سألتُ بنصف شعورٍ بالاستسلام:
“ألا يمكن أن يُغلق بشيءٍ مثل لوح خشبيٍّ وأنام؟”
ما إن انتهيتُ من الكلام حتّى هبّت عاصفة ثلجيّة قاسية.
“لَنْ يَصلُح هذا…….”
“يَجِبُ أنْ تذهبي إلى غرفة السيّد الكبير، يا آنسة.”
“أُه…….”
كم هو أمرٌ مُحزن حقًّا……. أخذتُ وسادتي المفضّلة بين ذراعي.
* * *
“مُستفزٌ”
هذا ما فكرتُ به بعد أن ..
“آه! دَخَلتُ المكانَ الخاطئ.”
غرفتا الأخ الكبير والأخ الصغير متجاورتان، فاختلط عليّ الأمر.
ولسوء حظّي، حين دخلتُ كان هو يُشدِّد أزرار قميص نومٍ تلقّاه من أحد الخَدَم، فارتعبتُ بشدّة.
“لَمْ أُعِدَ نفسي بعد…….”
رفع الدوق ذراعيه على شكل إشارة ✕ ليحجب صدره.
لم يبدُ عليه أيُّ خجلٍ، بل كان يُسقِط نظراته إلى الأرض بعينين متصنّعتين للحزن، فبدا الأمر مُستفزًّا.
“أ-أنا سأنام في الغرفة المجاورة. إذن، أستأذن.”
“أتمنّى لَكِ ليلةً سعيدة.”
خرجتُ مُسرعةً من الغرفة. حقًّا، لماذا جُعلت غرف الإخوة متلاصقة لتُربكني هكذا.
انتقلتُ إلى الغرفة المجاورة وفتحتُ بابها على مِصراعيه.
“…….”
صحيح…… كان هذا ذوق أخي الكبير……
“كيف يُمكن أنْ أنام هنا؟”
الجدران والأرضيّة سوداء قاتمة تُوحي بكآبة مُرعِبة أكثر من طابعٍ قديم.
لا مكتبًا ولا كرسيًّا، فقط سريرٌ أسود ضخم في منتصف الغرفة.
وعلى الجدار أسلحة مُخيفة، سيوفٌ وبنادق، وفوق الأرض بساطٌ أحمر كلون الدم.
“مُرعِب جدًّا.”
كان يجدر أنْ أُعطي هذه الغرفة للدوق.
ليتني نمتُ في غرفة أخي الأصغر……
تمدّدتُ على السرير في النهاية.
لكن أصوات الغربان البعيدة، وعواء حيواناتٍ مجهولة تتردّد مع الريح في الليل، لم تَدَعْ للخوف سبيلًا للغياب.
ثمّ فجأة انطفأت الشمعة المُتراقصة: “فووو…….”
* * *
“……؟”
“أرجوك، غيّر الغرفة معي…….”
قضيتُ ساعاتٍ طوال بلا نومٍ حتّى اضطررتُ لطرق الباب المجاور.
ولحسن الحظ، كان الدوق ما يزال مُستيقظًا يطالع بعض الأوراق.
“ليس أمرًا صعبًا.”
شكرًا…… مشيتُ مترنّحة إلى السرير وانغمستُ في اللحاف.
نظر إليّ من عند مكتبه وقال:
“وأنا سأبقى هنا أيضًا.”
“نعم؟ لِماذا؟”
“سأستعدُّ للاجتماع على أيّ حال.”
أردتُ أنْ أصرخ: ‘أتُشاهد نومي إذن؟!’ لكنّ التعب غلبني.
وفوق ذلك، غرفة أخي الكبير بلا مكتب أصلًا.
أغمضتُ عيني باستسلام وأجبتُ:
“كما تشاء…….”
رغم أصوات الريح على النوافذ، ونعيق الغربان، لم أعُد خائفة.
كان هناك: حفيف الأوراق، صَوت تغيير جلسته، أنفاسه المنتظمة.
سألتُ بنصف وعي:
“يا دوق.”
لم يأتِ جواب، لكن صَوت الأوراق توقّف.
“هل ستُحقّق كلّ أحلامي فعلًا؟”
“أجل.”
“لِماذا؟”
أدركتُ أنّه يحتاج لشخصٍ مُتقنٍ في عمله، وأنا أعرف أنّني كذلك.
كما أنّه يُريد الاحتفاظ بي فترة طويلة.
