3
عندما طرح سؤاله المُفاجئ، شعرتُ ببرودةٍ تسري في صدري.
كان ذَلك ثغرةً لم أفكر فيها مِن قبل. قبل عودتي بالزمن، كان قد مضى وقتٌ طويل منذُ ظهور السفن مِن هَذا النوع، لذَلك لم أتخيل هَذا حتى.
‘اللعنة.’
كادت الشتائم أن تخرج مِن فمي، لكنني ابتلعتها بصعوبة.
‘ما الأعذار التي يُمكنني أختلاقُها؟’
كان عقلي مُضطربًا. لقد جئتُ للتو مِن عالمٍ كان على وشك الانهيار. لم يكُن لدي حتى الوقت لتهدئة عقلي المُضطرب قبل أن يضعني الأدميرال في هَذهِ الحالة، كُنت أرغبُ في أن الأمسك به وضربه.
بينما كُنتُ مُترددة، وغير مُتأكدوٍ مما كان يجبُ عليّ قوله، نظر إلي ريتشارد مرةً واحدة بعينيه الحمراوين، وفحصني، ثم قال ببرود كالمعتاد.
“لقد أحسنتِ.”
“ماذا؟”
“لقد نجحتِ في التسلل، وجمع المعلومات، والتعامل مع الأمر. يبدو أنكِ قد فعلتَ كُل شيء كما تعلمتِ. يمكنكِ تنفذ المهام في المستقبل دون أيِّ مُشكلة.”
على الرغم مِن أنه كان هُناك سوء فهمٍ كبير، قررتُ أن أترك الأمر على حاله. في النهاية، نحنُ في حالة قتال الآن. كُنا في وضعٍ طارئ، لذا ذهبتُ بسرعة إلى غرفة المدافع لتلقي أوامر الأدميرال.
مِن خلال التلسكوب، بدأتُ أرى السفينة المعادية بوضوح خلف الأفق. بدا أنها تبعد حوالي 2 كيلومتر، ولكن مع السرعة التي تتحرك بها، كانت ستدخل في نطاق النيران قريبًا.
“السفينة المعادية دخلت نطاق النيران! عدل الزاوية 10 درجات لليسار! خفض السرعة إلى 8 عقد! أطلقوا كل ما لديكم في الطلقة الأولى. استعدوا المدافع الثالثة والرابعة، وجهزوا الـ6 باوند! المدافع الأولى والثانية جاهزة للقتال القريب بـ 10 باوند!”
“حافظُ على هَذهِ الزاوية! حافظُ على السرعة!”
أعطى ريتشارد أمر الإطلاق. يبدو أننا وصلنا إلى النطاق. وقمتُ بتوجيه الأوامر للكل وفقًا لذَلك.
“المدافع الثالثة والرابعة! استعدوا للإطلاق بـ6 باوند! المدافع الأولى والثانية جاهزة بـ10 باوند، انتظروا الأوامر.”
“أطلقوا المدفع الثالث!”
دويّ!
دويّ!
“أطلقوا المدفع الرابع!”
دويّ!
انتشر الضباب الرمادي لرائحةِ البارود الكثيفة في السفينة، وابتسمتُ دون أن أشعر. كانت رائحةً قد اشتقتُ لها منذُ زمن. مقارنةً برائحة اللحم المُتعفن ورماد البراكين في المستقبل، كانت رائحة البارود هَذهِ تبدو نظيفةً.
عدت إلى الأعلى لأنتظر أوامر ريتشارد. التقت عينايّ بعينيه الحمراوين عند الدرج.
“تبدين سعيدةً بشكلٍ ملحوظ.”
يبدو أن هَذا الشخص قد تحدث كثيرًا اليوم. في ذكرياتي، كان ريتشارد لا يتحدث أبدًا أثناء العمل، خصوصًا خلال القتال، لذَلك لم أستطع إخفاء دهشتي.
“ليس تمامًا.”
تجاهل ريتشارد ردي الجاف وأعطى أوامر جديدة.
“يبدو أن السفينة المعادية مُرتبكة مِن هجومنا. كما أن التوقيت كان مثاليًا. حافظوا على المسافة واستمر في القصف. سأركز على قيادة الأسطول، وأنتِ تكفلي بالقصف.”
تكليفي بالقصف يعني أنه يفوض إلي جزءًا مِن مهام الهجوم. في الحقيقة، لم افعل الكثير في هَذهِ المعركة، لذا نظرتُ إلى ريتشارد بدهشةٍ وكأنني قد صُعقت.
“ماذا، ألا تستطيعين؟”
ريتشارد، سواء في الماضي أو الحاضر، يكرهُ التردد. لقد تعلمتُ منه أنني يجبُ أن استغل أيَّ فرصةٍ تُمنح ليّ.
“إيتُها المُلازم. هل تستطيعين القيام بذَلك؟ إذا كُنتِ لا تستطيعين، فلا بأس أن تقولي الآن.”
قمتُ بتعديل وقفتي وأجبت: “أستطيعُ القيام بذَلك.”
