* * *
عاصمة إمبراطورية إيفيرنيا، “راجان”، هي مدينة سُميت على اسم الإمبراطور الأول، “راجان أورتيغا إيفيرنيا”.
كانَ بطلًا أسطوريًا أحبَّ شخصًا واحدًا فقط، و كانَ يُعرفَ بذلك أكثر من كونه الإمبراطور.
ربّما لهذا السّبب، كانَ اسم “راجان” مميّزًا منذ البداية.
“هاه… هاه.”
ركضتُ بجنون حتّى شعرتُ أنّ أنفاسي وصلتْ إلى حلقي.
استندتُ إلى شجرةٍ كبيرة لألتقط أنفاسي. شعرتُ كأنّني محاصرةً في متاهةٍ بلا مخرج.
“لماذا بالذات…”
نظرتُ إلى الجروحِ المخدوشة بين ثيابي الممزّقة.
تقلّص وجهي تلقائيًا بسببِ الألم الحادّ. تنهّدتُ طويلًا، محاولةً جعلَ قلبي الذي كادَ ينهار ، يتماسك .
عندما فَتحتُ عينيّ، كنتُ هنا مجددًا. في قارّة “بيسيا”، حيثُ عشتُ خمسَ سنوات كليفيا.
لكن يبدو أنّ الرّغبة التي تحقّقتْ كانت مجرّد انتقال عبرَ الأبعاد، فالمكانُ الذي انتقلت إليه لم يكن لطيفًا على الإطلاق.
“من بين كل الأماكن، غابة فيغاس!”
لن تتمَّ إعادتي إلى راجان فقط لأنني أشتكي، لكن جسدي المرهق جعلني أتذمر تلقائيًا.
“يقال انّها غابة مليئة بالوحوش…”
منَ الغريبِ أنّني لم أواجه أيّ وحشٍ و لو مرّة واحدة. على الرغم من أنها كانت غابة خطرة للغاية.
هل بدأَ الحاكم أخيرًا بحمايتي من اقتراب الوحوش؟
“أنا لستُ ليفيا…”
بالطّبع، لا يمكنُ أن يكون الأمر كذلك.
ربّما، مثلما تنامُ الحيوانات في الشّتاء، لا تظهر الوحوش كثيرًا. كانَ عليّ أنْ أعتبرَ نفسي محظوظةً فقط.
لكن لمْ أستطع التّخلي عن التوتر، فأعطيت قوة لساقيّ المعرجتين و أسرعتُ خطواتي.
كانت راجان مدينة تشبه شكلاً ثمانيّ الأضلاع. من بين البوابات الثمانية، كانت البوابات الشمالية الثلاث متصلة بغابة فيغاس، و لم تكنُ تُفتح بدونِ إذن.
كانتْ حاجزًا للإمبراطورية، يصدُّ الوحوش و الحيوانات المفترسة في الغابة.
منَ المفارقة أنّ مركز الإمبراطورية هو أيضًا الخط الأمامي. هكذا يتمُّ الشّعور بإرادة الإمبراطور الذي وقفَ في الخطّ الأمامي لحماية شعبه.
لم يُطلق عليه لقب البطل عبثًا.
“حتّى لو خرجتُ من الغابة… هل سأتمكّن من دخول راجان؟”
أخطرُ ما يحمي الغابة هي البوّابات الشّمالية الثلاث المتصلة بها.
كانتْ تتميّز بجدران أكثرَ صلابة و بأمن مشدّد مقارنة بالبوابات الأخرى. كانَ فرسان “فيغاس”، الذين سمّاهم الإمبراطور بنفسه، يحرسونها بعيون حادة، مما جعلَ الدّخول مِن هناك مستحيلًا.
“سيبدو الأمر مشبوهًا. لوْ خرجَ شخصٌ فجأةً من غابة فيغاس، حتّى أنا كنتُ سأشكّ لو كنتُ مكانهم.”
في النّهاية، كانَ عليّ أنْ أسلكَ طريقًا آخر.
لذلك، اخترتُ البوابة الغربيّة. كانت الأقرب من حيث المسافة، و كانت طريقًا يسلكه التّجار كثيرًا.
بما أنّها مكانٌ يمرّ منه الكثير من النّاس، كانَ من السهل التّسلل بينهم، و كانتْ أيضًا البوابة الأقلّ حراسةً بين الثمانية.
“مِنَ الأفضلِ تجنّب البوابة الثّامنة الغربيّة لبعضِ الوقت.”
“هل حدثَ شيء؟”
“لقد دخلَ متسلّل. يبدو أنّه تنكّرَ كحارس قافلة، لذا قدْ تجدينَ نفسكِ متورّطة في أمرٍ خطير.”
“هل هناكَ شيء يمكنني القيام به للمساعدة؟”
“أن تظلّي في مكانٍ آمنٍ دون أيّ مشاكل هو أكبر مساعدة تقدّمينها لي ، ليفيا. لا أريد أن أراكِ تتأذين.”
تذكرتُ كلماته الرّقيقة و هو يعانقُ خصري بقلق، فشعرت بألمٍ في صدري.
كانتْ ذكرى سعيدة.
كمْ من الوقت الصّعب تحمّلت حتى سمعتُ تلكَ الكلمات الرّقيقة.
استغلّتْ ليفيا سلطتها كسيّدة القوة المقدسة لارتكاب العديد من الأفعال الشّريرة. شعرتُ أنني يجب أن أصحّح تلكَ الأخطاء لأكون واثقةً من نفسي، و لأستحقَّ البقاء إلى جانبه.
كانَ الأمر نفسه مع البوّابة الغربيّة. لذا شعرت بقلق كبير عندما قال كاليد ذلك.
كانت البوابة الثامنة ممرًا اشترته ليفيا لتسهيل “أعمالها”. لهذا كانتْ الحراسة هناك متساهلة.
على الرّغم من طردِ جميع الحراس الذين تمّت رشوتهم، إلا أنّ المكان الذي أصبحَ فيه ثغرة لا يتغير بسهولة حتى لو تغير الأشخاص.
كانَ الانضباط قد أصبح متراخيًا للغاية، و بقيتْ الأمور على حالها حتّى مع تغيير الأشخاص.
“لكن بفضلِ ذلك، أصبحَ بإمكاني دخول راجان الآن.”
حاولتُ جاهدة تنظيف الجرائم التي تركتها ليفيا، لكن ذلك كانَ بعيدًا عن الاكتمال. و مع ذلك، طالما اخترتُ العيش كليفيا، أردتُ مواساة الأشخاص الذين جرحتهم أخطاؤها، و لو قليلاً.
أردتُ ألاّ يتأذّى المزيد منَ النّاس. ألاّ يكون هناك من يرى كوابيس بسبب “ليفيا أرفين”، أو إنْ أمكن، أن يقلّ عددهم.
هكذا قضيتُ خمسَ سنوات.
لم تكن الجرائم التي ارتكبتها أنا ، لكن بما أنّني أصبحتُ ليفيا، احتضنت خطاياها كما لو كانت خطاياي و حاولتُ التكفيرَ عنها.
كانَ من ضرب الخيال توقّع أن تختفي الجرائم التي ارتكبتها هي على مدى عشر سنوات في خمس سنوات فقط.
ومع ذلك، كانتْ خمس سنوات كافية لإظهار أنّ الشّخص قد تغيّر.
تمكّنتُ إلى حدّ ما من تغيير قلوب أولئكَ الذين كانوا يكرهونها و يحتقرونها. كوّنتُ عائلة، بنيتُ صداقات، و كان لديّ حبيب أحبّه.
“لم أكنْ أطلب الكثير…”
كبحتُ الشّوق الذي أخدَ يتصاعد في صدري.
عانقتُ جسدي المرتجف من القلق، وتنفّست بعمق.
الآن، يجب أنْ أذهبَ إلى البوابة الثامنة.
يجبُ أنْ أخرج من هذه الغابة قبل غروب الشمس. عندما يحل الظلام، ستنتشر الوحوش والحيوانات.
مسحت العرق، و وضعت قوة في ساقيّ المرتجفتين.
سحبت ساقيّ المتعثرتين، وعضضت أسناني، وركضت مجددًا.
* * *
كان دخول لاجان أسهلَ بكثير مما توقعت.
على الرّغمِ من أنني طردت جميع الحراس الذين تم رشوتهم سابقًا، كانت الوجوه المألوفة تحتل البوابة الثامنة الآن مرة أخرى.
شعرت بالدّهشة، لكن الدخول إلى راجان كان الأولوية، فأطرقت رأسي ومررت عبر البوابة.
لم يبدوا مهتمين حتى بفحص الهوية. لم تكن الأجواء كما كانت في السابق، حيث كانوا يأخذون رشاوى للسّماح بالمرور. كانوا يتثاءبون، يضحكون، ويضايقون المارة.
عبسَ التجار الأثرياء من رؤية هؤلاء الحراس، لكنهم مرّوا دون تعليق، راضين بعدمِ وجود فحص.
كانَ ذلك من حسن حظّي. بما أنني لا أملك أي وسيلة لإثبات هويتي الآن، كان هذا الجزء يمثل عقبة كبيرة.
بعد استطلاعِ الأجواء، قرّرتُ المخاطرة، وكان الحظ إلى جانبي مع وجودِ حرّاسٍ متساهلين في الخدمة.
“حقًا… إنها راجان.”
