* * *
كنتُ أنا، الشخص القصير التي لا تصل إلاّ إلى صدره، منعكسة في عينيه العميقتين.
شعرتُ بالارتباك خوفًا من أن تكشف نظرته التوقعات التي أخفيتها في أعماقِ قلبي.
“ماذا؟ آه، لقد قلتُ شيئًا غبيًا، أليس كذلك؟ عادةً أكون سريعة البديهة، لكن، لسببٍ ما، أرتكب الأخطاء دائمًا أمام سموك…”
شعرتُ بالحرج و بالخجل من استمرار تقابل أعيننا، فأدرتُ رأسي. بينما كنتُ أتمتم وأنظر إلى التمثال كما لو كنتُ أحدق به، سمعتُ ضحكة خافتة من جانبي.
“…نعم، يبدو كذلك. لطالما كنتِ ضعيفة أمام مظهري.”
لم يكن كلامه خاطئًا، فتدفقتْ الحرارة إلى وجهي على الفور.
بينما كنتُ أعض شفتيّ و أهـزُّ يدي كمروحة، انحنى كاليد فجأة بعمق. مع تقارب المسافة بشكلٍ مفاجئ، خفقَ قلبي بقوّة.
نظـرَ إليّ مباشرةً وهو يعبث بشعري المجعد ببطء، كما لو كان يراقبني.
لم يستطع شعري القصير حتى التدفق بين أصابعه. تحرك حاجباه بشكلٍ خفي، كما لو كان يشعر بالأسف.
نظرتُ إلى وجهه القريب جدًا و قد نسيتُ كيفية التنفس.
كانت يده التي تضع خصلة شعري خلف أذني بلطف دقيقةً بشكلٍ غريب.
ارتجفت كتفاي لا إراديًا عندما لمست أصابعه الحارة أذني.
كنتُ أعلم أنني كنتُ أبالغ في إدراك وجوده، لكن تصرفه المفاجئ هو الذي كانَ أغرب.
لم أستطع قراءة نواياه، فأغمضتُ عينيّ بقوة. كنتُ أشعر بالخجل الشديد، وكأنني سأموت. وجهي بالتّأكيد أصبحَ أحمرًا متوهجًا.
ضحكة خافتة
سمعتُ ضحكةً خفيفة أخرى، كأنها تتلاشى.
عندما فتحتُ عينيّ بحذر، كانَ كاليد يضحكُ دونَ أن يخفي استمتاعه.
“آه…”
خرجت تنهيدة غبية من فمي، لكن فمي المفتوح لم يُغلق بسهولة.
“ومع ذلك… أنتِ تدركينني كثيرًا.”
كانتْ المرة الأولى. منذ أن جئتُ إلى هذا العالم، ومنذ أن التقيتُ بكاليد مرّةّ أخرى، و طوالَ كل الوقت الذي قضيناه معًا—
لم يُظهر لي ابتسامةً كهذه أبدًا.
غطيتُ وجهي بسرعةٍ بكلتا يديّ. شعرتُ وكأنّ الدموع ستنهمر.
من السّعادة، من السّعادة الغامرة.
لم أتوقع أبدًا أن أرى ابتسامته اللطيفة، التي ظننتُ أنني لن أراها مجددًا، بهذه الطريقة.
“لا تعبث معي! هذا خطأ صاحب السّمو الوسيم…”
عندما التفتُ بعيدًا و تمتمتُ باللوم، سمعتُ ضحكة أخرى من الخلف.
عندما ألقيتُ نظرة خلسة من بين أصابعي، تقابلت عينانا مباشرة.
كأنّه كانَ يعلم أنني سأفعلُ ذلك.
“نحن زوجان في شهر العسل هنا، فلماذا تشعرين بالخجل؟ قلتُ إنه يمكنكِ النظر بثقة.”
“…لكن ذلك انتهى الآن. الجميع يعرف أنكَ وليّ العهد…”
“هل تشعرين بالأسف؟”
“مَنْ قال إنني أشعر بالأسف؟! لم أقل كلمة واحدة كهذه!”
“تعبيركِ يقول ذلك بالضبط.”
في الحقيقة… أشعرُ بالأسف.
متى سأكون زوجته مجددًا؟
على عكسِ ميرسين، انتهت الأحداث هنا بسرعة كبيرة، ولم أتمكن حتى من الاستمتاع بـ”دور الزّوجين”.
بالطبع، كانَ من الجيّدِ أن تُحَلَّ الأمور بسرعة.
لكن في هذا الموقفِ حيث كُشفت مشاعري تمامًا، لم أكنْ وقحة بما يكفي لأقول “أشعر بالأسف”.
عضضتُ شفتيّ و تمتمتُ، فتحدث كاليد بهدوء:
“لا داعي للشعور بالأسف. حتى لو لم يكن دورًا، نحن مخطوبان الآن.”
كانت خطوبة “مؤقتة” لتجنّبِ ليفيا ولجعلِ لقاءاتنا المتكررة تبدو طبيعية.
لكن بما أن الجميع يعرفُ الآن أننا على نفس السفينة، فإن هذه العلاقة ستختفي عند عودتنا إلى راجان.
لكن لماذا أعادَ كاليد ذكر هذه الخطوبة بنفسه؟
ما معنى ذلك؟
أصبحَ عقلي أكثر فوضوية وأنا أحاول تخمين نواياه التي لا يمكنني فهمها.
جلسَ كاليد على النافورة بهدوء و هو ينظر إليّ بينما كنتُ في حيرة.
شعرتُ وكأنني لعبة بين يديه من البداية إلى النهاية، فعبستُ دونَ وعي.
‘كان فقط… يراقب ردّة فعلي.’
