داخل المنجم كان حجرٌ ضخمٌ يتلألأ.
“لم يكن هنا قبل قليل؟”
خطوتُ بضع خطوات أخرى إلى الداخل لأتأكد من ماهيته، فبان بوضوح أكبر.
كان حجرًا كبيرًا ينبعث منه ضوءٌ باهت، وحوله كانت تتناثر ذرات صغيرة أشبه بالغبار، تضيء بضوء أضعف.
اتبعتُ ذلك الضوء وتوغّلتُ أكثر قليلًا في الداخل.
كُوونغ.
“أه……؟”
وحين ابتعدتُ مسافة لا بأس بها عن المدخل، دوّى من خارج المنجم صوتٌ عظيم.
لم يكن صدى يشبه أصوات المناجم الأخرى، بل كان أكثر رجفة وقوّة.
وفي اللحظة نفسها بدأت جدران المنجم تهتز اهتزازًا دقيقًا، ثم انهمرت قطع صغيرة من الصخور تتدحرج على الأرض.
‘هذا…… شعور غير جيّد.’
طَقطَق.
تساقطت شظية حجر صغيرة أمام حذائي.
وبالتزامن مع ذلك أخذ الصوت البعيد يقترب أكثر فأكثر.
كُوُغونغ، كُوونغ. كُوونغ.
‘هذا المنجم الآن…….’
‘إنَّه ينهار!’
مع الإدراك المفاجئ ارتجفتُ بلا وعي وأخذتُ أترجع إلى الوراء.
‘يجب أن أخرج……!’
استدرتُ نحو المخرج وانطلقتُ بكل ما أوتيتُ من قوّة، لكن جسدي المرتعش وساقيَّ الخائرتين لم تُمكِّناني من الجري بسرعة.
“آآااه!”
وفي النهاية تعثرتُ بحجر لم ألحظه، فسقطتُ سقوطًا شديدًا.
ومع محاولتي النهوض متكئةً على الجدار، هوى شيءٌ ما من فوق رأسي بصوتٍ مكتوم.
رفعتُ عيني نحو السقف وأنا مستندة إلى الجدار.
كان سقف المنجم ينهار.
وكأنَّ العالم بأسره تحوّل إلى مشهدٍ بطيء الحركة.
شعور بالخوف يخنق أنفاسي، كتل الصخور والسقف المنهار يقتربان مني شيئًا فشيئًا، جسدي المشلول من الرعب لم يستجب لي.
وفجأة……
“……إيـرين!!”
صرخة أحدهم فمضىَ المشهد البطيء وأعيدَ الزمن ليتسارع من جديد.
كُوُغوُوُغونغ.
لم ينهَر السقف فقط، بل تشقّقت الأرض تحت قدمي وارتفعت بعنفٍ.
فقدتُ توازني وسقطتُ جاثية.
“لااا!”
وفي لحظةٍ قصيرة غطّى شيءٌ جسدي.
لم أستطع أن أميّز: أهو سقفٌ منهار؟ أم شيء آخر؟ أم شخص؟
كُوآآانغ!
مع دويٍّ مدوٍّ، غرق كل شيء في الظلام.
“أُووو…….”
كأنَّ شيئًا ثقيلًا يكبس على صدري فلم أعد أستطيع أن أتنفّس بعمق.
شعرتُ أنَّ نصف جسدي الأعلى عالق تحت ثقلٍ ما.
ببطءٍ عادت إليَّ وعيي.
من شعور الاختناق والضيق إلى إدراك الأرض الباردة الرطبة تحت جسدي.
ثمَّ بدأت الحواس تتفتح: الحصى الصغيرة تتدحرج بجانبي، الظلام القاتم يملأ بصري، وصوت الصخور الصغيرة وهي تنزلق على الأرض.
“لَمْ أمتْ…….”
كان ذلك أوّل ما خطر في بالي.
لَمْ أمت.
لقد نجوت.
أردتُ أن أنهض. أردتُ أن أخرج من هنا. أردتُ أن أرى عائلتي.
حين شددتُ على جسدي لأنتصب، شعرتُ بدفءٍ غريب. ورائحة مألوفة.
أنا أعرف جيّدًا صاحب هذه الرائحة.
الرائحة التي شبَّهتني يومًا بأشجار الشتاء، حين احتواني بمعطفه في الشارع.
خرج صوتي المرتعش بلا وعي:
“……يا صاحب السّمو.”
لكن لم يصلني منه أيّ جواب.
وضعتُ يدي على صدغي الذي ينبض بالألم، محاولًة أن أستعيد شظايا الذاكرة.
لحظة الانهيار، حين اهتزَّت رؤيتي وانهالت الصخور الكبيرة……
كان هناك مَن احتضنني فجأة وبقوّةٍ.
‘إيـرين!!’
لقد رمى بنفسه ليحميني.
حين استوعبتُ تلك الحقيقة، سالت دموعي بغتة.
“هُهك، يا صاحب السمو…….”
ارتعبتُ من أن يكون قد أصابه مكروهًا.
هززته بخفّة بيدي المرتجفة، وهو ما يزال يحتويني بجسده.
“……أُوه.”
“……!!!”
