* * *
لكن رئيسة الخادمات كانت تعلم جيدًا أن رغبتها لن تتحقّقَ في النهاية، وأنها مجرّد حلمٍ بعيد المنال.
تحدّثَ مالكوم بلطف، كما لو كان يهدئ طفلًا يحلم بأحلام واهمة.
“على الرّغمِ من أنها كانت لفترة قصيرة، إلا أن الآنسة كانت بالفعل لطيفةً معنا ذات مرة. لكن تلك اللطافة وحدها لا يمكن أن تغفر كلّ تصرّفاتها الحالية، أليس كذلك؟”
“…..”
“يجب أن تعتني بنفسكِ. لا يمكنكِ التضحية بنفسكِ من أجل الأطفال إلى الأبد. إذا استمر الأمر هكذا، ستنهارين حقًا.”
“شكرًا على قلقك.”
على الرّغمِ من أنها شكرته، إلا أنها لم تقل أبدًا “سأفعل” ردًّا على كلمات مالكوم.
إذا حدثَ شيءٌ مثل اليوم مرّةً أخرى، ستركع مجددًا وتتوسّل العقوبة نيابةً عن الآخرين.
بما أن هذهِ المحادثة تكرّرت أكثر من ثلاث مرات، لم يواصل مالكوم الحديث. ابتلعَ مرارته ونظرَ إلى جروح رئيسة الخادمات بعناية أكبر.
“كل إنسان يحمل طباعًا طيبة في داخله. اللطافة التي أظهرتها الآنسة لم تكن زائفة. لقد نسيتها مؤقتًا فقط، لكن في أعماقِ قلبها، لا تزال الرّحمة موجودة.”
“همم.”
“أليس كذلك، مالكوم؟ ألم تنسَ كيف تصرّفتْ الآنسة أثناءَ الفيضان العظيم قبل خمس سنوات؟”
“ذلك…”
“في كارثة الفيضان العظيم، لم تتمكّن من إنقاذ الجميع، لكنها وقفت بنفسها في وجه التيار الهائل الذي اجتاحَ المدينة، و أنقذت المئات من النّاس، بل الآلاف. كان ذلك معجزة حقيقية، وليس مزيّفًا.”
لم يكنْ مالكوم غافلاً عن قصص ليفيا أرفين خلالَ الفيضان العظيم قبلَ خمس سنوات.
على الرّغمِ من أنه لم يكنْ بالإمكان إنقاذ الجميع في تلكَ الكارثة، قيل إنها وقفتْ بنفسها لصدّ التّيار المائي الهائل و حماية الناس. كانَ منظرها وهي تبكي أثناء إنقاذ النّاس يشبه القديسة الحقيقية.
لكن ليفيا آنذاك و هذه الآن مختلفة تمامًا، لذا اعتقد أن تلكَ القصص كانت مبالغ فيها.
ومع ذلك، عندَ سماع كلام رئيسة الخادمات، بدت كأنها حقيقة و ليست مبالغة. واصلت حديثها وهي تحدّقُ في الفراغ كما لو كانت تنظر إلى مكان بعيد.
“لذا سأنتظر قليلاً. سأنتظر الآنسة التي ستظهر الرّحمة لنا مجددًا.”
كانت كلماتها تبدو كأملٍ جميل، لكنها في الوقت ذاته بدتْ كيأس خالٍ من أي أمل.
بعد أن انتهى مالكوم من علاجها، غادرت رئيسة الخادمات غرفة الإسعافات دون تردد.
كانتْ وجهتها المستودع الشرقيّ، حيث تنتظرها عقوبة مروعة.
* * *
تاركةً وراءها غرفة المعيشة المبعثرة بشظايا الزجاج المكسور، عادت ليفيا إلى غرفة نومها و فكّت شعرها المربوط بعنايةٍ بنزق.
ألقت بالزّينةِ المزخرفة بعيدًا وانهارت على الأريكة.
حتّى في حالتها المضطربة، كانت لا تزال جميلة، و زوايا عينيها المرتفعة جعلتها تبدو أكثرَ إغراءً بطريقة غريبة.
شربت الماء البارد بنهم و هي تضع ساقًا فوق الأخرى وتطوي ذراعيها، لكن انزعاجها لم يهدأ.
“تلكَ الفتاة الوقحة، كيف تجرؤ على إفساد الأعمال التي أقمتها بهذا الشكل؟”
أطلقتْ شتائم لا تعرف إلى مَنْ توجهها، لكن بدلاً من الشّعور بالرّاحة، شعرت بمزيدٍ من الضيق.
كانَ ذلكَ متوقعًا. لأن الشّخص الذي وجّهت إليه غضبها لم يكن موجودًا في هذا العالم.
فقدتْ ليفيا خمس سنواتٍ كاملة من حياتها بسبب روحٍ مجهولة استولت على جسدها دون إذن.
إذا استولى شخص على جسد شخصٍ آخر دون إذن، كانَ يجب أن يعيش بهدوء كالفأر الميت، لكن تلكَ الرّوح دمّرت حياة ليفيا تمامًا.
“امتنعي عن مضايقة الخدم بسببِ مزاجك السيئ. لن نتمكّن من توظيف خادماتٍ جديداتٍ لبعض الوقت.”
“ليفيا أرفين بحاجةٍ إلى خادمات، و تقول إنه لا يمكن توظيفهن؟ هل هذا منطقي؟”
“حتى لو أغلقنا العيون و الآذان، هذا مكان يعيش فيه النّس.ا لا يمكننا منعُ الشّائعات التي تتجاوز الجدران. لقد وظّفنا الكثير من الخادمات في وقتٍ قصير. لم يكن هناك فصل، فقط توظيف مستمرّ، فمَن لن يشكَ في ذلك؟”
“أليس من مهامكَ منع تلكَ الشائعات و تسويتها؟”
رفعتْ ليفيا ذقنها و أمالت رأسها، كما لو كانتْ تقول انّها لا يجب أن تهتمّ بمثلِ هذه الأمور.
كانت عيناها، المتعجرفة و المائلة للأسفل، متلألئة كالجواهر الذهبية، ممّا خلق هالة أكثر إثارة للرهبة.
ركعَ إدموند، المقرب و المساعد لليفيا، أمامها بأدب.
“لفترةٍ مؤقتة فقط. بما أن وليّ العهد يراقب، فلا ضررَ مِن الحذر، أليس كذلك؟”
قبّلَ يدها النّاعمة و الصغيرة بإخلاص، وأغلق عينيه برضا. كانَ موقفًا يظهر الطاعة الكاملة، كما لو أنه سيطيعُ حتّى أمرَ الموت إذا كان مِن سيّدته.
“نفاق ولي العهد مقزّز حقًا. يقول إنه مشغول، فلماذا يستمرّ في مراقبتي؟”
“أليس ذلك بسببِ إلغاء الخطوبة من جانبٍ واحد؟ ربّما يحمل ضغينة.”
“ها ها ها! وليّ العهد مثير للشّفقة. بسبب شيء تافه كهذا! علاوة على ذلك، التفكير بأنه يستطيع قمعي أنا النّبيلة، أليس ذلك مضحكًا؟”
عبستْ ليفيا وهي تسخر، كما لو أنّها تتذكر شيئًا عن وليّ العهد.
شعرَ إدموند بانزعاجها المتزايد، فطبطب على يدها بحذر.
“إنه يحاولُ قمعكِ لأنه يخاف منكِ. لكنه في النهاية مجرّد ولي عهد. كل ما يستطيع فعله هو المراقبة كما يفعل الآن.”
“نعم، صحيح. شعب الإمبراطورية يحبّني أكثر من وليّ العهد.”
“لا أحدَ يجرؤ على رفعِ رأسه أمام ليفيا.”
بدتْ زاوية فم ليفيا ترتفع قليلاً، كما لو أن كلمات إدموند الحلوة كالسكر هدأت مزاجها.
احمرَّ وجه إدموند، وأصبحَ النمش على وجهه أكثر وضوحًا على بشرته المحمرة.
“لكن… عندما استولت تلكَ الفتاة غير المفيدة على جسدي، يقال إنها كانت على علاقة جيّدٍة معه، لذا ربما يعرف ولي العهد شيئًا عن بعضِ الأعمال التي أقمتها.”
“همم.”
“ابحث عن طريقةٍ أخرى. كما قلت، إخراج الخادمات الصغيرات بحجة العقوبة سيكون صعبًا لبعض الوقت.”
“نعم. سأجدُ طريقة أكثر فعالية.”
“أستطيع الوثوق بحدسكَ أنتَ الذي اختبأتَ بفضله عندما استولت تلكَ الفتاة على جسدي، أليس كذلك؟ أنتَ الوحيدُ الذي لن يخونني.”