“إذن، تولي القصف حتى أُعطي الأمر بالتوقف. عندما يتم التعامل معهم بشكلٍ كافٍ، سننتقل فورًا إلى القتال القريب.”
“نعم، لقد فهمت!”
عدتُ إلى غرفة المدافع مرةً أخرى، وسألني الرقيب آيندورف مِن الفرقة الأولى:
“هل نبدأ بالتحميل؟ ماهي الأوامر.”
“لقد منحني نائب القائد ريتشارد فون ليشتنبرغ صلاحية القصف. مِن الآن فصاعدًا، سأصدرُ أوامر القصف.”
ظهر الانزعاج فجأةً على وجه آيندورف. تذكرتُ أنهُ لم يكُن يُحب تلقي أوامري مني لأنني امرأة ومِن عامة الناس. ولكن ماذا يمكنه أن يفعل؟ نحنُ في وسطِ معركةٍ الآن. هَذا يعني أننا بين الحياة و الموت.
أجاب آيندورف وكأنهُ قد استسلم:
“مفهوم!”
“حافظ على 6 باوند للمدافع 3 و4، وجهزها! المدافع 1 و2 كونوا في وضع الاستعداد!”
كانت المدافع المُحسنة مِن الإمبراطورية أسرع في التجهيز مِن تلكَ التابعة للجمهورية. انزلقت القذائف داخل السبطانات بسرعةٍ، وكان المدفعيون قد أتموا تجهيزهم للقصف. أبلغ آيندورف قائلاً:
“تم تجهيز المدفع الأول.”
كل شيء جاهز. مِن الآن فصاعدًا، سيتمُ تنفيذُ القصف بمرونةٍ حسب الظروف دون الحاجة للإبلاغ عن كُل شيء. أمرتُ بارتياح:
“استعدوا للقصف.”
“مفهوم، استعدوا للقصف!”
“أطلقوا!”
اشتعلت المدافع واحدًا تلو الآخر، وتراجعت المدافع التي يزيد وزنها عن ثلاثة أطنان إلى الخلف بصوت قعقعةٍ. حينها أصدرتُ الأمر الثاني:
“المدفع الأول ضعوه في وضع الانتظار، المدفع الثاني أطلقوا!”
دوّي!
شق صوت المدافع الهواء وانتشر الدخان الرمادي الذي حجب الرؤية. مِن خلال النافذة، تأكدتُ مِن الوضع في السفينة المعادية؛ كان هُناك دخان أسود يرتفعُ بشكلٍ طويل خلف الأفق. لقد أصبنا سفينة الشبح بأضرارٍ ملحوظة.
بدأت زاوية السفينة تتغير وزادت سرعتها. يبدو أن ريتشارد قد أدركِ وضع السفينة المعادية. الآن حان وقت المدفع الرئيسي “كانونيد”.
“قلت المسافة بيننا وبين السفينة المعادية. الآن ستزيدُ قواتنا وتيرة الهجوم. استعدوا لتحويل المدافع 3 و4 إلى 6 باوند، ولتستعد المدافع 1 و2 للقصف!”
“جاهزون!”
“أطلقوا المدفع الأول!”
دوّي!
كانت المدافع 3 و4 مِن نوع “كالفيرين” قادرةً على إطلاق النار بزاويةٍ عالية لكنها كانت أقصر مدى مِن “كانونيد”. ولكن مِن حيثُ القوة، لم يكُن بإمكان “كالفيرين” مُجاراة “كانونيد”. علينا الاستفادة مِن الارتباك الذي يعاني منهُ العدو لشن هجومٍ بلا رحمة.
“جيد. استمروا في الهجوم. أطلقوا المدفع الثاني!”
انفجرت قذيفة الـ10 باوند على جانب سفينة الشبح، ونثرت شظايا الخشب الحادة في كل مكان. اشتعلت النيران داخل سفينة الشبح التي أصيبت بعدة ثقوب كخلية النحل، مما يدُل على أن القذيفة أصابت مخزن البارود.
بدأت السفينة تميل أكثر وازدادت سرعتُها. مع اقترابنا بسرعة مِن سفينة العدو، بدا أن القتال القريب سيبدأ قريبًا. كما هو متوقع، لم يتغير ريتشارد. كان يثق أنني سأتابعُ الخطة التي وضعها. كُنتُ دائمًا ألون الصور التي يرسمُها.
لذِلك، كان الناس يسمونني، إيرفريا ليشتنبرغ، “ظل عائلة ليشتنبرغ” بدلاً ِمن “المحميّة من عائلة ليشتنبرغ”. حتى قبل أن يُصاب الإمبراطور بالجنون، وقبل أن ينهار العالم. في الحقيقة، أن أكون ظلًا لأبرز قائدي في الإمبراطورية كان لقبًا أفضل بكثير مِن أن أكون مُلازمةً مِن عامة الشعب حظيت بدعمٍ مِن إحدى العائلات الأربع الكبرى.
“نحن نقترب مِن السفينة المُعادية. استهدفوا السواري وتهيؤوا للقتال القريب بعد القصف. انتظروا الأوامر. بدلوا المدافع 1 و2 إلى 6 باوند! وقوموا بتجهيزهم!”
