“توقفي عن استخدام القوة المقدسة، ليفيا!”
“لكن… آه! لا يزال هناكَ مَن لم يتمكنوا من الهروب…”
“إذا استمررتِ هكذا، ستموتين!”
تردّدَ صراخ كاليد الغاضبُ في أذني. كنتُ أتقيأ دمًا لكنني لم أتوقّف عن استخدامِ القوة المقدسة.
لم أستطع رؤية كاليد وهو يهزني متوسلاً إياي أن أتوقف.
في تلكَ اللّحظة، لم أستطع التفكير في شيءٍ آخر. كان شعوري بأنني فشلتُ في إنقاذ المدينة بسببِ تأخر التنبؤ يسيطر على ذهني.
كيف توقفتُ عن استخدام القوة؟
تمايلت رؤيتي.
عندما أصبحتْ رؤيتي واضحة مجددًا، كان أمامي ماء لا نهائي.
آه، لقد كانت الكارثة التي تنبأتُ بها.
اندفع الماء. أم أن كلمة “انهار” أنسب؟
في تلكَ اللّحظة التي انهار فيها مبنى بأكمله، ابتلع النهر المدينة كما لو كان بحرًا.
تمايلت أعمدة الإنارة، واختلطت أصوات صهيل الخيول والصراخ وأصوات الانهيار، ممزقة السماء.
المدينة، التي اختفت منها المنطقة المقدسة، ابتلعتها الكارثة في لحظة.
طفل متشبث بالسّقف لم يتمكن من الإجلاء، امرأة تُجرَف بالتيار.
لو استطعتُ الصمود أكثر قليلاً، لو استطعتُ الحفاظ على المنطقة المقدسة لفترة أطول.
شعرتُ أنني سأُجـنّ.
كلّ شيء كان خطأي. لو تنبأتُ مبكرًا، لو كنتُ دقيقة في تحديد وقت أو مكان الكارثة، لو كنتُ ليفيا أرفين الحقيقيّة…
مزّقت المشاعر المتدفّقة صدري.
عندما نفدت القوّة المقدسة التي سكبتها بالكامل، أمسكتني ذراعٌ قوية وأنا على وشكِ الانهيار.
احتضنني كاليد في المطر الغزير دونَ أن يتزعزع.
“إذا لم ترغبي في أن تُجرَفي أيضًا، توقفي هنا… هل تعتقدين أنني سأسمحُ بفقدانكِ؟”
“لكن… لو كنتُ أسرع قليلاً…”
“أنتِ لستِ حاكمًا، ليفيا. حتى لو لم تكوني مثالية، لقد صنعتِ معجزةً كافية. أكثر من هذا… مجرّد طمع.”
أغلقتُ عينيّ بقوة.
في حضن كاليد، لم أستطع سوى ذرفِ المزيدِ من الدّموع.
كانت أصوات الصّراخ لا تزال تتردّدُ في أذني.
كاللّوم من أولئك الذين لم أنقذهم، ثقيلة و مؤلمة.
أعمى المطر الغزير رؤيتي.
لم يكن أمام الناس الذين تم إجلاؤهم سوى النظر بحزنٍ إلى المدينة المغمورة.
كل ما استطعتُ فعله كان البقاء إلى جانبهم ليعيشوا مجددًا.
مددتُ يدي إلى مَنْ فقدوا عائلاتهم، أطفالهم، منازلهم.
“شكرًا، بفضلكِ يا سيدة ليفيا، نجونا.”
“لقد أنقذتنا بيسيا. شكرًا جزيلًا.”
لم يعلموت. كانوا يشكرونني لأنهم لا يعرفون.
لو أراد الحاكم حقًا إنقاذهم، لماذا أعطاني التنبؤ في وقتٍ متأخّر؟
كان السّبب واحدًا. لأنني لستُ ليفيا الحقيقيّة.
كنتُ مزيفة، لذا كانت قوتي المقدسة دائمًا ناقصة.