“روحي ملكٌ لليفيا بالفعل. حتى لو استولت مزيفة على جسدك، كيفَ لا أعرف؟”
ضحكتْ ليفيا بسخريةٍ على كلمات إدموند الممتعة.
عندما كانت المزيّفة تستحوذ على جسد ليفيا، اختبأ إدموند بحدسه السريع و تابعَ الأمور من بعيد.
عندما رأى ليفيا تتصرف كشخصٍ مختلف تمامًا، تخلى عن كل شيء و هربَ بعيدًا. كان ذلك اختيارًا ممتازًا.
قطعتٍ تلكَ المزيفة كل الأعمال التي أقامتها ليفيا، و بدأت في إحياء العلاقات التي قَطعتها.
بل إنها أقامت علاقاتٍ مع أشخاص لم يكونوا ذلك متعلقين بها، ممّا كانَ مزعجًا للغاية.
كانت ليفيا كائنًا ينعم بالحرية و المتعة، ويجب أن يكونَ دائمًا فوق الآخرين.
رمز النّسب النبيل الذي لا ينحني حتّى أمام الإمبراطور.
كائنٌ محبوب من الجميع، لا يستطيع حتى الإمبراطور لمسه، مختار بقوة الحاكم.
“لكن، يبدو أن وليّ العهد لا يزال يعتقد أنّني خنته. لو فكّرَ قليلاً مثلك، لكان تخيّلَ على الأقل أن روحًا أخرى كانت في جسدي.”
ضاقتْ عينا إدموند عند هذه الكلمات.
لأنها هي من عذبته مرّات لا تحصى حتى لا يفكر في مثلِ هذه التخيلات.
ابتسمَ إدموند بهدوء دون أن يقول شيئًا، وأفلت يدها التي كانَ يمسكها بحذر، و هَمس.
“حتّى لو كانت روح أخرى تسكن في الجسد، كان ذلكَ جسد ليفيا في النهاية. الجسدُ الذي همسَ له بالحب و الجسد الذي خان قلبه كانا واحدًا… هل يمكن لمَن خانه الحب أن يحلم بتخيلاتٍ حلوة كهذه؟”
“ههههه!”
ضحكتْ ليفيا بصوت عالٍ على كلمات إدموند.
ضحكتْ حتى شعرتْ بألم في بطنها، ثم مسحت الدموع من زاوية عينيها وقالت:
“أليس هذا مضحكًا حقًا؟ ما هو الحب، ليجعلني، أنا التي كانَ يكرهها بشدّة، يحبني في النهاية؟ وجه ولي العهد المحطم و هو يتشبّث بي متسائلاً لماذا أفعل هذا لا يزال واضحًا في ذهني. إنه مضحكٌ جدًا.”
اللعب بقلوب الناس لم يكن أمرًا صعبًا على ليفيا على الإطلاق.
كانَ الجميع يحبّونها، يمدحونها، و يثقون بها.
خيانة الثقة و سحق الحب كانا شيئين كانت ليفيا بارعةً فيهما منذ صغرها.
“ليفيا! لماذا تتصرّفين هكذا بحق السماء؟ حتّى لو فقدتِ ذكرياتك، علاقتنا…”
“علاقتنا؟ أننا كنّا سنتزوج؟ وماذا في ذلك؟ ذكرياتي توقفت قبلَ خمس سنوات. ألم نكن نكره بعضنا آنذاك؟”
“…هل تقولين إنني كنت مقززًا؟”
“آه، يبدو أنكَ لا تزال تفهم جيدًا. ظننت أنك أصبحت بطيئًا بسبب مضايقتكَ المستمرة.”
“…..”
“من البداية، كانَ من الخطأ أنك ، أنتَ ، تحاول امتلاكي أنا النبيلة. يجب أن تعرفَ حدود طمعك. أليس كذلك؟”
“ليفيا، أرجوكِ توقفي…”
“هل يجبُ أن أقولها بهذهِ الطّريقة حتى تفهم؟ أنا لا أحبّك . لم أحبّكَ و لو للحظة. بل إنكَ بتصرفاتكَ هذه—حقًا ، تبدو مقزّزًا جدًا. هل ترى؟ القشعريرة على جسدي؟”
كانَ تعبير وليّ العهد آنذاك، كمن أُلقيَ حيًا في الجحيم، بائسًا تمامًا.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"