الفصل 17: أَنا أَبذُلُ كُلَّ ما بِوسعي مَهما كان الخَصم ⁸
لم يكن يختبرني كما يفعل أعضاء نقابة التّجار الذين يُشكّكون فيّ من الأساس، لكنّه استمرّ في التّلميح ومحاولة استكشافي.
“الجزر.”
لذا قرّرتُ ألّا أجيبه بصراحة.
أبدى الرّجل تعبيرًا يدلّ على الذّهول.
“الجزر؟”
“نعم، لأنّني أكره الجزر. لهذا لا أُميّز بين الجزر الجيّد والسيّئ. كلّه جزرٌ سيّئ بالنّسبة لي.”
“آه… هكذا إذًا… جزر، كما تقولين. لحسن الحظ، ما أحضرته ليس جزرًا.”
“حسنًا. ما دام ليس جزرًا، ضعه هنا من فضلك. ما اسمك؟”
“آه، ألم تسمعي عنّي من السيّد ميكيلي؟”
‘هاه؟ ما هذا؟’
بدأتُ أفهم سبب تلميحاته المستمرّة.
لم يكن يتكلّم بنبرة شخصٍ يشعر بالانزعاج لأنّي لم أتعرّف عليه كزبون دائم، بل كان يحاول أن يتحقّق من أمرٍ ما.
إذًا، هو لا يُشكّك بي، بل…
‘كأنّه يختبر ما إذا كنتُ أعرفه؟’
ضيّقتُ عينَيّ قليلًا.
“من فضلك، أخبرني باسمك كي أبحث عنه في السّجلّ.”
“لا داعي لذلك، سيّدة المتجر التي تكره الجزر. لن تجدي اسمي في السّجلّ.”
“…ألم تكُن زبونًا دائمًا؟ ظننتُك على معرفةٍ وثيقة بجَدّي، بما أنّك تعلم بوجود حفيدته. فهو عادةً لا يتكلّم عن نفسه.”
إذ كان يُخفي عن حفيدته حتّى كونه دوقًا، فليس غريبًا أن يُخفي أشياءً أخرى أيضًا.
“حسنًا، كنتُ أراه كثيرًا… على أيّ حال، لن تجدي اسمي في السّجلّ. بالمناسبة، هل يُمكنكِ إلقاء نظرة على هذا؟”
الرّجل الذي تهرّب من الإجابة وضع صندوقًا ذهبيًّا مستطيلًا.
بمجرّد النّظر إليه، بدا واضحًا أنّه شيءٌ باهظ الثّمن. فتحتُ الإضاءة وأحضرتُ العدسة المكبّرة بشعورٍ من الرّيبة.
‘لا يوجد سجلّ شراء أو بيع، ورغم ذلك يقول إنّه رأى الجدّ كثيرًا، ويستمرّ في اختباري، ويتجنّب إعطاء اسمه…’
فتحتُ الغطاء، فاكتشفتُ أنّ ما ظننتُه صندوقًا ذهبيًّا كان في الواقع علبة موسيقى.
بدأت الموسيقى تنبعث منها بنغمةٍ خفيفة وعذبة، فنظرتُ إليها مليًّا وقلت:
“سيّدي الزّبون.”
“نعم؟”
“هل أستطيع رؤية شهادة الضّمان؟”
“أمم، لا أملك واحدة.”
“وصل الشّراء؟ أو سجلّ مزاد؟”
“ليس لديّ أيٌّ منهما.”
“هل صنعتها بنفسك؟ أم طلبت من صانعٍ أن يُنتجها لك؟”
“لا، لا يمكنني ذلك.”
“إذًا، هل هناك قصّةٌ حول كيف حصلتَ عليها؟”
“مَن يدري؟”
الآن، بدأتُ أفهم.
فهمتُ لماذا كان يختبرني إن كنتُ أعرفه.
“…من أين حصلتَ على هذا بالضّبط؟”
“لماذا؟ هل لا قيمة له؟ هل أحضرتُ شيئًا تافهًا؟”
“لا، سيّدي الزّبون. هذا… مُقدَّس.”
هذا الشّخص، مهما نظرتُ إليه، ومهما نظرت إليهِ النّاس…
كان لصًّا.
