بعد أن جمعتُ كلَّ الأطفال وأرسلتُهم إلى الدوق، حلَّ أخيرًا بعض الهدوء.
أنا لا أحبُّ الأطفال. فقط……
لأنَّني نشأتُ في ميتم في حياتي السابقة، فقد اعتدتُ على التعامل معهم ورعايتهم.
أعرف أنَّ هذا لا يعني أنّني أحبّ الأطفال حقًّا. إنَّما فقط،
“ذا…… أُختي.”
تُثير اهتمامي واحدةٌ منهم بشكل خاص.
أنزلتُ بصري نحو طرف فستاني الذي سُحب بخفّة.
كانت طفلةً خجولةً وهادئةً على نحوٍ لافت، لذا كانت تلفتُ نظري أحيانًا.
لم يسبق لها أن بادرت بالكلام.
ابتسمتُ بلطف وحاولتُ أن أُلين صوتي وأنا أسألها:
“اسمُكِ إيلا، أليس كذلك؟”
“نعم.”
“لِمَ لا تلعبين مع باقي الأطفال؟”
“ذلـك…….”
تردَّدت الصغيرة قليلًا، فجلستُ القرفصاء أمامها كي أجعل نظري في مستوى عينيها.
“هل يمكنني الحصول على…… قطعة خبز أخرى!”
“هاه؟”
صرخت إيلّا بعينيها مُغمضتين وصوتٍ صغير، بينما خرج مني صوتٌ أحمقٌ على عكسها.
“لكن ما جُلب إلى الميتم من خبزٍ هو كل ما رأيتِ قبل قليل.”
“آه…….”
ارتخت يد الطفلة التي كانت تقبض على طرف ثوبي، وقد بدا عليها الحزن واضحًا.
“لكن في العربة بقيت بعض الأرغفة الإضافيّة. سأُعطيكِ منها.”
“……! حقًّا؟”
تألّقت عيناها بسرعة، وكان من السهل قراءة مشاعرها. مددتُ يدي وربتُّ على رأسها بخفّة.
“هل تنتظرين قليلًا؟”
“نعم!”
عدتُ إلى العربة وأحضرتُ رغيفًا كنتُ قد خبّأته للاحتياط، ولففته بالورق.
كيلا يراه أحد الأطفال فيغاروا أو يحزنوا، خبّأتُه في صدري بإحكام.
“سأشتري المرة القادمة المزيد. آسفةٌ.”
“لا، شكرًا جزيلاً!”
أردتُ أن أسألها إن كانت جائعة، لكن خشيتُ أن يبدو الأمر كتحقيقٍ فامتنعت.
مثل هذه الأشياء ينبغي أن يُسأل عنها الكبار.
“هل يُعقل أنّ طعام الأطفال أو وجباتهم الخفيفة ناقصة؟”
“نعم؟ لا، أبدًا.”
ما إن أعدتُ إيلّا إلى الأطفال حتى اتجهتُ إلى المديرة أسألها بجدية.
“نحن نُقدّم للأطفال طعامًا كافيًا، إضافة إلى وجبات خفيفة يوميّة.”
“هممم، حسنًا.”
إذن لِمَ طلبت إيلّا منّي قطعة خبز إضافيّة؟
هل لأنّها فقط أرادت المزيد؟
أنا أتسلّم تقارير الحسابات شهريًا وأراجعها بنفسي، لذا احتمال كذب المديرة ضعيف.
قبل قليل حين أعطيتُها الخبز نظرتُ إلى طولها وبشرتها وثيابها، ولم أرَ مشكلةً واضحةً.
‘لكن لا يُمكنني أن أثق تمامًا.’
استمعتُ إلى بعض الأخبار الأخرى عن إدارة الميتم ثم نهضت.
“سأعود لاحقًا. آه، سأودّع الأطفال قبل أن أذهب، فلا حاجة لأن تُرافِقيني.”
“حسنًا. شكرًا لكِ دائمًا، سيّدتي إيرين.”
“لا تنسوا أنني أُراقبكم باستمرار.”
“ها؟ آه، نعم!”
رمقتها بنظرةٍ حادّة لأُعطيها تحذيرًا صريحًا.
* * *
بعدَ توديع هم والعودةِ إلى العربةِ.