لكن لِماذا يتكبّد كلّ هذا العناء مع شخصٍ لا يُحبّه أصلًا؟
وليس بالضرورة أنْ يكون ذلك بالزواج.
“لعلّي أُحبّ السيّدة.”
“ماذا؟”
“مزحةٌ.”
كنتُ نصف نائمة فانتبهتُ فجأةً.
تنفّستُ الصعداء لِما قاله، وسألتُ:
“إذن ما هو حلمُك أنتَ يا دوق؟”
“أيُّ شيء تعنين؟”
“حُلمكَ الخاص. لا بُدّ أنّ لكَ أحلامًا خاصةً أيضًا.”
على الأقل مثل صورةٍ مثاليّةٍ لشريكٍ.
“أنْ أتزوّج شخصًا بارعًا في عمله، فأسعى لازدهار الشمال وأُثبّت مكانتي.”
“نعم. سأخلد إلى النوم.”
غطّيتُ رأسي باللحاف وقد سئمتُ من جُمله التي ألقاها وكأنّها محفوظة.
عاد صَوت الأوراق يُقلَّب، وجرّني النوم مُجدّدًا.
وفي غمرة النعاس، خُيّل إليّ أنّه تمتم:
“…… لا بُدَّ أنْ يكونَ الأمر هكذا. طاب نومكِ، يا سيّدة.”
* * *
ليلٌ مُظلم هادئ في الشمال.
تراقص ضوء الشمعة فوق المكتب.
أمسك كايل بالقلم يُدوّن ملاحظاته بالحبر الأحمر على التقرير.
هُنا فوضى، هُناك أيضًا. لا بأس بهذا البند وحده.
واصل التصحيح حتّى نفد الحبر.
فكّر أنْ يستريح قليلًا، ثمّ وجّه نظره عفويًّا نحو السرير.
فرأى إيرين نائمة، شفتاها نصف مفتوحتين تُخرجان أنفاسًا هادئة.
ذراعٌ ممدودة فوق رأسها، وإحدى الوسائد مُلقاة على الأرض.
هل يجوز أنْ تكون بهذا القدر من الاسترخاء؟
لم يكن قلقًا حقًّا، لكنّ دهشته أنّها لا تُبدي أيَّ حذر منه.
تأمّلها لحظة، ثمّ هزّ رأسه ليُتابع عمله.
وبينما يكتب، سمعها تُغنّي همسًا:
“الخنازير الثلاثة يبنون بيتًا…….”
“…….”
“خنزير، خنزير…….”
ارتفع حاجباه بدهشة.
لكن إيرين تابعت أغنيتها:
“الأوّل يبني من القش…….”
أيُّ أغنية هذه؟
ترك القلم، شبك ذراعيه وأخذ يُصغي إليها.
“طَقطَقَ طَقطَقَ……. هوو~”
واستمرّت حتّى وصلت للخنزير الثالث، ثمّ توقّفت فجأة.
أمال رأسه: انتهت؟
“لا للبناء الرديء…….”
اقترب منها، جَثا قرب السرير وحدّق بوجهها.
ملامحها مُنقبضة تحت ضوء القمر.
تمتمت بغير وعي:
“…… رطوبة…… عَفَن…….”
ابتسم كايل بسخرية مكتومة.
لم يَرَ شخصًا يُظهر أمامه هذه البراءة وهذا الطيش.
حتى في يقظتها كانت تُظهر الحذّر رغم أنها لا تخشاه فعلًا.
مدّ إصبعه ليضغط بين حاجبيها فاسترخى وجهها.
حينها تذكّر حديثها قبل نومها.
“إذن ما هو حلمك يا دوق؟”
“أيُّ شيء تعنين؟”
“حُلمكَ الخاص.”
لم يُفكّر يومًا بأحلامٍ أو نموذج مثالي.
حياته كانت حروبًا ومراقبة وليّ العهد وإحياء الشمال.
لكنّه أجابها:
“أنْ أتزوّج شخصًا بارعًا في عمله……”
وقد كان في نصفه مزاح، لكنّه بدا وكأنّه حقيقةً لاشعوريّة.
“أنتِ ستُصبحين مِعياري. طاب نومكِ، يا سيّدة.’
نهض ليُعاود عمله.
صوت القلم، وأنغامها الغامضة، وضحكة صغيرة ملأت الفجر.
“صَوت العصافير…… آه، نمتُ طويلًا.”
انتفضتُ جالسة.
“هوف.”