شعرتُ بالضّيق، لكن في النهاية، أنا مَن رددتُ على كل كلمةٍ و ابتسامة منه.
ماذا أفعل؟ بما أنني أحببتُـهُ، لا يمكنني إلا أنْ أكون تحتَ تأثيره.
برزت شفتيّ و رفستُ الأرض بحزن بأطراف أصابعي.
تدحرجت قطعة حجر صغيرة بقوة من ركلتي وتوقفتْ أمام قدم كاليد.
نظرَ كاليد إليها بصمت، ثم فتح فمه ببطء:
“قررتُ إرسال سكان بيلانيف إلى ميرسين.”
“سمعتُ ذلك من روان. بما أن سموّكَ لم يتخلَ عن شعب هذا المكان، فإن المهاجرين سيشعرون بالأمان ويعيشون براحة.”
قد يشعرونَ بالقلق في البداية، لكن عندما يعرفون أن مَنْ يدير ميرسين هو وليّ العهد وليس لوردًا جديدًا، سيرتاحون.
حتى لو جاءَ لورد جديد في المستقبل، سيكون ذلك بعد مرور وقت كافٍ لهم لعدم القلق.
رفعَ كاليد نظره من الحجر على الأرض إليّ.
“ضحايا التجارب الذين فقدوا عقولهم… إلى أين يجب إرسالهم؟”
كانت كلماته الحذرةُ موجّهةً إليّ.
كان يطلب رأيي بناءً على الثقة، دونَ أي شكّ كما في السّابق. شعرتُ بقلبي يمتلئ.
لذلك، أردتُ تقديم إجابةٍ جديرة بهذه الثقة.
فكرتُ للحظة، ثم فتحتُ فمي ببطء:
“ماذا عن إقليم أرفين؟”
نظرَ كاليد إليّ كما لو كان يحاول استكشاف شيء وسأل:
“هل تقصدين إقليم عائلة دوقيّة أرفين؟”
“بالضبط… أعني تسليمهم إلى الدّوق أرفين نفسه.”
كانت عائلة دوقيّة أرفين، عائلة ليفيا، تملك عدة أقاليم.
خوفًا من سوءِ الفهم، أضفتُ بسرعة، فأومأ كاليد بهدوء مشيرًا إليّ لأكمل:
“حاليًا، يقيم الدّوق أرفين و زوجته في إقليم بعيد نسبيًا عن راجان. وهو ليسَ بعيدًا جدًّا عن هنا.”
“بالتأكيد، الدّوق أرفين ليسَ.من النوع الذي سيطرد المساكين. بل على العكس، سيتقبلهم بكلّ سرور.”
وعلاوةً على ذلك، بما أنهم عانوا بسببِ خطايا ليفيا، سيعتني بهم بجدية أكبر كتكفيرٍ عن ذنبها.
“لكن، قد يكونُ ضحايا التجارب شهودًا يثبتون خطايا ليفيا في المستقبل. هل تعتقدين أنها، بما أن والديها متورطان، ستتركُ هذا الخطر؟”
بعد أن رأى كيفَ تعاملتْ ليفيا مع شقيقها الأصغر شوريل، بدا أن كاليد يعتقد أن إقليم أرفين ليس آمنًا.
لكنني كنتُ أعلم أن إقليم أرفين هو الأكثر أمانًا.
“لا. ليفيا أرفين لنْ تستطيع أبدًا المساس بوالديها.”
“…هل لديكِ دليل؟”
“بسببِ القوة المقدسة.”
كنتُ ليفيا أرفين. لفترةٍ قصيرة، لكنني قبلتُ ذكرياتها وقوتها المقدسة، و أصبحتُ سيدة القوة المقدسة لفترةٍ وجيزة.
على الرّغمِ من أنني لم أتمكن من التحكم بالقوة المقدسة بحريّةٍ مثلها، إلا أن هذه الحقيقة كانت واضحة.
لذلك، أعرفُ أكثرَ من أي شخص كيف تعمل القوة المقدسة، التي تُسمى “بركة الحاكم”.
ربما أكون، باستثناء ليفيا نفسها، الوحيدة التي تعرف هذا.
“القوة المقدسة؟”
“القوة المقدسة لليفيا أرفين هي بركة الحاكم بيسيا. منحتها قدرات مع نسب نبيل، طفلة الحاكم بحق.”
“…هل تقصدين…”
“نعم، صحيح. النّسب النبيل، أرفين. إذا نظرتَ إلى تاريخ العائلة، تنتقل القوة المقدسة عبر الأجيال. دليل على أن الحاكم أحبّ سلالة أرفين دائمًا.”
“…يبدو أنني أفهم.”
كونه من العائلة الإمبراطورية، يعرف كاليد بالتأكيد المزيد عن نسب أرفين. لكنه لم يكن يعلم أنها لا تستطيع إيذاء عائلتها التي تجري فيها نفس الدم.
حتى أنا شعرتُ بذلك كإحساسٍ غريب فقط عندما كنتُ في جسد ليفيا.
لكن بعد عودة ليفيا، وبرؤية والديها و شوريل على قيدِ الحياة، أصبحتُ متأكدة.
“الحاكم يحبّ أرفين. لذا، القوة المقدسة، قوة الحاكم، لا يمكن أن تؤذي مَـنْ يجري فيهم دم أرفين.”
أومأ كاليد كما لو أن شيئًا ما خطرَ له من كلامي.
“صحيح، مع شخصيتها، كان يمكن أن تمس الدوق و زوجته و.شوريل بسهولة. لكنها لم تفعل… يبدو ذلك معقولًا.”
بعد أن اكتسب الثقة، بدا كاليد يفكّرُ بجدية بعبوس.
التعليقات لهذا الفصل " 72"