“تجهيز!”
“المدفع الأول، أطلق!”
دوّي!
بدأ أحد السواري يميل ويتمايل نتيجةً لهجوم الفرقة الأولى. عند تحويل مدافع “كانونيد” إلى 6 باوند، سيمنع ذَلك ارتفاع الحرارة مما يُسرع وتيرة إطلاق النار. تبعت الفرقة الثانية ذَلك بقصفٍ كثيف، وبعد أن أكملت الفرقة الأولى إعادة التجهيز، انضمت إلى الهجوم مجددًا.
ومع انهيار الساري المائل لسفينة “فانتوم”، تبع ذِلك سقوط الساريين الثاني والثالث. لقد نجحنا!
كان مِن المؤكد أن ريتشارد، الذي كان على سطح السفينة، قد رأى ذَلك. ومع ازدياد سرعة السفينة، قد بدأت تقترب مِن “فانتوم”. كان القتال القريب وشيكًا.
“استعدوا للاصطدام! الجميع إلى مواقعهم!”
بمجرد أن أنهى الجنود استعداداتهم، شعرنا بصدمةِ قوية على متن السفينة. لقد بدأ القتال القريب.
سارعت إلى ارتداء الدرع الخفيف المعلق في نهاية الممر. عادة، كان مِن المُفترض أن يهتم الرقيب آيندورف بِهَذهِ الأمور البسيطة، لكنهُ لم يقُم أبدًا بأيٍّ مِن هَذهِ المهام. كان آيندورف مِن النبلاء الأدنى رُتبةً، ويُعتبر مِن طبقة الـ”جينتري”.
ورغم أن الأكاديمية العسكرية لم تكُن مُتاحةً لهم، إلا أن وضعهم كان أفضل مِن وضع عامة الشعب. فحتى لو كانوا مِن النبلاء الأدنى، يظلُ النبلاء نبلاءًا. لم يكًن كبرياء آيندورف يسمحُ لهُ بالقيام بأعمالٍ تافهةٍ تخصُ مُلازمًا مِن عامة الشعب، وخاصةً إذا كانت امرأة.
سمعتُ صوت خطواتٍ سريعةٍ وأصوات هُتافٍ فوق السطح. يبدو أن فرقة الهجوم قد بدأت الدخول بالفعل. بعد التأكد مِن تسليح نفسي، صعدتُ إلى السطح مع الجنود.
كان يجبُ أن أكون حذرةً جدًا مُنذُ هَذهِ اللحظة. لم يسبق لي أن خضتُ قتالًا قريبًا داخل “فانتوم”، سواء قبل العودة في الزمن أو الآن. كانت فرقة الهجوم بقيادة ريتشارد قد دخلت بالفعل إلى داخل “فانتوم”. كان الداخل يعجُ بأصوات التكسير والتحطيم، والخطوات المُتسارعة، والصراخ.
“لا تتركوا أحدًا على قيد الحياة سوى المستسلمين!”
“ابحثوا عن قائدهم أولًا!”
كما هو الحال في أيِّ معركة، إذا تم القبض على القائد، تنهار معنويات البقية، لذا كان القبض على قائد سفينة القرصانية أولوية. ولكن لم يكُن هُناك أحدٌ في غرفة القبطان.
‘هل خرج القائد للقتال؟ لكن أين هو؟ مِن الصعب تمييزُ الأشخاص على سفن القرصانية، إذ لا يرتدي أيٌّ مِنهم زيًا عسكريًا…’
قررتُ التخلص مِن أكبرهم سنًا أولًا عندما فاجأني أحدهم ووقف في طريقي فجأة. كان عملاقًا يبلغُ طولهُ حوالي مترين، مُغطى بالشعر، وبما أنهُ لم يكُن يرتدي زي البحرية الملكية الأخضر، بدا أنه أحد أفراد سفينة القرصانية.
“آه، لقد ظننتُ أن طفلًا صغيرًا ق. تسلل إلى هُنا بسبب قامتكِ القصيرة، ولكن ما هَذا؟ أنتِ امرأة حقًا. يبدو أن جنود الإمبراطورية ضُعفاء لدرجة أنهم يُجندون النساء.”
ابتسم بخبثٍ وبدأ يُدير السيف في يده. يبدو أن جسدي النحيل والصغير جعلهُ يظنُ أنني خصمٌ سهل.
“أنتَ مُجرد شخصٍ ضخمٍ بلا فائدة. هل تظنُ أنني ضعيفةٌ لأنني امرأة؟”
“بما أنكِ امرأة، إذا تصرفتِ بهدوءٍ فسأُعاملُكِ بلطف.”
ابتسمتُ بسخريةٍ وأنا أسحبُ سيفي.
“يبدو أنكَ لا تعرف أن الغرور هو أقصرُ طريقٍ للموت.”
لم يكُن حصولي على دعم عائلة ليشتنبرغ مُجرد حظ. لقد كان ذَلك بفضل القُدرة الخارقة التي ولدتُ بها.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة