شعر مير، وهو قطّ متحولٌ بإحساس الدوار بعد فترة طويلة.
‘أوع… دوار….’
كان يتسلق بحماس على معطف الرجل حتى يصل إلى كتفه، لكنه ما إن ينجح حتى يُعاد إدخاله من جديد إلى الجيب… يصعد ثم يُعاد… وهكذا مراراً.
تحدثتَ إيرين:
“سيدي الدوق، القط لا تتوقف عن المواء.”
فأجاب كايل ببرود:
“ربما لأنها فرِحة بإنقاذنا لها.”
‘أنا ممتن لأنكم أنقذتموني… لكن أخرجوني من هنا رجاءً!’.
“ألا يكون السبب أن الجيب ضيق ومزعج لها؟”
“لا أحد يعلم ما يدور في رأس الحيوانات.”
“هل تريدُ أن أحتفظ بها عندي؟”
‘نعم! هذا هو الحل!’.
وفوق ذلك، سواء كان عن قصد أو لا، كان يهزني كلما تحرّك! قبل قليل فقط تدحرجت داخل الجيب.
قال الرجل:
“أنتِ يا آنسة، اهتمي فقط بحمل الحجر الخام.”
“آه… نـ- نعم.”
تنهد مير في نفسه.
‘لم يكن عليّ أن آتي إلى المنجم اليوم….’
* * *
“أخي! إلى أين تذهب؟”
“إلى المنجم.”
كان مير يضغط بقوة على حذائه القديم الممزق، الذي التصق بالكاد بالغراء، وهو يجيب.
الطفلُ الذي كان نصفَ كلبٍ الذي كان يتحدثُ معهُ وهو يحتضن بعناية القرص المعدني الذي وجده مير له سابقاً بجانب سور ميتم إيلا. فسأل الطفل:
“لكن اليوم ليس يوم الذهاب إلى هناك.”
“نسيت شيئاً يجب أن أستعيده.”
“أأنت ذاهب مجدداً إلى ذلك المنجم؟ سمعت أنهم فجّروه.”
“سألقي نظرة سريعة وأعود.”
لقد أضاع مير شيئاً غالياً.
منذ أن كُشف مكان مال الهرب الذي خبأه في غرفته وسُرق منه حتى آخر قطعة، لم يترك مير أي شيء ثمين في الميتم.
بل كان دائماً يضعه في جيبه ويتأكد منه مرات عديدة في اليوم.
لكن على ما يبدو، وبلا أن يشعر، ثقبت الجيب وسقط منه الشيء.
فتّش كل مكان: أزقة النشّالين، ساحات المتسوّلين، غرفته الضيقة البائسة… ولم يجده.
إذن لم يبقَ إلا مكان واحد:
‘لقد فقدته في المنجم’.
الميتم الذي يسمّونه “ملجأ أيتام” لم يكن سوى واجهة لعصابة تتخفى عن أعين الإمبراطورية.
كانوا يسمّون الميتم “المستودع”.
يخطفون الأطفال المتحولينَ ويجبرونهم على العمل.
وإن لم يحقق الطفل حصته اليومية فمصيره الجوع والعقاب.
كانوا يستغلون حقيقة أن المتحولينَ يتعرضون للتمييز أينما ذهبوا، فيُقنعونهم بأنهم “الوحيدون” الذين يطعمونهم ويؤوونهم.
‘أوغاد! أنتم من خطفنا وحبسنا ثم تزعمون أنكم تعطفون علينا!’
شبكة العصابة واسعة وسرية، وكثير من الأطفال الذين حاولوا الهرب أُعيد القبض عليهم سريعاً.
ومن يعود كان يُجلد بوحشية، ومن لا فائدة منه… يُسحب بعيداً ولا يظهر مجدداً.
مير نفسه حاول الهرب مراراً وفشل. لم يُتخلَّ عنه لأنه صغير و’مفيد’، ويعمل جيداً.
في المرة السابقة جاء إلى المنجم لينقل شيئاً سراً… وهناك أضاع كنزه.
وقف عند المكان الذي يتذكره.
‘لا بد أن أجده’.
كان ذلك قلادة أهدتها له أمه وهو صغير جداً، وقالت: ‘احتفظ بها، سأعود من أجلك يوماً’.
تلألأتا عينيه في العتمة وهو يفتش المكان.
‘كيف أضعتها بغباء….’
خوف صغير تسلل لقلبه.
‘لو عادت أمي ولم تتعرف علي بسبب فقدانها….’
دموعه كادت تنزل، لكنه هز رأسه بعناد وصفع خديه بيديه.
‘لا تبكِ. أنا قط شجاع. القط لا يبكي!’.
وبينما كان يفتش بكل إصرار…
دووووم.
“هاه؟”
صوت انهيار بعيد. تذكّر فجأة كلام الطفل صباحاً:
‘قالوا إنهم فجّروه….’
جسده ارتجف، فقفز جانباً.
بووووم!
“آه!”
صخرة بحجم جسده سقطت حيث كان قبل لحظة.
دقّ قلبه بجنون.
‘الحمد لله على حواس القط….’
لكن الإنذار الداخلي لم يتوقف. تشنجت أطرافه.
دووم، دوووم، كواااع!
جدار بأكمله انهار.
“آآآااه! ميااوووو!”
تدحرجت الصخور فوقه. لم يعد أمامه سوى التحول لقط كي ينجو بالتنقل بين الفجوات.
نجا من سحق الصخور… لكنه وجد نفسه محاصَراً.
المكان ضيق، والصخور الثقيلة تعلوه. لو عاد لشكله البشري سيسحق فوراً.
‘لا بد أن أُزيحها شيئاً فشيئاً….’
بدأ يحرك الحجارة الصغيرة بقدميه الأماميتين.
‘قليل فقط وسأخرج….’
لكن صخرة كبيرة جداً لم تتحرك مهما حاول.
وفوق ذلك… قطرات ماء بدأت تتساقط من السقف وتبلل قدميه. ومير يكره البلل.
‘قدماي باردتان… المكان بارد ورطب وضيق… بائس جداً’.
صار يحرك فقط الحجارة الصغيرة حوله بلا جدوى.
‘هل أتمكن من الخروج حقاً؟’.
في تلك اللحظة…
“معدن ألماس، ما رأيك؟”
“ليس مربحًا.”
أصوات بشرية!
رمى مير قطع الحصى بكل قوته نحو الفجوة. ‘أنا هنا! هنا!’.
“وكيف تعرف أن في هذا المنجم ألماساً؟”
“بمجرد النظر.”
“قد يكون هناك ألماسٌ مخفي.”
‘لا أعرف ما هذا… لكن هنا ليس ألماسه بل قطٌ تائهٌ!’.
جمع مير كل ما استطاع من الحصى وقذفه. وأخيراً، لاحظه البشر.
“حيوان؟”
“قطة؟”
‘مياااو! إذا كنتم بشراً فلا يجوز أن تتجاهلوا قطة محاصَرة! أرجوكم!’.
لكن الرجل قال ببرود:
“اتركيها.”
‘ماذااا!؟’.
فكر مير: ‘سأجعلك تندم. سأطلب من أحدهم أن يلعنك بقطة سوداء…’.
المرأة التي كانت معه قالت متوسلة:
“لكنها ستموت إن تُركت!”
عيونهما تلاقت، فزاد مير من صوته متوسلاً. ”ميااا….”
قالت المرأة:
“إن لم ترِد يا سيدي، سأفعل أنا.”
تجادلا قليلاً، ثم أنزلها الرجل مضطراً. اقتربت المرأة من الفجوة وهي تضيء بحجر متلألئ.
“سأخرجك حالاً. لكن ابقَ هادئاً… حسناً؟”
كان وجهها يلمع تحت الغبار الأسود. في عينيها الخضراوين انعكست أنوار الحجر.
مير نظر إليها مبهوراً، وانتظر بصبر.
بدأ الرجل يزيح الصخور الكبيرة. صخرة بعد أخرى. تحتها كان ذيل مير عالقاً، يؤلمه.
قالت المرأة:
“أأخرجه بمنديل…؟”
لكن الرجل سبَقها، أمسكه من عنق رقبته ورفعه.
“ميآآآاووو!”
“أنتَ مزعج.”
“دوق، أمسكتَه بقسوة!”
“شيء لا فائدة منه.”
ثم حشره ثانية في الجيب.
“اصعدي مجدداً. واحذري قدمك.”
تدحرج مير متقلبًا، حاول أن يعدل جسده بصعوبة. ذيله يؤلمه لكنه تحمّل. قرر: ‘سأهرب من هذا الجيب وأصعد على كتفه’.
أخرج رأسه بالكاد من الفتحة… لكن الرجل كان يحرك ساقيه باستمرار، فصعب عليه التوازن.
قال الرجل:
“تحبين الأطفال والحيوانات كثيراً.”
“الأطفال لا، لست أحبهم.”
“غريب، كنتِ لطيفة جداً معهم.”
هزّت كتفيها بابتسامة صغيرة.
“فقط… لأن لدي بعض الفراغ لأكون لطيفة.”
“ذلك مضيعة للجهد.”
“نعم… أعلم.”
بعد موافقة إيرين، ساد صمت قصير.
خلال ذلك، كان مير يتسلق المعطف بحماس.
طبعًا، كايل كان يعيده للأسفل أكثر من مرة.
“مع ذلك. العالم قاسٍ، أليس كذلك؟ خاصة على الأطفال الذين بدأوا حياتهم للتو.”
“العالم قاسٍ بطبيعته.”
“في مثل هذا العالم، على الأقل أنا يجب أن أكون لطيفة.”
‘عند سماع كلماتها، التفت كايل إليها وسأل وهو يلتقي بنظراتها.’
“إذن، ستفعلين الشيء نفسه معي؟”
“أنا؟ معكَ يا دوق؟”
“لا يوجد سبب يمنع ذلك.”
‘أجابت إيرين بتردد.’
“ماذا…… هل عليّ أن أمدحكَ أو أشجعكَ……؟”
“يمكنكِ فعل ذلك.”
ردّ كايل، وهو يبدو مرتبكًا بعض الشّيء، على كلام إيرين.
‘ما هذا؟ هل هما يتواعدان؟’ فكّر مير.
لاحظت إيرين قطّة تسلّقت ثوبهُ، فرفعتها على كتفهِ بينما لازال يتم حَملها من قبلَ مائل.
“يا قطّ، إذا قلتُ ‘ينغ’، تقول ‘مياو’. فهمتَ؟”
“مياو”
“لنبدأ ، ينغ-”
“مياو.”
“ينغ-”
“مياو.”
كان من الرّائع أن تكون قطّ، فيمكنكَ قول أيّ شيء دون أن يُكتشف أمركِ، حتّى لو كنتَ تشتم.
“يبدو أنّ هذه القطّ عبقريّ.”
“لا تلمسيه.”
“سأتركها على كتفكَ فقط.”
أصبح هناك نفسان يلامسان رقبة كايل: نفسٌ كبير ونفسٌ صغير.
‘ألا يمكنهما تنسيق توقيت تنفّسهما؟’ فكّر كايل.
* * *
بدأت النّهاية تلوح في الأفق لطريقٍ بدا أنّه لن ينتهي. تدفّق الضّوء من مخرجٍ ليس ببعيد.
لآن فقط، استطاعت إيرين التّخلّص من الحجر الّذي كانت تحمله. كان مرهقًا بعد حمله بيدها السليمة لفترةٍ طويلة.
فجأة، لمحت شيئًا في رؤيتها المضيئة.
“هناك شيء يلمع هناك.”
جسمٌ فضيّ صغيرٌ مستديرٌ متوهّج، عالقٌ في شقّ الأرض.
“…!”
لاحظه مير في الوقت ذاته.
إنّه الشّيء المفقود! القلادة التي أعطتني إيّاها أمّي!
قفز مير من كتف إيرين. تعثّر قليلًا عند الهبوط من ارتفاعٍ أعلى من المتوقّع، لكنّه استعاد توازنه بسرعة.
المشكلة أنّ إيرين، مفزوعة، مدّت ذراعها لتمسك مير، وفي الوقت نفسه، تعثّر كايل على الأرض الرّطبة.
لفّ كايل جسده ليمنع إيرين من السّقوط، فضرب كتفه بالجدار.
نقرة.
بدلًا من صوت الاصطدام، سُمع صوتٌ غريب.
في تلك الأثناء، أمسك مير بسلسلة القلادة بفمه وعلّقها على رقبته.
كانت السّلسلة مضبوطة بإحكام، فتناسبت تمامًا.
وفي اللحظة نفسها، شعر بقشعريرةٍ لم يشعر بها من قبل. انتصب شعره.
كان ذلك غريزة القطّة وحدس من نجا من ساحات الحرب.
اندفع مير وكايل نحو المخرج في الوقت ذاته.
“آه! سيّدي الدّوق، ما الّذي حدث فجأة-”
لم يجب كايل. ركض بكلّ قوّته.
كوووم، بوم!
نظرت إيرين إلى الخلف متأخّرة بسبب الضّجيج.
“يا إلهي.”
كان الفضاء خلفهم ينهار بالكامل. تصاعد الغبار بسرعة، وتناثرت شظايا الصّخور.
تخلّف مير عنهم. بسبب إصابته، لم يستطع الرّكض أسرع من سرعة الانهيار.
نقر كايل بلسانه، ثمّ أمسك برقبة مير وألقاه على كتفه.
“سيّدي الدّوق، هناك صخرة، صخرة تتدحرج خلفنا! صخرة ضخمة!”
“أعلم.”
“ميااااو!”
“بسرعة، بسرعة، بسرعة!”
استمرّ الكائنان الحيّان على ظهره في الصّراخ دون توقّف.
أمسك كايل إيرين بإحكام وأسرع.
لم يهتمّ إن سقطت القطّة، لكن ليس الآنسة.
كووووم.
مع خروجهم من المنجم، انهار المخرج تمامًا، ليصبح غير قابلٍ للتّعرّف.
تنفّس الكائنان الحيّان المعلّقان على ظهره براحة.
“نجونا…”
“مياو…”
“هف…”
تنفّس كايل بعمق. كان الأمر على وشك الفشل. لو تأخّروا قليلًا، لكان الأمر لا رجعة فيه.
“نحمد الله على الحظّ.”
كان الحظّ حليفًا، كما قالت إيرين.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 22"