* * *
كلانغ—!
تردّدَ صوت تحطّم الزجاج مرارًا في الغرفة الواسعة.
ركعت رئيسة الخادمات، التي كانتْ تتحرّك بقلق، نيابةً عن الطفلة المذعورة المتجمدة في مكانها، وشدّتْ فَكّها بقوّة.
“سامحينا، سيّدتي. هذه الفتاة جاءت قبل أيّامٍ قليلة ولم تكمل تدريبها بعد. سأعلّمها جيدًا. أرجوكِ… سامحيها هذه المرّة فقط.”
ضربتْ جبهتها على الأرضُ المتناثرة بشظايا الزجاج مرّاتٍ عديدة وهي تعتذر.
كانَ اعتذارًا لا يبالي بتمزق الركبتين والكفين و الجبهة.
كانَ مشهدًا قد يثير الشّفقة فيمن يراه، لكن المرأة ذات الشّعر الفضيّ لم ترمش حتّى.
تشوّهَ حاجباها المرتبان، و انحنت زاوية عينيها الحادّتين بشكلٍ أكثر شراسة.
“ولمَ يجبُ أنْ أفعل ذلك؟”
“أرجوكِ… ارحمينا…”
“ما المنفعة التي سأجنيها من إظهارِ الرّحمة؟”
“…..”
“تلكَ الفتاة ارتكبت خطئًا بحقّي. للأسف، سيدتكم ليستْ من النّوع الذي يُظهر الرّحمة دونَ مقابل.”
بهذه الكلمات، أصبحَ وجه رئيسة الخادمات أكثر شحوبًا.
عدم التّردّد في قول مثل هذا المكان، هذه كانت سيدتها بالضبط.
الصّوت الذي كانَ في يوم من الأيّام لطيفًا و ودودًا أصبحَ الآن ينطق بكلماتٍ باردة و قاسية فقط.
“لكن، لا يوجد سبب لعدم إظهار الرّحمة أيضًا. ما رأيك؟”
“إذا سامحتِ هذه الفتاة… سأفعل أيّ شيء.”
“هل تقولين أنكِ ستتحمّلين العقاب بدلاً عن تلكغ الفتاة؟”
“…نعم.”
“ههه. ممل.”
ضحكتْ المرأة بسخرية، كما لو أنَّ هذا الموقف مجرّد لعبة بالنّسبة لها.
“منظركما مقزز، لذا اخرجا. أنتِ، اذهبي إلى المستودع الشّرقي بنفسكِ ولا تخرجي لمدّة أسبوع. بما أنكِ قلتِ إنكِ ستتحمّلين العقاب بدلاً عنها، يجب أن تتحملي هذا على الأقل.”
“…نعم.”
كما لو أنّها تلقت صدمةً أكبر من كلمات المرأة، كانت الخادمة الصّغيرة تذرف الدموع بصمت، و هي تحرّكُ شفتيها دون أن تصدر صوتًا.
لكن رئيسة الخادمات اعتبرت نفسها محظوظة لأن الأمر توقّفَ عند هذا الحدّ. كانت جبهتها و ركبتيها و كفيها تنبض بالألم—لكنها على الأقلّ أنقذت حياتها.
“الخطأ ارتكبته تلكَ الفتاة، لكن بما أن رئيسة الخادمات ستتحمّل العقاب بدلاً عنك، يجب أن تَرُدّي الجميل، أليس كذلك؟ سأسمح لكِ بإحضار كوب ماء مرّةً واحدة يوميًا.”
“شكرًا… شكرًا جزيلًا.”
واصلت الخادمة الصّغيرة، التي كانت تذرف الدموع، الانحناء معبّرةً عن امتنانها.
بإشارة من يد المرأة، نهضت رئيسة الخادمات و أخذتْ الخادمة الصغيرة وخرجتا من الغرفة.
بعد إغلاق الباب بإحكام، و بعد أن ابتعدتا كثيرًا، أطلقت رئيسة الخادمات يد الخادمة الصّغيرة بحذر.
“كيف حدثَ هذا بحق السماء؟”
“آسفة… آسفة. كنتُ متوتّرة جدًا…”
“هاه… مَن أرسلكِ إلى هناك؟ قلتُ إنني سأتولى كل شيء يتعلق بخدمة الآنسة.”
“قال الشّخص المسؤول عن المطبخ إنه يجب تقديم الحلويّات… ظننتُ أنّني قادرة على فعلِ هذا على الأقل…”
أمسكت رئيسة الخادمات جبهتها.
الخادمة الصّغيرة، التي جاءتْ إلى القصر منذ أسبوع فقط، لم تكن تعرف بعد ما هو قصر أرفين.
لو كان قصرًا آخر، أو سيدًا آخر.
لما فكّرَ أحد في قتل شخصٍ بسبب انسكاب مشروب.
إذا فكر أحدهم “هل هذا كل شيء؟”، فهو بالتأكيد لا يعرف قصر أرفين بعد.
