بينما كنتُ أتنهّد في الهواء لفترةٍ طويلة، سمعتُ صوتًا مألوفًا من خلفي:
“لماذا أنتِ هكذا؟”
“أوه؟ لماذا أنتَ هنا، جيرمان؟”
“لأنّ مكتب سموّه هنا.”
كنتُ أجلسُ القرفصاء تحتَ الدّرج في وسط قصر اللّورد، فضحكتُ بإحراج و نهضتُ بسرعة.
مهما فكّرتُ، كان الموقف محرجًا ويصعب تفسيره.
“أليس… غريبًا بعض الشيء؟”
“نعم. إذا كان لديكِ أمر مع سموّه، كان بإمكانكِ الدّخول بدلًا من الجلوس هنا على الدّرج.”
“ليس لديّ أمر…”
“إذًا، عودي إلى غرفتكِ أو اذهبي للتنزّه. بالمناسبة، ألم تعودي تعتنين بشوريل؟”
“لقد تحسّن كثيرًا مؤخرًا. الدّوقة الكبرى تزوره باستمرار أيضًا…”
“تقولين إنّكِ تردّين الجميل، فلماذا تهتمّين بنظرات الدّوقة الكبرى؟ هل… لديكِ نوايا أخرى؟”
“لا! بالتّأكيد ليس كذلك. شوريل هو فقط… مُنقذي!”
على الرّغمِ من أنّ الوقت الذي قضيناه معًا كان قصيرًا، إلاّ أنّني ظننتُ حقًا أنّني سأعيش كليفيا أرفين. لذا، أحببتُ شوريل كأخٍ صغير بصدق.
نوايا أخرى؟ هذا هراء.
“إذًا، اذهبي و سلمي عليه بنفسكِ. حتّى لو لم تكتمل ذاكرته، فهو عاقل الآن.”
“حسنًا… يجب أن أفعلَ ذلك…”
حتّى بعد استيقاظه، كان شوريل يبدو مشوشًا لفترة، لكنّه الآن عاد إلى وعيه تمامًا.
المشكلة هي أنّ “الكذبة” التي تفوّهتُ بها لإنقاذه ستنكشف قريبًا.
في اللّحظةِ التي يقول فيها: “من أنتِ؟” سأصبح فورًا امرأةً مشبوهة.
“…لكن، يجب أن أذهب.”
حتّى لو لم يكنْ بسببِ كلام جيرمان، كان عليّ مواجهته عاجلًا أم آجلًا.
بما أنّ كاليد يشتبه في هويّتي بسببِ علاقة شوريل و الدّوقة الكبرى، كان عليّ تنسيق الأمور مع شوريل.
إذا اكتشف أنّ علاقتي شوريل كذبةٌ أيضًا، فقد أُطرد هذه المرّة حقًا.
لذا، كنتُ بحاجة إلى فرصةٍ للقاء شوريل وحدنا، ولو للحظة.
كنتُ مستعجلة، لكنّ الفرصة لم تكن تتاح بسهولة.
في النهار، لم تتوقّف زيارات من يتذكّرون شوريل، وفي الليل، كانت الدّوقة الكبرى تحرسه كحصن.
لذا، خوفًا من انكشاف الكذبة، كنتُ أتجنّب كاليد أيضًا، ممّا جعلني أشعرُ بالإحباط.
لو كان الماركيز فالاندي، الذي يمكنني البوح له بكلّ شيء، موجودًا بجانبي.
لكنه كانَ مشغولًا جدًا. بعد أن تمّت تسوية ميرسين ولم يعد هناكَ سبب للاختباء، تخلّى عن الحياد رسميًا وأعلن دعمه لوليّ العهد.
تنهّدتُ بعمق وأنا أتخيّل وجهه وهو يركض في راجان لتوسيع نفوذ وليّ العهد.
“لا تجلسي في الممر وتزعجي الناس. إذا كنتِ ستدخلين، فلنذهب معًا.”