كانت المنطقة المقدسة التي أنشأتها كسيّدة القوة المقدسة قصيرة الأمد، ولم أستطع تحمل كمية الجرحى الهائلة.
على الرّغمِ من أنني لم أطمعْ في هذا المنصب، شعرتُ وكأنني سرقتُ مكان شخصٍ آخر.
“لماذا؟ لماذا لم تحمينا جميعًا؟”
“كان يجبُ أن تخبرينا مبكرًا. لو كنتِ سيدة القوة المقدسة، لفعلتِ ذلك!”
تحولت كلمات الشّكر إلى لعنات، وكانت أعينهم مليئة بدموعٍ من الدّم.
اتُهمتُ بأنني مزيّـفـة.
لا… لستُ كذلك!
أردتُ حقًا إنقاذَ الجميع.
صرختُ بيأس، لكن كل ما عاد إليّ كان اللوم.
إنه حلم… مجرّد حلم. لم أسمعْ هذه الكلمات في الواقع، أليس كذلك؟
“هل كنتِ تخدعينني طوالَ هذا الوقت؟ أنتِ مجرد مزيفة، و تجرأتِ على…”
حتى كاليد، الذي كان يمدُّ يده بلطف ويقف إلى جانبي، نظر إليّ كما لو كان يرى شيئًا مروعًا.
صدّ يدي البائسة ببرود و استدارَ دونَ تردّد.
مهما مددتُ يدي، لم أصل إليه.
أردتُ رؤيته.
كاليد الذي يحبني، ابتسامته الرقيقة.
“…آه!”
استيقظتُ حينها.
نقوش السقف الغريبة، الملابس الداخلية المبللة بالعرق البارد، و أصوات الصراخ التي لا تزال تتردّدُ في أذني.
“إذا كنتِ قد استيقظتِ، فاستعدي.”
صوتٌ واضح اخترقَ تلكَ الأصوات و وصل إلى أذني.
أدرتُ رأسي باتّجاه الصوت.
كانَ كاليد مختلفًا عن الحلم.
لم يستدر، ولم تكنْ هناكَ نظرةٌ باردة أو كلمات قاسية.
كان يقفُ عند النافذة، ينظر بلا مبالاة إلى ضبابِ الفجرِ المتصاعد.
“لقد حانَ الوقت المتفّق عليه.”
الوقت المحدد لكشفِ حقيقة القصص الخرافية المنتشرة في بيلانيف. كانَ الضباب يغطي المدينة في شفق الفجر.
تلكَ الكلمة القصيرة أبعدت الكابوس البشع تدريجيًا إلى ما وراءَ الواقع.
غيرتُ ملابسي إلى ملابسَ مريحة للحركة وخرجتُ من النزل بهدوء مع كاليد.
بينما كنتُ أتبعه بحذر، تذكرتُ كلماته في الحلم.
‘أن أحلمَ بهذا الحلم، يا لغرابة هذا الأمر.’
في الأصل، كاليد لا يلومني. بالنّسبةِ له، أنا مجرّدُ “إيرديا” الغريبة التي لا تستحق حتى اللّـزم.
ومع ذلك، شعرتُ و كأنني رأيتُ في الحلم ردَّ فعله إذا أخبرته بالحقيقة، مما جعلَ فمي مرًا.
“لقد أتيتما.”
“جيرمان، كيفَ الوضع؟”
“قبل قليل، رأيتُ شخصًا مشبوهًا يتّجهُ نحوَ الجنوب الغربي.”
كان النزل الذي أقمنا فيه يقع في الجزء الشرقي من مرتفعات بيلانيف. في الشّمال، حيث كانت الأضرار أقل، تقع قصور النبلاء الكبيرة.
كان الجنوب متاحًا للمناطق المتضررة، والغرب هو المكان الذي استولى فيه النبلاء على أموال الدعم و باعوا الأراضي للاجئين.
“إنه يتداخل مع المنطقة التي يعيشُ فيها المتضررون.”