هذه الفتاة كذلك.
كانَ من الشّائع أن تصبح فتاة من عائلة بورجوازية ثريّة خادمة لعائلة نبيلة رفيعة. وبما أن الأعمال الشاقّة كانت تُترك للخادمات من الطبقات الدنيا، لم تكن المهمة مرهقة.
بل على العكس، كانت وظيفة الخادمة، التي تمنح شعورًا بالفخر بالعمل لصالح عائلة نبيلة وتدفع أجورًا عالية، وظيفةً مرغوبة جدًا.
لكن إذا كانت العائلة النبيلة هي “أرفين”، فالأمر مختلفٌ تمامًا.
بين الخادمات، كانت وظيفة خادمة عائلة أرفين تُعتبرُ نوعًا من الوظائف القصوى.
“هل سمعتِ؟ عائلة أرفين تبحث عن خادماتٍ جديداتٍ هذه المرّة أيضًا.”
“بالفعل؟ ألم يوظفوا خمس خادمات قبل شهر؟”
“ثلاثة منهن هربن، علَى ما يبدو.”
“يا إلهي… يقال ان أرفين تدفع ضعف أجور العائلات الأخرى. فلماذا؟”
“لا أعرف. سمعت أن طِباع الآنسة ليست عاديّة…”
“هش! لا تقولي ذلك، ستسبّبين المشاكل! إنّه شرف بحد ذاته أن نخدم شخصيّةً نبيلة، فما الفرق إذا كانتْ حساسة؟”
كانت رئيسة الخادمات تشعر بالاختناق من الشائعات التي كانت تسمعها في كلِّ متجرٍ في راجان.
من بين الخادمات الخمس اللواتي تمَّ توظيفهن مؤخرًا، كانت ثلاثةٌ منهن في حالة لا تختلف عن الموت. لم يستعدنَ وعيهن بسبب العقوبات القاسية و التعسف من السّيدة، كأنهنّ فقدنَ حياتهن.
“رئيسة الخادمات، أنا آسفة حقًا… لقد تعرضتِ للعقاب بسببي…”
استفاقت رئيسة الخادمات من أفكارها على صوت الخادمة الصّغيرة المليء بالقلق.
لم يكن لديها الكثير لتقوله للطّفلة التي تنظر إليها بعيونٍ مليئةٍ بالقلق.
“هل سبقَ أن ذهبتِ إلى المستودع الشرقي؟”
“لا… سمعتُ أنّه يحتوي على مستودع خاص بالآنسة، و يُمنع الاقتراب منه.”
عندَ دخول القصر، يتم تعليم الممنوعات أولاً.
من بينِ هذه القواعد، كانت هناك بعضها يُعاقب عليها بالموت. واحدة منها كانت حظر الدّخول إلى الحديقة الشًرقية.
كانتْ منطقةً محظورة تمامًا لا يجوز لأحدٍ الاقتراب منها دون إذن السيدة. و في أعمقِ زاوية من تلكَ الحديقة الشرقية، كانَ المستودع المذكور.
“عندما تحملين الماء إلى المستودع، يجب أن ترتدي سدادات أذن قوية.”
“سدادات أذن…؟”
“نعم. يجب أن تكونَ قويّة بما يكفي لمنع أي صوت. هل يمكنكِ فعل ذلك؟”
“لكن… لماذا؟”
فتحت الخادمة الصغيرة عينيها على وسعهما، مرتجفة من الخوف.
لم تقلْ رئيسة الخادمات أكثرَ من ذلك. إذا لم ترتدِ سدادات الأذن، فقد لا تتمكن من البقاء على قيد الحياة في هذا القصر بعد الآن.
كانَ هذا كلّ ما يمكنها قوله.
“ابقي في المطبخ من الآن فصاعدًا. سأتولى خدمة الآنسة، و خلال وجودي في المستودع، سيتولى شخصٌ آخر مكاني.”
“…حسنًا.”
كانتْ الخادمة لا تزال ترتجف من الخوف، و هي تكمش كتفيها.
أخرجتْ رئيسة الخادمات منديلًا بهدوء، و مسحت الدم من جبهتها، و تنهّدت طويلًا.
في يوم من الأيام، كانَ قصر أرفين المكان الذي تطمحُ كلّ فتيات راجان للعمل فيه.
كانت السيدة الشابة لطيفةً و ودودة، تمدّ يدها بحرارةٍ للجميع.
لكن ذلكَ الآن يبدو كماضٍ بعيد. فقدتْ الآنسة وعيها فجأةً قبل خمس سنوات، و عندما استيقظت، تغيرت تمامًا.
كانت رئيسة الخادمات تخدم ليفيا أرفين منذُ طفولتها.
في سنِّ الخامسة عشرة، تعرضت الآنسة لحادث عربة كبير، ففقدت ذاكرتها. حتى بلغت العشرين، عاشت كشخصٍ مختلف تمامًا.
كأنها تندم على ماضٍ لا تتذكره، كانت تتوب و تعبّر عن ندمها بصدق.
تصالحت مع الدّوق و الدوقة اللذين قطعت علاقتها بهما، و بدأت في التّواصلِ مع أخيها الذي كانت تعامله كعدوّ . و حتّى مع خطيبها ولي العهد، وصلت أخيرًا إلى حفل زفاف.
لكن بعد حفل الزفاف الذي لم يكتمل، عندما فتحت ليفيا أرفين عينيها مجددًا، عادت إلى ما كانت عليه—صورتها الأصليّة الباردة والقاسية.
“حقًا، كأن روح شخصٍ آخر زارتها لفترة.”
تسبّبَ تغيرها المفاجئ في ارتباكٍ كبيرٍ للجميع.
أعادت رئيسة الخادمات الخادمة الصغيرة إلى مكان عملها، ثم اتّجهت ببطء نحوَ غرفة الإسعافات.
على الرّغم من أنها مسحت الدّم من الجروح بشكلٍ تقريبي، كانَ عليها الذهاب إلى المستودع الشرقي قريبًا. بما أن الأمر لم يتضمن حظر العلاج، فلا بأس بزيارة غرفة الإسعافات.
“مالكوم، هل لديكَ وقت؟”
مالكوم، الذي يرتدي رداءً أبيض، هو طبيب عائلة أرفين المعين. لم تكن سيّدة القوة المقدسة بحاجة إلى طبيب، لكن أيامًا مثل اليوم كانت شائعة، فكان وجود طبيب في القصر ضروريًا.
كانَ مالكوم، مثلها، طبيبًا مقيدًا بعائلة أرفين. لم يُسمح له بطلبِ المساعدة أو الهروب.
“يا إلهي… هذه الجروح مرّةً أخرى…”
عبس قليلاً، كما لو أنّه يعرفُ كلّ شيء دون الحاجة إلى السؤال.
جلست رئيسة الخادمات بهدوء، ساحبة كرسيًا بجانبه.
“خادمة جاءت قبلَ أيّام ارتكبت خطأ.”
“ليس عليكِ تحمّل كل شيء.”
“إنها لا تزال طفلة. لحسنِ الحظ، كانت العقوبة أسبوعًا في المستودع الشرقي فقط، ولم يحدث شيء أكبر.”
“…هذه هي أسوأ عقوبة.”
“أنا… معتادة عليها.”
كانتْ رئيسة الخادمات تعلمُ أنّها الوحيدة التي تدخل و تخرج من الحديقةِ الشرقيّة المحظورة.
بالنسبة لها، كانت الحديقة الشرقية أو المستودع واحدًا.
“في المرة الأخيرة، حاولتِ مساعدة الخادمات الصغيرات و انتهى بكِ الأمر محبوسة هناكَ لمدّةِ أسبوعين. لا تزالين لا تنامين جيدًا بسببِ ذلك…”
“على أيّ حال، اللّيالي التي أنام فيها لا تبدو كأنني نمت. بالنّسبة لي، غرفة النوم أو المستودع الشرقي… لا فرق كبير بينهما.”
تنهّدَ مالكوم باختصار و أطرقَ رأسه على كلمات رئيسة الخادمات.
“سأزيل شظايا الزجاج. أرجوكِ، اعتني بنفسكِ قليلاً. إذا لم تكوني أنتِ… كيف ستستعيد الآنسة ذكريات الخمس سنوات المفقودة؟”
“…حسنًا.”
تذكّرتْ رئيسة الخادمات الآنسة التي كانت تمد يدها إليها و تبتسم بلطف.
كانَ ذلكَ قبل خمس سنوات بالفعل.
خدمتها لمدّة خمس عشرة سنة، ثم قضت خمس سنوات أخرى، و مرّت خمس سنواتٍ أخرى الآن.
بما أنّ الخمس عشرة سنة الأولى تشبه الخمس سنوات الحالية، فالآنسة الحالية هي بالتأكيد السيدة الحقيقية.
لكن لماذا تظل الآنسة في تلكَ الفترة، عندما فقدت كل ذكرياتها، تطاردني؟
“ما المشكلة؟ إنها لا تتذكّرّ ذكريات الخمس سنوات فقط، لكنها تملك كلّ ذكريات طفولتها. الآنسة الحالية… بالتّأكيد هي الحقيقية.”
“حقيقيّة أو مزيّفة… في النهاية، كلاهما الآنسة.”
إنها تعلم.
سواء فقدت ذكرياتها أو استعادتها، فإن هذا لا يغيّر حقيقة أنها ليفيا أرفين.
ومعَ ذلك، تظل تطاردها.
الآنسة في العشرين من عمرها، مرتدية فستانًا أنيقًا و هي تبتسم بخجل في يوم ربيعي.
كانت تشتاق بشدة إلى الآنسة التي كانت في ذلك الوقت.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"