“أنا فقط…”
قاطعني جيرمان وأنا أتلعثم.
“وصلت أخبار من راجان، فتعالي واسمعيها معنا.”
“أوه؟ هل… أرسل والدي رسالة؟”
“لذا، ادخلي.”
تحتَ نظرة جيرمان التي تقول: “كفى تذمّرًا وحرّكي نفسكِ”، خطوتُ على مضض.
نعم، لا يمكنني التأخّر إلى الأبد.
يمكنني بطريقةٍ ما التملّص من أمر شوريل. قال إنّ ذاكرته بها ثغرات، أليس كذلك؟ ربّما إذا أصررتُ…
‘آسفة، شوريل. أنا حقًا آسفة لخداعكَ وأنتَ مريض… أرجوك، صدّقني.’
كرّرتُ الاعتذار في ذهني عدّةَ مرّات وفتحتُ باب المكتب.
كان مكتب اللّورد، المتورّط في حلبة الكلاب، فاخرًا بشكلٍ مدهش، مليئًا بالأغراض الباهظة.
كانت كلّها أشياء باهظة الثمن يصعب على لورد ميرسين الحصول عليها، لكن ترتيبها العشوائي جعل الجوّ مشتّتًا.
“أخيرًا تدخلين.”
بما أنّني كنتُ أجلس القرفصاء في وسطِ القصر حيث يمرّ الناس، لم يكن ليفوت كاليد، الذي كان في المكتب، ذلك.
لم أستطع قول إنّني شعرتُ بالحرج والخجل من مواجهته، فتظاهرتُ باستكشاف المكتب وأنا أتجنّب عينيه.
لم يتابعْ كاليد الحديث، وتسلّم رسالة مختومة من جيرمان.
“تقريرٌ عاجل من الماركيز فالاندي.”
“هل حدثَ شيء في راجان؟”
“راجان هادئة.”
عبس كاليد قليلًا وفتح الرّسالة. عند ذكر التقرير العاجل، تنحنحتُ و اقتربتُ بهدوء.
‘إذا أرسل بابيل تقريرًا عاجلًا، فلا بد أنّه خبرٌ مهم لي.’
كتابته لولي العهد بدلًا مني مباشرة تؤكّد ذلك. استخدام خطّ ولي العهد كان أسرع وأكثر أمانًا من الرّسائل العاديّة، خيار ذكيّ.
حتّى لو أرسلها لي مباشرة، لم أكن لأستطيع إخفاءها في موقف مثل هذا بجانب كاليد.
بعد قراءة الرّسالة بسرعة، تصلّبَ وجهُ كاليد و سلّمني إيّاها.
“كتبَ أنّه يجب أن تُعرضَ عليكِ أيضًا.”
شعرتُ بشيءٍ مقلق، لكنّني أخذتُ الرّسالة وقرأتها على الفور.
『على الرّغمِ من علمي بانشغالكم بأمر ميرسين، إلا أنّ الأمر ليس هيّنًا، لذا أكتب هذه الرّسالة.
صاحب السّمو، اندلع تمرّد في بيلانيف. طلبت سيّدة القوّة المقدّسة دعمًا لتهدئة التمرّد.
بسببِ هذا، الاتّحاد التجاريّ في حالةِ صخب يوميّ. أنا قلقٌ على ابنتي التي ذهبت إلى ميرسين. أتجرّأ على طلب إذنكَ لعرضِ هذه الرّسالة عليها أيضًا.
كالمطر في الفجر على أرض جافّة، أنا آسف لعدم تمكّني من المساعدة في الوقت المناسب. أتمنّى ألاّ تشعري بالوحدة في مكانٍ غريب. والدكِ قلق، فعودي بسرعة.
أتمنّى عودتكَ سالمًا، صاحب السّمو… سأنتظر في راجان.