أطلق أنينًا خافتًا.
لا أدري من أين جاءتني القوّة، لكنّي حملته متعثّرة عدّة مرّات حتى تمكّنتُ من إسناده إلى جدار المنجم.
ولحسن الحظ، كان الحيز الضيق الذي وقعنا فيه سالمًا وسط كومة الأنقاض.
“هَلْ تسمعني؟ يا صاحب السمو. يا دوق ديهارت.”
لكنّه لم يفتح عينيه بعد، ربما كان الأنين رد فعل لا إرادي.
وضعتُ يدي المرتعشة على صدرهِ، وألصقتُ أذني.
دَقّ. دَقّ.
صدره يرتفع وينخفض قليلًا، ودفء جسده يصل إلى يدي، وصوت قلبه يخفق بانتظام.
“هاااه…….”
بعد أن تأكّدتُ من نبضه، انهرتُ بدوري وجلستُ متكئة إلى الجدار.
رغم أنّه حمَاني بجسده، إلّا أنّ جسدي كان يؤلمني من كل موضع، خاصّة الكاحل الملتوي الذي لَمْ ألحظهُ حين سقطتُ.
‘أريد أن أتفقّد حالة الدوق أكثر، ولكن…….’
رغم أنّني تأكّدتُ من حياته، إلّا أنّ الظلام الدامس الذي حلّ بعد انطفاء الشموع المعلقة على الجدران، حال دون ذلك.
عندها تذكّرتُ.
في المصنع، حين ينقطع التيار الكهربائي، ماذا كنا نفعل؟
في السكن الجماعي حين تنطفئ الأنوار، كيف كنّا نتصرف؟
رأيتُ في ذاكرتي شيئًا.
‘مصابيح الإرشاد.’
كانت مصابيح فسفورية تضيء في الظلام، نسترشد بها للخروج.
ثمّ نتبع الطلاء المضيء على الأرض حتى نصل إلى مفتاح الطاقة الطارئة.
‘فما الذي يمكن أن أجده هنا؟’
شمعدانات متناثرة، شظايا صخرية…… لحظة، الصخور؟
هذا مكانٌ يُسمّى منجمًا. أيْ أنّه يحوي معادن خاصّة.
ومن هذا المنجم بالتحديد، منجم آيسلين، استُخرجت الأحجار الكريمة التي رأيتها في الأوراق:
أوبال الجليد، جمشت زهرة الثلج، و……
‘الياقوت الشتوي.’
أتذكّر أنني أخذتُ عيّنة من هذا الياقوت مؤخرًا لأسأل عن سعره في متجر الأحجار.
وكانت خاصيتهُ أنّه:
‘إذا تلقّى صدمة قويّة، تتفتح داخله بلّورات ثلجية وتبعث ضوءًا.’
عندها بدأ ذهني يدور.
الحجر الذي رأيتُه قبل دخول المنجم كان ياقوتًا شتويًّا.
لكنّي لم أعرفه لأنّي لم أرَه يومًا يشعّ من قبل.
وحين هزَّ المنجمَ الانهيار، اهتزّت الصخور الكامنة وبدأت تُضيء.
لكن الآن…… لماذا لا تضيء؟
لو كان الانهيار عنيفًا إلى هذا الحد، لكان الضوء قد ملأ المكان.
حتّى وإن كان باهتًا، فإنّ كثرة الأحجار المتوهجة كفيلة بأن تُرى بوضوح.
وأنا نفسي دخلتُ المنجم مسترشدةً بذلك الضوء.
“آه.”
وفجأة تذكّرتُ ما قاله لي عامل المنجم قديمًا حين جئتُ أشتريه. كنتُ قد نسيتُ تلك الكلمات:
“هذا المنجم بالذات جدرانه سميكة للغاية. لا يمكن استخراج حجرٍ واحد إلّا إذا هدمنا الجدار نفسه.”
“أفلا يكون الأمر صعبًا؟”
“ليس صعبًا، لكن يتطلب وقتًا طويلًا. إذ أنّ هذه الأحجار يُفترض استخراجها ببطء وبحذر.”
حينها اخترتُ الطّريقة الغبيّة.
بوم!
بوم!
بوم!
أضرب الحجر حتى يضيء!
حين اعتادت عيناي على الظلام قليلًا، استطعتُ أن ألتقط بعض الأشياء.
أمسكتُ حجرًا صغيرًا مناسبًا بيدي، وسحبتُ من كومة الأنقاض صخرة بحجم كرة القدم، ثم هوَيتُ عليها بكل قوّتي.
لم أجرؤ أن أضرب الجدار خشية أن يتسبّب ذلك بانهيار جديد.
فكّرتُ أنّه بما أنّ المنجم انهار بالفعل، فربّما يحتاج الأمر إلى ضربة أخرى فقط ليضيء.
“آخخخ…….”
تحطّم الحجر في يدي وجرحني، لكن التقطتُ حجرًا آخر وأعدتُ المحاولة.
ركزتُ على الشقوق الصغيرة التي لاحظتُها في الصخرة، وكرّرتُ الضربات مرارًا.
زَزَزَق.
“نجحت!!!”
وانشقّت الصخرة بإعجوبةٍ.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 19"