-“جدّي، لماذا ملامحك متجهّمةٌ هكذا؟ صحيحٌ أنّك دائمًا تعبُس، لكن تجاعيد جبينكَ اليوم أعمق مِن المعتاد!”
-“لا تُفوّتين فرصةً لتسخري مِن جدّك، ها؟ لا بأس. الأمر أنَّ لصًّا وقحًا جاء ليبيع أغراضًا مسروقة.”
-“يا لهُ مِن وقِح! كيف تجرّأ على محاولة خداعك؟ يبدو أنَّ قلبه ميت!”
-“نعم، لكنّني لقّنتُه درسًا لن ينساه.”
-“فُاه، حين تقوله بهذه النّبرة، لا تبدو كمزحة.”
-“…..”
-“…جدّي؟”
لصّ.
وليس أيّ لصّ، بل لصٌّ جريء بما يكفي لسرقة مُقدّسات!
‘لا بدّ أنَّ قلبه مصنوعٌ من فولاذ…’
الوضع هنا يختلف عن تلك المرأة التي أحضرت القلادة ذات الزّمرد. فالرّجل هذا لم يُجب على أيّ سؤال.
لكن يبدو أنَّ اللصّ صُدِم أكثر منّي.
عيناه اتّسعتا حين سمع كلمة ‘مُقدّس’.
كرّرتُ الكلمة لأزيد من ارتباكه.
“مُقدَّس.”
فارتعد قليلًا.
لم يتردّد طويلًا.
“من أين سرقتَ هذا الشيء المقدّس؟!”
بدأتُ في التّحقيق فورًا.
“ك، كيف عرفتِ أنّه مُقدّس؟!”
بدلًا من أن يُجيب، راح يُلقي عليَّ أسئلةً لا طائل منها، كأنّه لم يتوقّع أبدًا أن أكتشف الأمر.
ولكنّني اكتشفتُه فورًا.
“هذا واضحٌ جدًّا!”
“لكنكِ قلتِ إنّكِ لا تعرفينني! وإنّكِ لم تسمعي عنّي من قبل!”
“وما علاقة هذا بالموضوع؟!”
كنتُ على وشك الضّغط على زرّ جهاز الأمان السّحري، حين…
خطف اللصّ علبة الموسيقى المُقدّسة وهرب بسرعة.
“كوووم!”
انغلق الحاجز الحديدي بعد فوات الأوان، ووجدتُ نفسي محبوسةً بالداخل.
“ل، لستُ سارقًا! لم أسرق شيئًا!”
“وهل هناك لصٌّ يُعلن عن نفسه هكذا؟!”
“العالم واسع! لعلّ هناك من يفعل!”
هل هذا منطق؟ ربّما. العالم كبير، والنّاس أغرب مِمّا نتصوّر.
لكن مهلًا! ليس هذا وقت التّفكير المنطقي!
‘الرّذاذ! أين الرّذاذ السّحري؟!’
أمسكتُ بجهاز الرّذاذ للحماية ورششتُه بسرعة.
لكنّي نسيتُ أمرًا مهمًّا…
كان المطر يهطل خارج النّافذة بشدّة.
وفور أن رششتُ الرّذاذ، هبّت الرّيح محمّلةً بالماء…
“آآخ! يُؤذيني!”
الرّذاذ أصابني أنا.
شعرتُ وكأنّي استحممتُ بالفلفل. انهمرت دموعي بغزارة.
وأنا أتدحرج على الأرض ألماً، سمعتُ صوت اللصّ.
“أنا لستُ سارقًا! أعلم أنّكِ قد تُسيئين الفهم، لكن صدّقيني!”
“ههك، ههك…”
“ليس وقت الحديث، سأشرح لاحقًا!”
“أيُّ لاحقًا؟! توقّف هناكاااتـ! آتشو! أووه، هذا جنون…”
“هيي! هناك! على اليمين! فوق! لا، تحت قليلًا! نعم، هناك! هناك ماء!”
بدأتُ أُلوّح بيدي كما قال حتّى أمسكتُ بزجاجة ماء.
لكنّها لم تُخفّف الألم أبدًا. زحفتُ على الأرض نحو المنضدة وأنا أجهش بالبكاء.
“بما أنَّ الحال هكذا، خذي راحةً اليوم!”
هل يُمازحني الآن؟!
أردتُ الردّ، لكن العطس سبقني.
