بعد أن ابتعدنا مسافةً مناسبة عن مدخل المنجم، أنزلَني الدوق بحذر.
حين زال التوتّر وأخذتُ نفسًا عميقًا، تسلّل إلى رئتيَّ هواءٌ باردٌ نقيّ، يختلف تمامًا عن ذاك الهواء الكئيب الخانق داخل المنجم.
رفعتُ رأسي، فإذا بالسّماء الزّرقاء الفسيحة ترحّب بي بدلًا مِن سقف المنجم الكئيب.
عندها فقط وقعت عيناي على مدخل المنجم المنهار، والصّخورالمتساقطة، والغبار الرماديّ الذي ملأ المكان، فأدركتُ حقيقة ما جرى.
‘لَقَدْ كِدتُ أَموتُ حَقًّا…….’
لو لَمْ يكُنِ الدوق موجودًا، لما وجدتُ حتّى منفذًا للهروب، ولربّما سُحِقتُ تحت الركام لحظة الانهيار.
لمجرّد التفكير بذلك، تسري قشعريرة باردة في ظهري.
الدوق الّذي أحاطني بجسده لا بُدَّ أنّه أُصيبَ بأذًى أكبر بكثير.
وحين هممتُ بالكلام بعد أن خطرت ببالي فكرةُ فحص جسدي مرّةً أخرى بعدما خرجنا إلى النّور، سمعتُ أصواتًا تناديني:
“إيرين!”
“هَلْ أنْتِ بِخَيْر؟!”
اندفع النّاس مُسرعين ناحيتنا وهم يصرخون بقلق.
“بِخَيْر؟ إيرين، أأنتِ بخير؟”
وكان أوّل مَن وصل هو شقيقي الأكبر سيلفير.
كان القلق والاطمئنان يختلطان على وجهه، وعيناه تتفحّصانني باضطراب.
فقال الدوق لسيلفير:
“أكنتم تعلمون أنّنا سنخرج مِن هذا الممرّ؟”
أجاب سيلفير بسرعة:
“بما أنّ الدخول عبر المدخل كان مستحيلًا، توقّعنا احتماليّة وجود ممرّ آخر وبدأنا البحث.”
فقال الدوق:
“خُذْ الآنسة لتتلقّى العلاج.”
هززتُ رأسي نافية:
“أنَا بِخَيْر! والدوق أيضًا يجب أنْ يأتي معنا.”
لكنّه قال:
“سأتلقّى العلاج على حدة، لا تقلقي.”
كان في نفسي غصّة لعدم تأكّدي مِن مدى إصاباته……
ثمّ دوّى صوتٌ مألوف آخر:
“إيرين!!”
رأيتُ الدموع متجمّعة في عيني أدريان، كان قد ذهب لتفقّد مخرجٍ آخر، ولمّا بلغه خبر العثور علينا عاد مسرعًا.
وبمجرّد أنْ وقع بصري على وجهه، كادت دموعي تفيض أيضًا.
سيلفير وضع رداؤه على كتفي وقال لأدريان:
“أدريان، خُذْ إيرين.”
أومأ أدريان، ثمّ حملني بذراعَيه، بحرصٍ كما لو كان يحمل طفلًا. في عنايته رقّةً أثّرت في قلبي.
“أدِ…….”
“هُهق…… لقد صرتِ أثقل قليلًا.”
“أنزلني حالًا.”
اختفى التأثّر سريعًا أمام مزاحه، وبرغم محاولتي التملّص ظلّ ممسكًا بي بثبات وهو يشهق بالبكاء.
فقال سيلفير:
“كفى مزاحًا، هيا بنا.”
أضفتُ بقلق وأنا ألتفت نحو الدوق:
“دوق، حقًّا يجب أنْ تتلقّى العلاج!”
فاكتفى بأنْ أومأ قليلًا، عندها فقط شعرتُ ببعض الارتياح.
لمّا ابتعدنا نحن الأشقّاء وسكن الضجيج، أمر كايل حرّاسه:
“شكّلوا فرقة تفتيش، وتجمّعوا هنا خلال ساعة.”
“نَعَم، أمركَ.”
فانصرف الفرسان والرجال مسرعين كلٌّ إلى مهامه.
بعد أن خلت السّاحة تقريبًا، التفت سيلفير إلى كايل وقال:
“دوق، ألن تتلقّى العلاج؟”
“لاحقًا.”
“أنفاسكَ مُتعبة.”
‘مُرهَف الملاحظة حقًّا.’
كايل عبس قليلًا متأثّرًا بآلام ضلوعه التي اصطدمت بالحجارة حين حمى إيرين.
قال ببرود:
“لنْ يُهدّدني هذا بالموت. هناك أمور يجب أنْ تُحلّ أوّلًا.”
ثمّ أضاف:
“لو ذهبتُ الآن لتلقّي العلاج والراحة، فحين أعود سيكون الأوان قد فات.”
قال سيلفير:
“دعني على الأقل أعاين إصاباتكَ.”
“لا داعي.”
“اعتبرها عربون شكر لإنقاذ إيرين.”
فتح حقيبته وأخرج ضماداتٍ ومطهّرًا، وأقنعه بأنّ ثمّة خيمة صغيرة منصوبة قريبة.
فقال كايل:
“على أيّ حال، لا علاج للضلوع سوى الوقت.”
فردّ سيلفير:
“لكن لديكم جروح أخرى، والضماد يقيها على الأقل.”
ولمّا أصرّ، أطلق كايل صوتَ امتعاضٍ خفيف.
وحين مسح سيلفير جسده بالماء، ظهرت جروح كثيرة في ذراعَيه وساقَيه، وبدأت كدماتٌ كبيرة تظهر على صدره وكتفه.
وبينما كان يلفّ الضماداتِ قال:
“شكرًا لإنقاذكَ إيرين.”
أجاب كايل بإيماءة خفيفة فقط.
ثمّ قال سيلفير:
“وشكرًا لأنّكَ تحسنُ معاملتها.”
لكنّ هذه المرّة، لم يتجاهل كايل.
“وما أدراكَ؟”
“أنتم محور الأحاديث، ألستم كذلك؟”
ارتفع حاجباه قليلًا، فتابع سيلفير بسرعة:
“أعتذر إنْ تجاوزتُ حدودي.”
فأدار كايل نظره كأنّه يرضى بالاكتفاء.
ثمّ بادر سيلفير فجأة:
“أيّ شيءٍ أعجبكَ في إيرين؟”
‘مِن أين جاء بكلّ هذه الجرأة؟’
بدا أنّ عائلة فرومروز بأكملها تتّصف بالجرأة، فالابن الأكبر هذا ليس صامتًا كما ظنّ، بل يُشبه أخته في جرأتها.
قال أخيرًا:
“بارعة في عملها.”
“عفوًا؟”
“ذكيّة، فعّالة، حكيمة.”
“أأنتَ تقصد أختي؟”
لم يَكُدْ يصدّق. فهو يعرف أنّها ليست غبيّة، لكنّه لم يظنّ أنّ غيره قد يراها هكذا.
بالنسبة له، لم يكن يراها إلّا مستلقيةً على السرير أو الأريكة، أو جالسةً قرب أبيه تأكل الحلوى وتنثر الفتات.
فقال كايل مكمّلًا:
“وفوق ذلك، جميلة.”
شدّ سيلفير الضماد بقوّة حين سمعها. ففكّر كايل بابتسامة داخليّة: ‘ها هو دور الأخ الحامي’
ثم أكملَ كلامهُ،
“التثبيت متقَن. لديك مهارة جيدة في الإسعاف.”
“شكرًا على الإطراء.”
ثمّ ساد الصمت بينهما إلى أنْ عاد فريق التفتيش.
* * *
“أختنا الصغرى…….”
“أدِ.”
“نعم، نعم. ما الّذي تحتاجينه؟ أتؤلمكِ يدك؟ أأستدعي أحدًا؟”
“أرجوكَ، كُنْ هادئًا…….”
حين التقيتُ إخوتي أوّل مرّة بعد الحادث بكيتُ قليلًا، لكنّ بكاء أدريان المتواصل هو ما جعلني أهدأ سريعًا.
سألني الطّبيب الذي كان بانتظارنا:
“أشعرْتِ بدوار أو غثيان؟”
“لا، أنا بخير.”
“هل سمعتِ طنينًا أو أصواتًا غير طبيعيّة؟”
“كلا.”
فحص عظامي وعضلاتي بعناية، ثمّ قال:
“لا أعراضَ لارتجاج في الدماغ، فقط عليكِ أنْ ترتاحي وتستخدمي يدكِ بحذر.”
وأضاف أنّه بما أنّنا خرجنا سريعًا، لم نتأثّر بالغبار أو الغازات، فالحمد لله.
ثمّ وصف لي بعض الأدوية البسيطة وغادر.
ما إنْ خرج الطّبيب حتّى هرع أدريان إلى سريري:
“ظننّتُ حقًّا أنّكِ ستموتين…….”
“ما العمل إذا كان الفارس كثير الدّموع هكذا؟”
“هُهق، لكنّي قويّ، فلا بأس. هه……”
“آه، قَرف…… أنفكَ يسيل.”
في الحقيقة، نجاتي كلّها كانت بفضل الدوق.
لكن هل هو بخير الآن؟ رغم قوله إنّه سيتدبّر أمره، يظلّ قلبي غير مطمئن. سألتُ أدريان:
“هل تظنّ أنّ الدوق بخير؟”
“الدوق ديهارت؟ ما دام أخي معه فسيكون بخير على الأرجح.”
أخذ يُقلّب الضماد النظيف الملفوف حول يدي قائلًا:
“الحمد لله أنّ الأمر لم يتفاقم.”
“إنّه بفضلِ الدوق. سأشكره لاحقًا بنفسي.”
ثمّ تذكّرتُ القطّ الذي أصررتُ على اصطحابه.
مع انشغالي نسيتُ أمره! أنا متأكّدة أنّه خرج معنا، لكن هل اعتنى به أحد، أم فرّ هاربًا؟
سألتُ:
“أدِ، ألم ترَ القطّ الذي كان معي؟ لقد أحضرته من المنجم ثمّ فقدتُه.”
“قطّ؟ لا، لم أرَه.”
لابدّ أنّه هرب لحظة الخروج. آمل أنْ يشفى ذيله المصاب سريعًا.
وبينما كنتُ أفكّر، ناولني أدريان الأقراص الّتي تركها الطّبيب مع كوب ماء.
قال فجأة:
“لكن يا إيرين، هناك شيء أريد أنْ أسألكِ عنه.”
شربتُ الماء مع الدواء، فسألني:
“هل أنتِ على علاقة بالدوق ديهارت؟”
“بووف-!”
“حقًّا؟!!”
آه ، يبدو أنّ الحَبّة عَلِقت في حلقي……
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 23"