تفحّصتُ المكان بسرعة.
لم يَعُد الدوق في الغرفة.
“لَمْ أَشخُر، صحيح؟”
لم يكن يجدر بي أنْ أنام بلا حذر.
لكن التعب أنتصرَ علي.
“حسنًا. لم يَحدُث شيءٌ.”
لحُسن الحظ، ظلّت الوسائد والأغطية مُرتّبة.
أحيانًا أنام وذراعاي مرفوعتان كالمُحتفل، لكنّني هذه المرّة نمتُ هادئة.
“لقد صرتُ سيّدة بحق. حقًّا.”
تمدّدتُ مُنتعشة، ثمّ نهضتُ ورنّيتُ الجرس.
دخلت الخادمة التي أخطأت البارحة إلى غرفة أخي الكبير.
“يا آنسة! حسبتُكِ في غرفة السيّد الكبير.”
“بدّلتُ الغرفة. ساعديني في التجهيز.”
لم أُبدّلها في الحقيقة، لكن قلتُها ذريعة.
كنتُ أودّ العودة سريعًا إلى غرفتي، لكن النافذة لم تُصلَح بعد.
وفكّرت أنّ الطابق الأوّل مكتظّ بالكبار لاجتماعهم، فليس من الجيّد أنْ أُقابلهم بلا ترتيب.
“كيف ترغبين بالغداء؟”
لقد استغرقتُ في النوم طويلًا، فما إنْ سرّحتُ شعري وارتديتُ ثيابي حتّى أوشك وقت الغداء أنْ يحلّ.
“همم…… لستُ جائعة.”
“أأُحضّر شيئًا خفيفًا إذن؟”
“أجل. من فضلكِ.”
كنتُ في غاية النشاط بعد نومٍ عميق.
سآكل فطورًا مُتأخّرًا خفيفًا، ثمّ أتمدّد مُتكاسلة!
* * *
الاجتماع الدوريّ مع رجالات الشمال كان دومًا هادئًا لكن مُرعبًا.
ولأنّه هذه المرّة في قصر فرومروز لا في قصر ديهارت الكئيب، فقد خفّت حدّته قليلًا.
بيت فرومروز له جوّ دافئ لطيف، بلون الكريم والورديّ.
والناس فيه بنفس الانطباع: شعر بلون القشّ، عيون خضراء لامعة، ملامح هادئة.
إلّا الزوجة الراحلة والابن الأكبر اللذَين ورثا الشعر الأحمر الداكن والعيون الكاكيّة، فأعطيا جوًّا باردًا.
لكن البقيّة كلّهم وديعون.
“أخيرًا أستطيع أنْ أتنفّس هنا!”
“متى ينتهي ترميم قصر الدوق؟ لا أُريد العودة.”
“انظر! حتى ذاك الدوق المخيف صار وجهه ألطف قليلًا في هذا المكان!”
الجوّ يُغيّر الإنسان فعلًا.
فقد توقّف رجاله عن الارتجاف المُفرط لمجرّد صَوت أنفاسه أو خطواته.
“أترون أنّ لكم وقتًا للتفكير بأشياء أخرى أثناء الاجتماع؟”
“آه، لا، ليس هذا…….”
“وأنتم تحملون إليّ اقتراحات تافهة.”
“هع……!”
“لقد حذّرتُكم أنّني لا أُسامح مرّتين.”
إلغاء.
ما زال مُرعبًا للغاية.
دقّت الساعة معلنةً الظهر.
تنفّسوا بحُزن. لن يحظوا بغداءٍ دافئ في منازلهم اليوم أيضًا.
لكن الدوق نهض فجأة.
“لا حاجة لِمزيدٍ من هذه القمامة. الاجتماع انتهى.”
“لكن لم نصل بعد إلى قرارٍ بشأن البنود……!”
“لا بند يستحقّ. أعيدوا صياغتها وأرسلوها إ
لى قصري صباح الغد.”
ومن لا يُرسل تقريرًا جيّدًا فلن يحضر الاجتماع القادم.
وقبل أنْ يخرج، أضاف ببرود:
“وأعدّوا أيضًا لملفّ تعديل قانون أمان البناء في المناطق المدنيّة.”
غادر بخطى أخفّ من المعتاد.
وفي داخله، تردّد صَوت أغنية إيرين:
‘الخنازير الثلاثة يبنون بيتًا……’
إذن، يجب أنْ يكون البيت متينًا.
ابتسم كايل بخفّة.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 14"