كنتُ أُعاني من نوبة عطسٍ متواصلة، وفي الأثناء صرخ اللصّ وهو يبتعد.
“أنا جادّ! سأُخبركِ باسمي! كريسنت! سأعود لاحقًا!”
لا تعُد! لا أُريد اسمك ولا همّك! لم أسألك أصلًا!
لكنّي لم أستطع قول شيء. كلّ ما خرج من فمي كان: “لا ت… آتشووو!”
جلستُ على الأرض المبلّلة أتنشّق، والدموع تملأ عيني.
لو رآني أحد، لظنّ أنّ بي مأساةً كبيرة.
“ههك، آآخ… ما هذا بحقّ…”
وأنا أُفرك عيني وسط بكائي، علِقت في يدي بطاقة.
بطاقة ‘ألتر’.
يبدو أنّها التصقت بي وأنا أُمسك بالأشياء بلا وعي.
وضعتُها جانبًا ونهضتُ بصعوبة.
رششتُ قليلًا من ماء القُدسيّة الذي كنتُ أُخفيه في الخزنة، فشعرتُ بتحسّنٍ طفيف.
‘شكرًا لك، أيّها الشّجرة المُقدّسة. لم أكن أعلم متى أحتاج هذا، لكنّه نفعني الآن.’
أعدتُ الزّجاجة إلى مكانها، ونظرتُ إلى المتجر المبعثر بعينَين متورّمتَين.
ثمّ توصّلتُ إلى نتيجتَين.
أوّلًا: رذاذ الحماية السّحريّ فعّال، لكنّه لا يصلح للرّدع. يجب أن أشتري نوعًا آخر.
ثانيًا: أين اختفى منشفي؟
“هل هذا الوغد أخذ منشفي؟”
لا فائدة من النّكران. إنّه لصّ، ولا شكّ في ذلك!
***
توقّف كريسنت بعد أن تأكّد أنَّ المرأة لا تُلاحقه.
أخرج علبة الموسيقى الذهبيّة بحذر.
“لا أظنّ أنَّ ميكيلي أخبرها عنّي.”
استرجع مشهد المواجهة في ذهنه.
أشعلت المصباح، وأحضرت العدسة. العدسة التي استخدمتها كانت من نوعٍ تجاريّ عاديّ، فقط لتقدير القيمة.
لم تكن أداةً سحريّة ولا تحتوي على طاقةٍ مُقدّسة.
ومع ذلك…
“…كيف عرفت مُباشرةً أنَّ هذه العلبة مُقدّسة؟”
حتى ميكيلي، جدّها، لم يكن يستطيع تمييز الأشياء المُقدّسة بعينه المجرّدة.
لكنّها فعلت.
كيف؟ ولماذا؟
والأغرب، أنّها قالتها وكأنَّ الأمر لا يعنيها.
“واضحٌ مِن النّظر فقط…”
تمتم كريسنت، ولعق خدّه من الدّاخل بلسانه.
***
بعد أن سار في المطر طويلًا، وصل كريسنت إلى معبد الشّجرة المُقدّسة، الدّيانة الرّسميّة للإمبراطوريّة.
اجتاز أولئك الذين انحنَوا احترامًا له دون أن يُعرهم اهتمامًا، بينما أفكاره مُنصبّة على ما جرى سابقًا.
‘بما أنَّ متجر الرّهونات فُتح مجدّدًا، ظننتُ أنَّ ميكيلي سيكون هناك.’
كان ينوي أن يُحضر أشياء أُخرى يشتبه بأنّها مُقدّسة كي يُقيّمها.
لكن بدلًا من ميكيلي، وجد حفيدته، التي لم يرَها من قبل إلّا في القصص.
‘رغم أنَّ شكلها مختلفٌ تمامًا، لكنّ الهالة التي تُحيط بها تُشبهه.’
كاد أن يُغادر، لكنّه قرّر أن يُجرّب حظّه.
لذا أخرج علبة الموسيقى، وهو يعلم مسبقًا أنّها مُقدّسة. ولم يكن يُعلّق عليها آمالًا كبيرة.
لو أعطاها لميكيلي، لاستغرق الأمر يومَين على الأقلّ. أما الحفيدة، فقد ظنّ أنّها ستحتاج شهرًا كاملًا.
ولكن.
النتيجة كانت تمامًا كما رآها بنفسه.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 17"