كانت يدي تؤلمني كثيرًا، لكنَّ الفرح كان أعظمُ من الألم.
في الأحوال العاديّة ما كنتُ لأتخيَّل أنْ أستطيع كسر صخرة بحجم كرة، غير أنّها كانت مشقَّقة أصلًا في مواضع عدّة، ولولا ذلك لما تمكنت.
كان ذَلك من حسن الحظ وسط المصيبة.
الكسر لم يكن متقنًا، لذا لم يكن النور ساطعًا كثيرًا، لكنَّه كان كافيًا؛
أشبه بضوء ملصقات قديمة مضيئة كانت تلتصق بسقف غرفتي في طفولتي.
“هل لم تُصبْ بأذًى بالغ…؟”
تعثرتُ بخطواتي وأنا أعود إلى حيث أستلقيتُ الدوق، أفتِّش حاله بعينيّ.
لقد سقط وهو يحميني ويتلقَّى الضربة عني بلا شك.
نظرتُ في مواضع جسده، والحمد لله، بدا أنّ الأمر لم يتجاوز تمزقًا في الثوب وجرحًا في الجبين.
لمستُ بحذر مؤخرة رأسه، فارتحت حين لم أجد نزفًا.
مددتُ يدي لأمسح الدم اليابس من جرح جبينه بكمّي، لكن سرعان ما أدركتُ أنّ ثيابي أقذر من أنْ تصلح لذلك.
بنطالي وقميصي العاجيّان غُطِّيا حتى صار من الصعب تمييز لونهما الأصلي.
تركتُ المحاولة وجلستُ بجانبه منهكة، مطلقة زفرة طويلة من الارتياح.
‘إذًا فقد كان مجرد إغماء قصير…’
كنتُ قد تحققتُ سابقًا من أنّ قلبه ينبض وأنه يتنفّس، لكنّ هذه المرة كنتُ مطمئنة أكثر بعدما تأكدتُ جيدًا.
حينها بدأت أرى معالم المكان من حولي.
‘كأننا سقطنا إلى مكان أعمق بكثير…’
شعرتُ بذلك منذ قليل، والآن تبيّن لي أنّه أشبه بممرّ سري مخفي تحت المنجم.
لم يكن هذا المنجم في الأصل يتصف بسقوط الماء من السقف ولا بتجمّعه في الأرضية، كما أنّ سقفه بدا أعلى.
إذًا، أولئك المجرمون استعملوا المنجم المغلق في التهريب وتجارة البشر بإنشاء هذا النفق السري.
عجبًا، وها أنا أتذكر تقارير التقدّم الشهرية التي كنتُ أتلقّاها ولم أستطع يومًا أنْ أكتشف منهم شيئًا.
أوراق تلك التقارير ستكون دليلًا على أنّي لم أتواطأ مع هذه الجرائم، فهي مختومة رسميًّا من شركة تعدين مرخّصة من الدولة.
ما كان بوسعي أنْ أفعل شيئًا حتى يستفيق الدوق، لذلك لجأتُ إلى التفكير بترتيب منطقي.
‘فلنفكّر بهدوء، خطوة بخطوة…’
المكان مظلم ورطب ومخيف، غير أنّ وجود الدوق بجانبي جعلني أستشعر الأمان.
شددتُ قبضتي قليلًا على يده أستلهم دفء أنفاسه، وبدأت أرتب أفكاري:
1. أنا والدوق سقطنا في ممرّ سري تحت المنجم، أعمق مما توقّعنا.
2. لقد شاهد حرّاس الدوق وعائلتي ما حدث، فلا بد أنْ يكونوا قد استدعوا فرقة إنقاذ.
3. بما أنّ هذا المكان كان ممرًّا للتهريب فلا بد أنْ له منفذًا إلى الخارج.
القرار سيكون: ننتظر الإنقاذ أم نخرج بأنفسنا؟ ذلك بعد أن يفيق الدوق.
4-¹. يحتمل جدًّا أنْ يكون في هذا المكان أدلة تدين المجرمين.
4-². الدليل: هم يدمّرون المناجم بتفجيرها كلما شعروا بأنّ أمرهم قد يُكشف.
واصلتُ تدوين الأفكار في رأسي كما لو كنتُ أعدّ تقريرًا رسميًّا.
5-¹. الرمز المركب من دائرة وخط ومثلث كان إشارة يتركونها على المناجم المرشّحة للتفجير.
5-². لم يكن ذلك يعني “أول مرة يُرى” كما قيل، بل الحقيقة أنّ المنجم قد فُجِّر ولم يُكتشف الرمز بعد.
6. إذًا فالخلاصة: أحد المجرمين كان يراقبنا من الخارج، وحين اكتشف أنّنا لاحظنا غرابة الرمز، قرّروا تفجير المنجم قبل أنْ يُفضح مقرّهم.
وبينما كنتُ أكرر تلك الخلاصات وأستعيدها مرارًا، وجدتُ نفسي أكثر هدوءًا.
في تلك اللحظة بالذات، سمعتُه يتمتم بصوت خافت:
“…منذ متى وأنا على هذا الحال؟”
شهقتُ فرِحةً: “آه! دوق، هل تسمعني؟”
أجاب وهو يرمش ببطء، صوته مبحوح: “…نعم.”
“هل لديكَ إصابة خطيرة؟ أنا حاولتُ فحصك، لكن بما أنّك ما زلت ترتدي ثيابك لم أتمكّن من التأكد تمامًا-“
كل هدوئي ذاب فجأةً.