انتشرَ أمام عينيّ الشارع الصاخب والمألوف الذي قضيت فيه خمس سنوات. مشيتُ في هذا الشارع مع حبيبي، ضحكت مع أصدقائي، وقضيت أيامًا لا تُحصى.
كانتْ منطقة البوابة الثامنة، حيث تتجمع القوافل التجارية، منطقةً حيوية، لذا كنت أتردد إليها كثيرًا عندما كنتُ “ليفيا أرفين”.
كانَ هذا الشارع مألوفًا لي جدًا.
كنتُ محظوظة. لو كانت هذه مدينة غريبة، لكان من الصّعب الوصول إلى هنا.
“أريد رؤية كاليد الآن…”
نظرتُ إلى انعكاسي في واجهة متجر وعضضت شفتيّ بقوة.
رداءٌ ممزّق، جروحٌ مخدوشة. كانتْ آثار اجتياز الغابة محفورةً على جسدي.
جسدٌ نحيف و بائس. حتى أنا شعرتُ بالخجلِ من مظهري.
كانَ مختلفًا تمامًا عن مظهرِ ليفيا المثاليّ . تقلصت كتفاي تلقائيًا.
كيفَ يمكنني الذّهاب إلى كاليد بهذا المظهر، وماذا يمكنني أن أقول له؟
لنْ يتعرفَ عليّ حتّى.
الأمر الوحيد المحظوظ هو أن الشعر الأسود و العينين السوداوين ليسا نادرين في هذا العالم.
“هل ستدخلين؟”
“…ماذا؟”
“منذ قليل وأنتِ ملتصقة بالنافذة، و لعابكِ يسيل. إذا كنتِ ستدخلين، ادخلي—”
كانت نبرته و كأنّه يقول “وإلا فاخرجي”.
كنتُ أنظر فقط إلى انعكاسي في النافذة، لكن الموظّفَ تفحصني من الأعلى إلى الأسفل بنظرةٍ مزعجة.
كانتْ نظرته، وهو يتفحّصني من رأسي إلى أخمص قدميّ كما لو كان يقيّم سلعة، مليئةً بالإزعاج.
“هه، حقًا مزعجة. ما هذه المتسوّلة التي تتسكع أمام المتجر؟! الزّبائن يقولونَ إن شهيتهم تُفسد. اخرجي فورًا!”
في لحظة الإهانة الواضحة، نظرت إلى الموظف في ذهول.
بدا الموظّف و كأنّهُ يعتقدُ أنّني مجنونة، فبصق بصقة ممزوجة بالبلغم على الأرض و دفعني بعيدًا.
“اللعنة! متسوّلةٌ مجنونة تظهر من حيث لا ندري ولا تعرفُ مكانتها! اخرجي! أخبرتكِ أنْ تخرجي!”
لم يكن الموظف صاخبًا بشكلٍ مبالغ فيه. لكن في شارعٍ هادئ و مهذّب، كانَ حتّى هذا الاضطراب الصّغير كافيًا لجذب الأنظار.
شعرتُ بحرارة تتصاعد في وجهي.
كانَ يُلوّح بيدهِ و كأنه يطرد كلبًا ضالًا، و يدفعني بعيدًا.
ضرب—
سقطتُ على الأرض وجرحتُ ركبتيّ، لكنني لم أستطعْ رفعَ رأسي.
عندها فقط، لم أعد أرى انعكاسي في النافذة، بل رأيتُ النّاس داخلَ المطعم.
شارع البوابة الثامنة مليء بالقوافل التجارية، وبالتالي الأثرياء كثيرون، وكانَ زبائن هذا المطعم الراقي بالطبع من هؤلاء.
نظراتهم المقطبة، و كأنّهم يرون قمامةً قذرة، ونظرات العديد من الأشخاص داخل المطعم طعنتني كالإبر، أخذت تخترق جسدي الممدّدَ على الأرض.
ارتجفَ جسدي بالكامل مِن الخزي. مع وجهي المحمر، غادرتُ المكانَ بأسرعِ ما يمكن.
حتّى بعد أن خرجت من الشّارع و تجوّلتُ في الأزقة عدّةَ مرات، شعرت وكأنَّ تلكَ النظرات الحادة كالإبر لا تزال تلاحقني من الخلف.
لم أتعرّض لمثلِ هذه المعاملة ولو لمرّةٍ واحدة في إمبراطورية إيفيرنيا.
لم تكن سيّدة القوة المقدسة، ليفيا أرفين، التي تملك نفوذًا أقوى من الإمبراطور، قد تلقّتْ مثل هذه النظرات أبدًا.
عندها فقط، أدركت، كما لو أنّ الأمرَ محفور في عظامي، أنّني هنا لستُ “ليفيا”، بل “أنا الحقيقيّة”.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"