَمْ يتوقف الطائر. واصل الطيران، والطيران، والطيران، حتى وصل أخيرًا إلى هدفه.
إلى نافذة غرفة أرسين.
غير أنهُ بِمُجرد أنْ دخل مِن النافذة الصغيرة، عاد إلى هيئتهِ البشرية فجأة.
لقد استنفذ كُل طاقتهِ السحرية.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة