* * *
“جدي!”
“إذا أحدثتِ ضجيجًا كما في السّابق، سيموت هذا العجوز هنا. هل فهمتِ؟”
“…آه…!”
كتمت الفتاة فمها بكلتا يديها و أومأت بهدوء.
كان صمودها دونَ إصدار صوت، رغم ألمِ شعرها المشدود، كمن أعدّ نفسه لكلّ شيء.
‘قال إنهم يأتون في اليوم الأول من كل شهر ليختاروا. يقررون مَن سيأخذون مسبقًا. شقيق روان، وهذه الفتاة… كانوا يعرفون ذلك.’
لا بد أنهم عاشوا يومًا بعد يوم في قلق من أن يُؤخذوا في أيّ لحظة.
كالمُدان بالإعدام الذي يُعلم بموعد تنفيذ حكمه ويُصاب بالجنون من الخوف.
“يا لسوء الحظ. أن تموت اليوم بالذات. لهذا أكره العمل مرتين.”
أمسكَ الرجل بشعر الفتاة بعنف، ثم صفع خدها المبلل بالدموع بقوة، و رماها على الأرض.
“قلت لكِ لا تبكي! لا أريد العودة إلى هذا المكان القذر مرّتين!”
“آسفة… آسفة.”
نظرَ إليها بنظرات فاحصة، وهو يحرّكُ شفتيه بنزق.
“إذًا، لا أحد سيشتكي إذا استمتعتُ قليلاً هنا، أليس كذلك؟”
ابتسامته الملتوية و نظراته الماكرة كشفت عن نواياه القذرة بوضوحٍ دونَ الحاجة إلى كلام.
“سأتبعكَ بهدوء! آسفة، آسفة!”
“بالطبع يجب أن تتبعيني بهدوء. لكن قبل ذلك، يمكنني الاستمتاع قليلاً، أليس كذلك؟”
عضضتُ شفتيّ و أنا أراه يقترب من الفتاة المنهارة بكلماته البذيئة.
كنتُ أتظاهر بالهدوء ظاهريًا، لكن داخلي كان يغلي.
إذا تجاهلتُ هذا أيضًا، فلماذا أتيتُ إلى هنا؟
هل لأكونَ مجرّد متفرجة تراقب آلام الآخرين دون أن تُـصاب بأذى؟
مستحيل. هذه ليست مساعدة.
لم أعطِ نفسي وقتًا للتردد، فتحتُ حقيبتي عند خصري و أخرجتُ الإبرة التي استخدمتها مع سيرو.
ركبتُ الإبرة على قوس صغير معدّل ليُلبس على الإصبع، فأصبحَ سلاحًا متينًا في يدي.
كان هذا حلاً ابتكرته بعد أن أدركتُ خطر المسافة أثناء قتالي مع سيرو.
‘من فضلك… يجب أن ينتهي من ضربة واحدة.’
لحسنِ الحظ، لم تكن المسافة بعيدة. الضباب كان يعيق قليلاً، لكنه لم يكن ليمنعني من الإصابة.
شويك
مرّ طرف الإبرة بكتف الرجل، لكنه ارتد بصوت طقطقة بشكلٍ غير متوقع.
‘…درع خفيف؟’
عندما ركزتُ، لاحظتُ درعًا جلديًا رقيقًا تحت ملابسه.
لا يبدو تاجرَ عبيد عادي. نقرتُ بلساني و فككتُ القوس وأعدتُه إلى الحقيبة.
لم يكن هناك وقتٌ لتحديد الخطوة التالية.
إذا لم أستطع استخدام سلاح الآن، فلا خيار آخر.
كان الرّجل يقترب من الفتاة المذعورة التي تزحف بعيدًا، مستمتعًا بها كما لو كانت فريسة.
لم يكن هناكَ وقتٌ لانتظار مساعدة كاليد. لكن إذا ظللتُ أراقبُ بلا حولٍ ولا قوة، سأترك للفتاة كابوسًا لن يُمحى مدى الحياة.
هل أنا حقًا موافقة على هذا؟ هل يجبُ أن أظـلَّ أنتظر مساعدة شخص ما؟
‘اللعنة!’
لا، لا أريد أن أتركَ المزيد من الندم.
في النهاية، كان هناكَ حلٌّ واحد فقط. كما فعلتُ مع سيرو—يجب أن أستخدم نفسي كطعم مرة أخرى.
“توقف!”
ما إن عزمتُ أمري، اندفعتُ في لحظة.
لم أهتم بالطين المتطاير و ألقيتُ بنفسي نحو الرجل بكل قوتي.
استغللتُ لحظة ارتباكه و أمسكتُ بالفتاة.
كان جسدها البارد يرتجف كالدمية، وذراعها التي رُكلت فقدت الإحساس.
لو تحركتُ أسرعَ قليلاً. كان الندم يعتصر قلبي كالألم.
“من هذه الحقيرة؟!”
صرخ َ الرّجل بنبرة شرسة وهو يحدق بي.
ربما لأن ملابسي لا تتناسب مع قرية الخيام، فقد صرّ على أسنانه حتى اهتزت لحيته.
“ما هذا؟ هل خرجتِ لتلعبي دور البطلة؟ إذا كنتِ مسافرة، اخرجي بهدوء!”
“سأردّ كلامكَ كما هو. أوقف لعبتك الشريرة الرخيصة وارحل. هذه هي فرصتكَ الوحيدة للنجاة.”
“ها، مجنونة حقًا. لعبة شريرة؟ فتاة تلعب بالدمى تجرؤ على…”
كان غضبه يفور، وكأنه سيندفع ليبتلعني.
“ها، يوم سيء حقًا. ليسَ فقط أنني أعمل مرتين، بل تتدخل مثل هذه الأشياء. حسنًا، سأستمتع كثيرًا اليوم. هكذا يتوازن الحساب، أليس كذلك؟”
لم يبدُ الرجل متوجسًا. بدا أنه بحثَ حوله عندما ظهرتُ، و عندما أدرك أن لا أحدا آخر معي، عاد إلى غروره.
كانَ جسدي الصغير النحيف كافيًا لجعله يفقد حذره.
كالعادة، أفضل طعم هو الشخص الضّعيف غير المتوقع.
“مثل هؤلاء الأشخاص يحتاجون إلى الضرب ليستعيدوا رشدهم!”
مثل سيرو، ركلَ الرجل دون أي حذر.
لكي أحصل على مسافةٍ للطعن بالإبرة، كان عليّ تحمّلُ ضربةٍ أو اثنتين.
أغمضتُ عينيّ بقوة.
بام
“آه!”
في تلكَ اللحظة، شعرتُ بشيء يخرج من داخلي.
كانَ يفترض أن أشعر بالصدمة، لكنني لم أشعر بشيء. بدلاً من ذلك، كانَ الرجل هو من صرخ.
‘…ماذا؟’
شعور غريب، لا ساخن و لا بارد.
كأن شيئًا أُفرغ، وفي الوقت نفسه، شيء آخر يتسرب و يملأني.
فتحتُ عينيّ بحذر، متفاجئة من هذا الشّعور الغريب.
كان الرجل قد سقط، يتأوه من الألم وهو يفقد توازنه.
لم أفهم الوضع تمامًا، لكن الواقع أمامي كان واضحًا.
هذه هي الفرصة.
ركزتُ بحثًا عن فجوة في جلده المكشوف، وأمسكتُ إبرة احتياطية من الحقيبة بقوة.
“اللعنة! هل أنتِ ساحرة؟!”
نهض الرجل، وهو يصرُّ على أسنانه، و وجهه محمر، و ركلَ نحوي مرة أخرى.
تونغ
ارتدت رجله مجددًا كما لو أنها اصطدمت بحاجز في الهواء.
لم يسقط، بل تراجعَ مذهولًا.
كنتُ مستعدة لتحمل اقترابه لأطعنه بالإبرة، لكن قوة غير مرئية كانت تحمينا قبل ذلك.
“اللعنة! ما هذا بحقِّ الجحيم؟!”
عانقتُ الفتاة بقوة أكبر بشكلٍ لا إرادي. إذا استطعتُ حماية هذه الفتاة، فلا يهم الباقي.
كان وجه الرجل مشوهًا تمامًا، واختفت العقلانية من عينيه.
أخرجَ سيفًا من خصره.
“دعسنا نرى إن كنتِ تستطيعين صـدَّ هذا أيضًا!”
مدفوعًا بالغضب، رفعَ الرجل سيفه بوجهٍ محمر.
ومع وميض النصل، اندفعَ نحوي مباشرة.
…صحيح. كان يجبُ أن أتوقعَ هذا.
كانت الفتاة متجمّدة من الرعب، وعانقتها بقوّةٍ أكبر بشكلٍ غريزيّ.
هل، مثل السّابق، ستصد هذه القوة الهجوم؟
لا أعرف. لا أعرف، لكن لا يمكنني الاعتماد على معجزة. شددتُ جسدي، و أنا أبحث عن فجوة لأطعن بالإبرة.
شويك
قطع صوت الريح النصل الهواء.
اندفعَ السّيف نحوي، لكنه توقفَّ في الهواء دونَ أن يصل.
في غمضة عين، ظهر خطُّ دمٍ رفيع على رقبته.
دونَ أن يدرك ما حدث، انهار الرجل.
تدفق الدم كالنافورة، و تدحرج رأسه المقطوع على طين قرية الخيام.
نظرتُ مذهولة إلى هذا المشهد المروع، ثم أفقتُ على صوت مألوف.
“ألم أقل لكِ أن تبقي هناك؟”
لم يكن هناكَ غضب أو توبيخ في كلامه.
فقط إرهاق عميقٌ وانزعاج، كما لو أنه لا يفهم.
لم يعانقني كما في الحلم، لكن الموقف والطريقة… كل شيء كان متشابهًا.
في النّهاية، مَـنْ أنقذني—مرّة أخرى—كان كاليد.
جعلني هذا الواقع أشعر بألمٍ خفيف في قلبي.
“أنتِ حقًا لا تعرفين معنى الوعد. دائمًا… تفاجئينني.”
نفضَ كاليد الدّم عن نصله، و تحدث بوجه خالٍ من التعبير.
“كنتُ قادرة على مواجهته. جيرمان يتبعه، وسنكتشف وجهتهم والعقل المدبر قريبًا. هذا الرجل لم يعد ضروريًا، ولم يكن هناك سبب للتّحمل كما في السابق.”
نظر إليّ كاليد بصمت.
لم يكن هناكَ صوتٌ في نظرته، لكنها كانت كأنها تسأل: “هل هذا كان أفضل خيار؟”
كانَ الأمر خطيرًا، لكنني لم أندم.
لأن ارتجاف الفتاة في حضني بدأ يهدأ تدريجيًا.
بعد صمتٍ طويل، تنهّد كاليد ببطء وقال:
“إذًا، وضعتِ نفسكِ في خطرٍ مرة أخرى؟ إذا لم تكوني تريدين الموت حقًا، توقّفي عندَ هذا الحد.”
في تلكَ اللحظة، شعرتُ وكأنني في حلم مرّةً أخرى.
لأن كلامهُ هذه المرّة بدا وكأنّـهُ نابعٌ من قلقٍ حقيقيّ عليّ.
التعليقات لهذا الفصل " 66"