“ليسَ كذلك.”
“بلى، هو كذلك.”
“أظنُّ أنّني أشعر بالنُّعاسِ بسبب الدَّواء. اخرُجْ الآن، أدريان.”
“لقدْ ابتلعتِ الدَّواء منذُ عَشْرِ ثوانٍ فقط.”
“لعلَّكَ طبيبٌ بارع.”
سحبتُ اللِّحافَ حتّى عُنقي ثمّ أغمضتُ عيني.
“أليسَ البيتُ ممتلئًا بالزُّهورِ في كلِّ زاوية؟ إنَّ موقفَ الدّوق ديهارت أيضًا ليسَ عاديًّا.”
“خخخخ…”
“وفي غُرفتي آثارٌ تدلُّ على أنَّ أحدًا ما مكثَ فيها.”
“خخخخخخخ…”
قال أدريان: “إيه حقًّا.” ثمّ ضربَني على جبيني بخفَّة.
لمْ يؤلمني ذلك.
“لأنَّه قد يُؤلمُ، سأعفيكِ. نامي.”
“نَعَم.”
“أنتِ حتّى لا تُتقنين التَّظاهرَ بالنّوم الآن.”
“حينَ تخرُجُ أرجوكَ اسحبِ السّتائر وأطفئِ الشّمعة. يا أَخي.”
“نعم، آنِسَتي.”
غشِيَني التَّعب. لقدْ كان في يومٍ واحدٍ أحداثٌ كثيرة جدًّا.
وفي النِّهاية انزلقتُ إلى النّوم من غير أنْ أشعر.
اكتشفَ كايل قُبيلَ الهُروب أنَّ القطَّ الّذي عثرَ عليه في المَنجَم ما هو إلّا سوين متحول.
أيُّ قطٍّ ذاكَ الّذي يقفزُ من تلقاءِ نفسه ليُعلّقَ قِلادةً حولَ عُنقِه بعد أنْ يراها؟
منظّمةٌ إجراميّةٌ مُريبة، وانهيارُ المَنجَم، ووجودُ السوين في المَكان.
‘لا يُمكن أنْ أُطلِقه هكذا فقط.’
ما إنْ خرجوا من المَنجَم، انتزعَ كايل القِلادةَ من عُنقِ السوين الّذي كان يوشكُ أنْ يهرب، ووضعَها في جيبه.
‘…!’
‘إلى أينَ تظنُّ أنَّكَ ذاهب؟’
ازدادَ يقينُه بأنَّه سوين، حينَ رآه يُحاوِلُ مرارًا سرقةَ القِلادة وكأنَّه مهووسٌ بها.
ألعلّها غرضٌ عزيزٌ عليه؟ أو ربّما دليلٌ إدانة؟
ظلَّ كايل يُراقبُ بعناية بينما يُعاينُ المَنجَم برفقةِ فِرقةِ التّحقيق، وقد أحسَّ بآثارِ خُطاهُ تتبعه مُختبئًا وراءه.
وبعدَ أنْ أمضوا يومًا كاملًا في التّفتيش وترتيب الوضع، عثروا على القطِّ مُنهارًا وسطَ الأدغال.
فحمله كايل ببساطةٍ وعادَ به إلى القصر.
“خُذْ هذا واغسله.”
ناولَ كايل المتحول، الّذي كان قدْ حشَرَه عشوائيًّا في جيبه، إلى الخادم.
تلقّفه الخادمُ ببراعة، انحنى انحناءةً قصيرةً، ثمّ انسحب.
“ميااااو!”
آه، لقدْ استيقظ.
ظلَّ كايل يعملُ بينما يستمعُ إلى صراخهِ المزعج، ثمَّ لمْ يلبثْ أنْ ظهر ذلك الكائن الّذي كان متّسخًا فإذا به قد صار نظيفًا منفوشَ الشَّعر.
ألقى كايل نظرةً على الكتلةِ الرّماديّة المشعِرة وقال:
“لِمَ لا يزالُ مُتَّسخًا؟”
“لأنِّه أصلًا قطٌّ رماديّ.”
“آه.”
ظن أنَّ لونه هكذا من تَمرّغه في المَنجَم، لكنّهُ لونُه الحقيقيّ.
أومأ كايل بإيجاز، ثمّ أشارَ للآخرين أنْ يخرجوا.
بقيَا وحدَهما. نظرَ كايل إلى القطّ وأصدرَ أمره:
“أرِني هيئتَك الحقيقيّة.”
ظلَّ القطُّ يحدّقُ به طويلًا من الزّاوية، ثمّ هبّت نسمةٌ خفيفة فتحوّلَت هيئتُه.
في لحظةٍ صار القطُّ الصغيرُ طفلًا صغيرًا.
“أتريدُ أنْ تقتلَني؟”
“لمْ أظنَّ أنَّكَ صغيرٌ إلى هذا الحدّ.”
“أليسَ التّعذيبُ بالماء كانَ بنيّةِ قتلي؟”
“عادةً نسمّيه ‘استحمامًا’.”
كانت نظراتُه الشّرسةُ المُوجّهةُ إليّ تعجبني؛ لا بكاء ولا خوف، لا ارتجاف، بل قبضاتٌ مشدودةٌ بإصرار.
“لنْ أقتلك. ولنْ أُؤذيك.”
“…لِماذا؟”
“مَن يَعلم.”
بطريقتِه المُعتادة لمْ يكن كايل ليتردّدَ في التّعاملِ بالقسوة عندَ اللّزوم.
فأساليبُ الحصولِ على المعلومات لمْ تقتصرْ على العُنف فقط، بل شملتِ التّهديد أو الإغراء، وكانَ كايل بارعًا فيها.
‘صغيرٌ جدًّا.’
لكنَّ العمرَ لمْ يكُنْ معيارًا مهمًّا؛ فكمْ مِن مرّةٍ استُخدِمَ الأطفالُ في ساحةِ الحرب كوسيلةٍ لتشتيتِ الانتباه ثمّ يُلقونَ القنابل.
ومع ذلك، تذكَّرَ كلماتِ إيرين في المَنجَم:
“فقط… لأن لدي بعض الفراغ لأكون لطيفة.”
“ذلك مضيعة للجهد.”
“نعم… أعلم.”
ولهذا قرّر أنْ يُجرِّب نزوةً غيرَ مألوفةٍ له.
“لا أظنُّ أنَّكَ ستُفيدُ كثيرًا.”
“على أيِّ أساسٍ تظنُّ أنَّني أعرفُ شيئًا؟”
“لستُ مُهتمًّا.”
حتّى وإنْ لمْ يستعنْ بأساليبة، كانَ كايل واثقًا أنَّه قادرٌ على إنجازِ ما يُريد.
لذلك اكتفى بأنْ مسحَ السوين بنظرةٍ خاطفةٍ من أعلى إلى أسفل، ثمّ قال:
“أنا أكره أنْ يكونَ في مَكاني شيءٌ قذر.”
“هلْ تُريد أنْ تقولَ إنّي متحول قذر؟”
كانَ السوين المتحول أدنى الطّبقات، يُنبذُ دائمًا ولا ينتمي إلى أيِّ مكان.
حتى مير، ردَّ بحدّةٍ فوريّة:
“ملابسي وحذائي… ما بِهما؟”
“سأُعطيكَ أنظفَ، فغيّر ملابسك.”
وأشارَ كايل إلى الحذاءِ الجلديّ المُهترئ الّذي يتساقطُ منهُ القِطع، وإلى الملابس المُرقّعةِ المتّسخة.
“وعالِجْ ذيلكَ أيضًا. وإنْ كانَ لا يُرى الآن.”
“لِـ… لِماذا يجبُ أنْ أنصاعَ لكَ؟!”
“كي تستعيدَ هذا.”
أخرجَ من جيبه القِلادةَ بصوتٍ رنّ. اندفعَ مير محاولًا انتزاعَها، لكن كايل رفعَ ذراعهُ بهدوءٍ ومنعه.
“غيّر ملابسَك.”
“تبا…”
ضغطَ كايل بيده المُغطّاةِ بالقُفاز على جبينِ الطّفل ودفعه إلى الوراء.
حدق الطفل به بعينين غاضبتَين من غير أنْ يرفَّ له جفن. فردَّ كايل بالمثل.
وفي النّهاية، لمْ يحتملِ الطّفلُ فرفَّ جفنُه، فارتسمَت على شفتَي كايل ابتسامةٌ مائلة.
لقدْ فاز.
“هاتوا أيَّ ملابسٍ صغيرةٍ قديمة تناسبه.”
“أتُريدُ أنْ تُلبِسَها لقطّ؟”
“واجعلوا له غرفةً صغيرةً يقيمُ فيها.”
“قطّ… ولهُ غرفة؟”
رفعَ كايل رأسه وحدّقَ في الخادم. أدركَ الأخيرُ خطأه، فسارعَ بالاعتذار.
“لقدْ أكثرتُ كلامًا. أعتذر.”
قدْ لا يكونُ الأمرُ مفهومًا، لكنَّ ما أُمِروا به عليهم تنفيذه.
وبإشارةٍ من الخادم، حملَ الخدمُ الآخرون الطّفلَ وخرجوا.
“وإنْ حاولَ التّسلّل للخروج، فلا داعي لِتوقفهُ.”
“نعم.”
“لكنْ اجعلوا مَن يُراقبه. فإنْ لمْ يخرجْ، اهتمّوا بإطعامه.”
“مفهوم.”
كانَ سيّدُهُم معروفًا بأوامرٍ غريبةٍ كهذه أحيانًا، لكنّهم علموا بالتّجربة أنَّ لكلّ أمرٍ سببًا منطقيًّا عندَه.
ومع ذلك، لمْ يزلْ الخادم يتعجّب من أوامرٍ سابقة، مثل إحضارِ خمسمائة وردةٍ، أو إعدادِ صندوق طعامٍ بعشرة طوابق، أو تجهيزِ قفلٍ لا يستطيعُ كسرَه حتّى سيّدُ السّيف.
وقبل أنْ ينصرف، سأل الخادم وقدْ تذكَّر أمرًا:
“هلْ نُرسِلُ الأوراقَ الّتي طلبتَ تجهيزَها إلى شارع فرومروز بواسطةِ أحدِ الرّجال؟”
فكّر كايل قليلًا ثمّ أجاب:
“لا. سأذهبُ بنفسي.”
ثمَّ أخذَ سترتَه ليرتديها فوق قميصه.
* * *
“هاه…”
‘أشعرُ وكأنّ قدومي بلا فائدة.’
ابتسمَ كايل ساخرًا وهو ينظرُ إلى الفتاةِ النّائمة.
هو نفسهُ لمْ يغمضْ عينًا طوالَ اللّيل، بينما إيرين تنامُ بعمقٍ وتتنفّسُ بهدوء، ووجهُها متجهّمٌ كأنّها ترى كابوسًا.
طَق.
لمسَ كايل بخفَّةٍ ما بين حاجبَيها المتشنّجين بطرف إصبعه.
فما كانَ من عبوسِها أنْ ذاب، بل ارتفعتْ شفتاها قليلًا وكأنّها تبتسمُ بسذاجة.
هلْ أُوقظها؟
بعدَ تردّدٍ مَسحَ بأذنِها وقال همسًا:
“استيقظي. لدينا عمل.”
آه، لقدْ انعقدَ حاجباها مرّةً أخرى.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 24"