“هل تُريد النوم قليلًا في العربة؟”
“لا بأس.”
لا يبدو عليك أنّكَ بخير.
كنتُ على وشك أن أُهنّئ الدوق على تعبه إذ لعب مع عشرات الأطفال، لكن فجأة فتح عينيه بحدّة.
“أنا الذي فزت.”
ماذا فعلتَ معهم بالضبط……؟
بدأ القلق يساورني.
“هل أرهقتَ الأطفال؟”
“لا. لقد لعبتُ معهم فقط.”
“لا يبدو كذلك.”
“اليوم لن ينسوه حتى بعد موتهم.”
حين سألتُه ماذا فعل معهم، أخذ يعدّ على أصابعه الطويلة:
“قفز الحواجز، الجري ذهابًا وإيابًا لمسافات طويلة، تجاوز العقبات، اجتياز الأنفاق. أشياء بسيطة كهذه.”
يعني أنّه جعل الأطفال يُمارسون رياضة تدريب الكلاب……
حتى إن بدا كلامي ساخرًا، كان هو يتباهى وكأنّها إنجاز.
“الأطفال استمتعوا.”
“هاه…….”
حين خرجتُ من مكتب المديرة، كان هو والأطفال مغطّين بالغبار. بدَوا سعداء، أو ربما مُرهقين……
على كلّ حال كان واضحًا أنّه بذل جهدًا حقيقيًّا للّعب معهم.
“آه، ولعبنا أيضًا رمي القرص. رميتُ واحدًا بعيدًا حتى تجاوز الجدار.”
“نم رجاءً.”
يكفي ما سمعت. أجبته بحزم فأعاد إغلاق عينيه.
وما هي إلا لحظات حتى صار صدره يرتفع ويهبط بانتظام من شدّة التعب.
‘إنها المرة الأولى التي أتأمّل ملامحه هكذا عن قرب.’
رأيته كثيرًا وتحدثتُ معه من قبل، ولم أكن أحُرّج من النظر إليه، لذا ظننت أنني اعتدت وجهه.
‘لكنّه حقًّا وسيم.’
لأنّه مغمض العينين، استطعتُ أن أتمعّن بدقّة في تفاصيله.
حاجبان سميكان مرسومان بإتقان، رموش طويلة وكثيفة كأنها مرسومة.
أنف مستقيم وعالٍ بانسياب أنيق حتى طرفه، يجمع الرجولة والفخامة.
وتحته……
‘وجه بارد الملامح، غاية في الجمال.’
أدركتُ أن مصدر قسوته هو شفاهه.
صحيح أنّ عينَيه الحمراء البراقة تُضفي أثرًا بارزًا، لكن مع إغلاقهما بدا أن الشفاه الرفيعة المحدّدة هي التي تُضفي ذلك الانطباع البارد.
على عكس شفاهي الممتلئة قليلًا.
لقد كنتُ أنسى ذلك حين كان يمازحني أحيانًا أو يبتسم. لكنّي تذكرت فجأة كم كان لقاؤنا الأول مُخيفًا بسبب قسوته.
بعد أن شبعتُ من التمعّن في ملامحه، شعرت بالملل.
لو لم أعطِ إيلّا الخبز، لكنتُ أكلته الآن.
مع صوت حوافر الحصان المنتظم غلبني النعاس، فاتكأتُ على جدار العربة.
‘آخ.’
ارتطمت رأسي بالجدار حين اهتزّت العربة فجأة.
عندها تكلّم الدوق بصوتٍ منخفض:
“هل أُعطيكِ كتفي لتستندي عليه؟”
“مـ-متى استيقظت؟”
“من يدري.”
بما أنّه كان مغمض العينين، فلعلّه لم يلاحظ أنني كنت أتأمل ملامحه.
“إن لم تُعجبكِ كتفي، فبإمكانك الاستلقاء على فخذي.”
“أرفض الاثنين.”
بدا أنه لم يلاحظ شيئًا فعلًا. تنفستُ الصعداء وأدرتُ بصري نحو النافذة بتظاهرٍ باللامبالاة.
* * *
“مير. لقد جئتُ!”
وراء سور الميتم عند مكان فرز النفايات.