كُل ذرةٍ منهُ قد سعيتُ لتجميعها تفتتَ مع سماعي لصوتهِ المبحوحِ.
كنتُ أظنّ أني تماسكت، لكنّ استيقاظه كشف أنّ ما فعلتُه لم يكن سوى محاولة يائسة لكبتِ خوفي.
فانفجرت الكلمات المتعثّرة من فمي بلا ترتيب.
“أقصد… خشيت أنْ تكون مصابًا في موضع لا أراه. على أيّ حال، حاولتُ أيضًا أنْ أستخلص بعض المعلومات عن الوضع، لكن ذلك ليس مهمًّا الآن-“
“يا آنسة.”
“إنْ شعرتَ بأي ألم أو إصابة، أرجوكَ أخبرني، حتى أطمئن-“
“إيرين.”
أطبق بيديه على كتفي، يثبّت عينيّ بعينيه الحمراوين المتوهجتين حتى في الظلام.
شهقتُ أخيرًا نفسًا عميقًا.
“أأنتِ مصابة؟”
“أنا…؟”
“نعم.”
لم يكن بي شيء يُذكر. مجرد وخز في الكاحل وبعض الخدوش في يدي.
أكّدتُ له ذلك مرارًا، لكنّه لم يقتنع، بل أخذ منّي الحجر المضيء وفحص جسدي واحدًا واحدًا: الرأس، العنق، الكتفين، الذراعين… حتى توقّف عند يدي.
“جرحتِ هنا؟”
“آه، لا… هذا فقط-“
رويتُ له كيف أني كسرتُ الصخرة وحصلت على هذا الضوء من حجرٍ بينما كان فاقدًا للوعي.
أصغى إليّ ثم تمتم:
“ولو أصبتِ نفسكِ أكثر من ذلك؟”
“لم يكن بوسعي أنْ أبقى بلا حراك.”
“لا بد أنّه آلمكِ.”
رغم لهجته المعاتبة، كانت يده رقيقة وهو يعاين جرحي.
أخرج من جيبه الداخلي منديلاً ناصع البياض، لم تمسّه ذرة غبار رغم الفوضى، وأخذ يلفّه حول يدي بعناية.
صحتُ معترضة:
“انتظر! استعمله أولًا في مسح جرح جبينك!”
“لا حاجة.”
قالها وهو يتجاهلني تمامًا، يربط المنديل على يدي. “سنعالجهُ جيدًا حين نخرج.”
ثم انتبه إلى كاحلي. ما إنْ لمسه حتى صرختُ: “آه!”
قال بحدة: “قلتِ إنكِ بخير.”
“كنتُ بخير قبل أنْ تلمسه…”
“ما أبرعكِ في الكذب.”
التقط خشبَ محطمٍ كان لحمل الشمعِ. وحبلًا مرميًّا في الأرض وصنع لي دعامة للكاحل، ثم فجأة أدار ظهره نحوي.
“اصعدي على ظهري.”
“ستخرج الآن؟”
“لا بد من الخروج.”
فكّرتُ: ألن يرسلوا فرقة إنقاذ قريبًا؟ لكنّه قاطعني بجدية: “إن بقينا هنا سنختنق حتى الموت.”
ترددتُ لحظة، ثم امتطيتُ ظهره سريعًا.
“لستُ ثقيلة أبدًا، أليس كذلك؟”
“…”
“كل الوزن من هذه الأحجار فقط.”
“…”
“دوق، أجبني.”
وضعتُ ذراعيّ حول كتفيه وأمسكتُ الحجر المضيء أمامه كالمصباح.
إن تعثّر به الظلام وأوقعني فستكون كارثة.
قلتُ له: “أنا لا أعلم إلى أين تسير، لكنني رتبتُ بعض الأفكار-“
“لا حاجة لقولها. على الأرجح فكّرنا بالطريقة نفسها.”
“وكيف عرفتَ أفكاري؟”
“لأنكِ ذكيّة.”
ثم راح يردّد ما دوّنته في رأسي نقطةً بنقطة، وكأنّه قرأ أفكاري تمامًا.
ما استغرق مني وقتًا طويلًا رتّبه هو في لحظة.
“كيف… في هذا الوقت القصير؟”
“في ساحة الحرب هذه أمور معتادة. بل أنتِ من أبهرتني.”
ولم يكتفِ بذلك، بل لفتَ نظري إلى ما فاتني.
“لا يمكن أنْ يكون هناك مخرج واحد فقط.”
“كأنهم جعلوا لأنفسهم مخارج طوارئ؟”
“لا عاقل سيربط مقره السري بمخرج واحد مباشر، فإن انكشف سقطوا جميعًا.”
أوضح أنّهم في الحروب يستخدمون الأنفاق بكثرة، وعادةً يتركون مخارج فرعيّة عديدة.
وبينما كان يسير بي على ظهره، كان يطرق جدران النفق بقدمه أو يتحسّس حركة الهواء، وفي أثناء ذلك يلومني بلطف لأنّ أنفاسي تلامس عنقه.
مضت دقائق، ثم همس: “وجدتُها.”
فتح عينيه وأشار: “هنا مجرى هواء. الآن يمكنكِ أنْ تتنفّسي بحرّية.”
شهقتُ بعمق: “هاااه—”
قال بابتسامة خافتة: “لكنْ ليس على رقبتي مباشرة.”
وهكذا… بدأت رحلتنا نحو الخلاص.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 20"