“نعم. يجب أن نذهب و نرى بأنفسنا لنعرفَ بالتّأكيد.”
لم نستطع الحكم على ما إذا كانت تخميناتنا هي الحقيقة دونَ رؤيتها بأعيننا.
أومأَ كاليد لكلامِ جيرمان، وبدأنا نتحرّك بهدوء.
لم أكن مدرّبة على فنون التخفي مثل كاليد أو جيرمان، فكنتُ خرقاء، لكن الضباب الذي غطى بيلانيف جعل تتبعنا يبدو مقنعًا إلى حد ما.
بعد تتبع هادئ، وصلنا إلى مكانٍ يصعب تسميته قرية.
كان الطين قد جفّ في المكان الذي انحسر عنه الماء، وبدلاً من المنازل، كانت هناك مساكن مؤقتة مصنوعة من قطع قماش ممزقة تتأرجح في الريح.
كانت هناك بقع على الخيام الرثة، مدعومة بأغصان جافة، لا يمكن تمييزها إن كانت آثار مياه الأمطار أم دماء.
“توقفوا.”
بإشارةٍ من جيرمان، اختبأنا على مسافةٍ قريبةٍ و راقبنا الوضع.
كان الشّخص المشبوه الذي تتبعناه رجلاً بلحية كثيفة يرتدي ملابس سوداء. توقفَّ عند إحدى الخيام.
“أخي! أخي!”
“روان! ادخل! ابقَ بالداخل!”
تحرّكَ.طفلان بسرعة أمام الرجل الذي وصل إلى الخيمة.
كان الطفلان يسيران حافيين في الطين، يرتديان قطعَ قماش فضفاضة بالكاد تُعتبر ملابس.
لم يتحدث أحد سوى الطفل الصغير الذي يذرف الدموع و الصبي الأكبر سنًا قليلاً.
لا، بدا الكلام في هذا المكانِ رفاهية.
حتى لو بكى أحدهم أو انهار، لم يلتفت أحد.
“تحرك بسرعة! لا تصدرْ ضجيجًا و اتبعني بهدوء.”
“سأذهب! أخي صغير جدًا… هذا كلّ شيء.”
“تسك، مزعج!”
“روان!”
سحبَ الرّجل الصبي بعنف، و ركلَ الطفل الصغير المزعج. ثم بصقَ على الأرض و هو ينظر إلى بنطاله الملطخ بالطين.
‘يا له من وغد!’
غضبي تفجّرَ من المشهد المروع الواضح حتى في الضباب. لولا إشارة كاليد بألا أتحرك، لكنتُ انفجرتُ بالشتائم.
“روان، أنا بخير. لا تبكي، ولا تنسَ ما علمته إياك. فهمت؟”
“آه! أخي! لا تذهب! لا تأخذ أخي!”
كان الألم الأكبر من الرّكلة هو ألم الفراق. بكى الطفل و تشبث بأخيه.
لم يتردد الرجل. عندما تشبث الطّفل مرّةً أخرى، قامَ بركله. قفز الصبي ليتحمل الضربة بدلاً منه وخفض رأسه.
“إنه طفل صغير. لن أعارض… هيا بنا.”
“تسك، مزعج! أسرع!”
ضربَ الرجل رأسَ الصبي بقوّةٍ حتى سُمع صوت الضربة، وهو يعبس بنزق.
“آه! أخي! لا تذهب!”
“روان، عـدْ إلى المنزل. لا تتبعني. تذكر ما قلته لك.”
أجبر! الصبي أخاه الصغير على الانفصال عنه و سار مع الرجل.
استمرَّ الطفل المتبقي في البكاء ومناداة أخيه بيأس.
غطى البكاء المؤلم قرية الخيام، لكن المكان ظل هادئًا كما رأيناه أول مرة.
لم يتفاجأ أحدٌ بهذا الفراق المروع.
كما لو كانَ جزءًا من الحياة اليومية.
التعليقات لهذا الفصل " 64"