في زاوية يكسوها العشب، يوجد فجوة صغيرة تكفي لدخول طفل، يعرفها قلة من أطفال الميتم.
بالأحرى، لم يعرفها سوى إيلّا وفيو ورين.
وكان هناك شخص آخر يعرفها أيضًا.
“مير، خُذ هذا.”
“هل ساقكَ بخيرٍ؟ جرحكَ…….”
“أنا بخيٍر. شكرًا.”
طفل يرتدي حذاءً جلديًا باليًا، وسروالًا قصيرًا يكشف كاحليه، ملفوفًا عند ساقه بقطعة قماش بدائية كضماد.
كان يحمل قميصًا نظيفًا نسبيًا، فمسح يديه به قبل أن يأخذ الخبز من إيلّا.
قطع مير الخبز إلى نصفين، وخبّأ نصفه، ثم عضَّ الباقي.
‘لذيذ…….’
كان الخبز الذي اعتاد عليه صلبًا لدرجة أن عليه أن يُلينه بالماء قبل أن يأكله. لكن هذا…… طري ورطب ويذوب في الفم.
تذكّر واجهة متجر الحلويات الذي رآه قبل أيام، مليئًا بمثل هذا الخبز.
‘كان عليَّ أن أذوقه بدل أن أبيعه.’
لكن لا. حتى لو حاول، كان مظهره البائس سيجعله يُطرد من المكان.
لذا أقنع نفسه أنّ بيعه لتذكرة “سويت باودر” كان القرار الصحيح.
وبينما غرق في التفكير، تمتمت الفتاة أمامه بخجل:
“مير.”
“نعم.”
“ألن تأتي للعيش في ميتمنا؟”
ها هي تعود إلى هذا الموضوع.
رفض عشرات المرات، لكن هذه الصغيرة المُتعاطفة لم تيأس.
“هناك لا يضربون الأطفال. ولا يُجَوّعونهم. وهناك دروس وألعاب!”
ابتلع مير ما في فمه.
“هل تُخبرينني بهذا كي تُثيري غيرتي؟”
“…… لا!”
“لكن يبدو كذلك.”
وقف مير، ونفض عن سرواله التراب قليلًا ثم تركه.
الثياب متسخة على أيّ حال.
على عكس إيلّا التي بدت ثيابها أنيقة ونظيفة حتى وإن لم تكن فاخرة.
“……لن تأتي بعد الآن؟”
عرف مير أنّه يتصرّف بعناد طفولي الآن.
“أنا آسفة. تعال مجددًا…… سأحضّر لك دواء المرة القادمة، حسنًا؟”
لم تكن إيلّا مُجبرةً على فعل ذلك من أجله.
بإمكانها أن تأكل الخبز وحدها، ولا داعي لأن تُهرّب الدواء.
كان هذا دلالًا. قلبًا صغيرًا قاسيًا.
عاش مير دومًا في حذرٍ وقسوة، وهذا الطبع لا يزول بسهولة.
“……سأرى.”
“إذن وعدٌ! لِنُقْسم بخنصرنا!”
أمسكت إيلّا يده وربطت إصبعهُ بخنصرها.
تعانقت الأصابع ثم افترقت.
“حتى إن كنت مشغولًا، تعال بعد شهر. يومها ستأتي أُختي إيرين، ومعها أشياء لذيذة.”
أومأ مير مُكرهًا.
“إيلّا~ أين أنتِ؟”
وصل صوت امرأة تبحث عنها من خلف السور.
“آه، عليَّ أن أذهب. أراك لاحقًا يا مير!”
كان الأجدر بها أن تُسرع بالدخول.
ما كان عليها أن تلتفت وتبتسم حتى آخر لحظة.
بعد أن اختفت، لفَّ مير نصف الخبز المتبقي وخبّأه بعناية في جيبه.
ثم سار مبتعدًا عن الميتم، مارًّا بالأزقة ثم عبر الأحراش، متأكدًا كل مرة أنّ لا أحد يُلاحقه.
و…… فرَّ. ركض مسرعًا.
عاد إلى مكانه المعتاد.
إلى حيث يسكن الأطفال الأكثر بؤسًا حتى من أيتام الميتم.
خلف مير بقيت أربع خطوات صغيرة على التراب.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 12"