—بابيري فالاندي』
على السّطح، بدت كرسالة عاديّة من أبٍٍ قلق على ابنته مع أخبار حديثة.
تذكّرتُ محادثة مع الماركيز فالاندي بعد الحفل:
‘بخصوص ضحايا الفيضان الذي حللتِهِ سابقًا، هناك شيء غير واضح بشأنِ سياسة دعم اللّاجئين التي نفّذتِها. هناكَ شكاوى من اللّاجئين بشأن الإمدادات.’
‘شكاوى؟’
‘سمعتُ أنّهم يثيرون الضّجة أحيانًا لأنّهم غير راضين.’
‘عندما رأيتُ الوثائق، كانَ الدّعم أكثر ممّا خصّصتُه. لا يفترض أن تكونَ هناك شكاوى… هل يمكنكَ التحقّق من هذا الأمر بمزيدٍ من التفصيل؟’
يبدو أنّه اكتشفَ شيئًا أثناء تحقيقه.
توقّع اندلاع تمرّدٍ بعدَ هجوم ميرسين مباشرة، و تحرّك ليفيا بنفسها، كلّ ذلكَ كان متزامنًا بشكلٍ مريب.
لا يمكن أن يكون كلّه مصادفة. ليفيا تسبّبت في الحادث عمدًا.
ما الذي تريد تحقيقه بجذبِ الانتباه وإثارة الفوضى؟
‘لا أعرف بعد. لكن الماركيز أخبرني بهذا. عبر خطّ كاليد.’
عدتُ إلى الرّسالة.
التعابير الشّاعريّة و المجازيّة بدت متعمّدة بشكل واضح، كأنّها تحمل معنى آخر.
ربّما لأنّه كانَ عليّ قراءتها عبر كاليد، لم يستطع كتابة التّفاصيل.
‘مطر الفجر على أرضٍ جافّة… ربّما يعني بيلانيف. هل الوضع هناكَ سيّء؟’
‘آسف لعدمِ مساعدتي في الوقت المناسب’ يعني صعوبة جمع المعلومات عن بيلانيف.
‘أتمنّى ألاّ تشعري بالوحدةِ في مكان غريب’—ماذا يعني؟ قلقٌ عليّ، لكن ليس هذا. إذًا… مكان يجعلني أشعر بالوحدة. بيلانيف؟
بللتُ شفتيّ الجافّتين. اقتربَ الحلّ بوضوح.
‘عودي بسرعة’—كلماتٌ لطيفة لكنّها مليئة بالإلحاح.
ومضت فكرة في ذهني.
<الوضع في بيلانيف سيّء جدًا، فاذهبي إلى هناك بسرعة.>
بدت الرّسالة كأنّها تُفسَّر بهذا المعنى.
التمرّد، الدّعم الإضافيّ، و صخب الاتّحاد التجاريّ مرتبطون بما يحدثُ في بيلانيف.
إرسال الرّسالة عبر كاليد قد لا يكون فقط للأمان أو مراعاة الوضع هنا.
‘لا أستطيع حلّ هذا بمفردي، فاذهبي إلى بيلانيف مع كاليد.’
فهمتُ المضمون الحقيقيّ لما أراد إيصاله، فانقطع نفسي.
كيفَ أطرحُ هذا على كاليد؟
أنا، المعروفة بأنّني من الشّرق الأقصى، إذا أظهرتُ اهتمامًا كبيرًا ببيلانيف، التي شهدت كارثة الفيضان قبلَ سنوات، سأبدو مشبوهة.
“يبدو أنّ الماركيز يعتزّ بكِ كثيرًا.”
“آه… إنّه شخصٌ يقلق كثيرًا.”
تظاهرتُ بالهدوء، لكن نظراتِ كاليد كانت مثبّتة عليّ.
شعرتُ بضغطٍ صامتٍ يطالبني بالتّفسير قبلَ أن يسأل.
التعليقات لهذا الفصل " 58"