تمنّيتُ أن يتسلّل هواء الفجر بيننا. وإلاّ، ففي هذه المسافة القريبة التي تكاد أنفاسه تلمسني فيها، شعرتُ أنّ قلبي سينفجر.
كنتُ كحيوانٍ عاشب صغير أمام وحش مفترس في قمّة السلسلة الغذائيّة، بالكادِ حرّكتُ شفتيّ:
“…نعم.”
لم أتخيّل أنّ نطق كلمةٍ واحدة قد يكون بهذه الصّعوبة.
شعرتُ كأنّ دمي يتدفّق إلى وجهي. نظرته الحمراء كانت قريبة جدًا، و رائحته المألوفة التي اشتقتُ إليها دغدغت أنفي.
“لماذا؟ هل هي عدوّتكِ اللّدودة؟”
كلماته التي بدتْ كتحقيق كانت مشكلة، لكنّ القرب منه كان المشكلة الأكبر.
خِفتُ أن يبدو إغلاق عينيّ كأنّني أتوق إلى قبلة منه، فأجبرتُ نفسي على إبقاء عينيّ مفتوحتين، محدّقة في أعشاب الفناء الخلفيّ دونَ ذنب.
‘سأجنّ، حقًا!’
لكن حتّى ذلكَ لم يدم، إذ أمال كاليد جسده قليلًا، مانعًا رؤيتي، فلم أرَ سوى وجهه الذي تمنّيته حتّى في أحلامي.
تمنّيتُ أن تنتهي هذه اللّحظة الغامضة بسرعة، فأجبتُُ بحذر:
“هناك شيءٌ يجب أن آخذه من تلكَ المرأة.”
“هل سُرق منكِ؟”
“شيء… شبيه بذلك!”
أدرتُ رأسي بعنف كأنّني لا أريد الاستمرار في الحديث، فأبعدَ كاليد يده ببطء عن المقعد واستقام.
لم يكن الحديث مناسبًا لموقفٍ يشبه تبادل القبلات بين العشّاق. لم تهدأ الحرارة التي تجمّعت في وجهي، وشعرتُ و كأنّ بخارًا يتصاعد من رأسي.
نظرَ إليّ كاليد وهو يضع ذراعيه على صدره، ثمّ أطلقَ ضحكة خفيفة.
“يبدو أنّ الأمر نجحَ معكِ أكثر ممّا توقّعتُ.”
“ما… ماذا تقصد؟”
“الإغراء.”
لم أستطع نفي كلامه، لكنّني فتحتُ فمي بدهشة من الغرابة.
كاليد، من بين كلّ النّاس، استخدم كلمة “الإغراء”، و تجاهلني!
“لا يبدو أنّكِ تكذبين.”
“لماذا سأكذب؟”
“عندما تتعاملين مع أشخاصٍ لا ينطقون إلاّ بالكذب، يصبح الشّخص الصّادق أكثر غرابة.”
“…..”
“إذا كان لدينا العدوّ نفسه، يمكننا السّفر معًا حتّى نصل إلى وجهتنا.”
“هل تعترفُ بي؟”
“نعم.”
كان يجب أن أفرحَ بالاعتراف، لكنّ شعورًا مألوفًا بالقلق تسلّل إليّ.
“لذا، لا يجبُ أن تخفي عنّي شيئًا بعد الآن.”
“…..”
“أكره أكثر من أيّ شيء الأشخاص الذين يكذبون عليّ.”
كلماته الباردة بدت و كأنّها ترسمُ خطًّا واضحًا. كلمة واحدة منه جعلتني أتأرجح بلا حولٍ ولا قوّة، أنا التي كنتُ أعرف علاقة الدّوقة الكبرى بشوريل لكنّني لم أستطع قول ذلك.
سؤاله السابق بدا وكأنّ له معنى آخر تمامًا.
سألني كاليد: “هل عدوّكِ ليفيا؟” لكن لو كان يثق بي حقًا و يقبلني، ألم يكن يجبُ أن يسألَ: “هل أنتِ في صفّي؟”
بدلًا من اعتباري “في صفّه”، قال فقط إنّنا يمكن أن نسير معًا لأنّ وجهتنا واحدة.
كلامه بدا وكأنّه يفترضُ مسبقًا إمكانيّة خيانتي له. موقفه الواضح في رسمِ الحدود أطفأ الحرارة التي كانت تتأجّج بداخلي في لحظة.
شعرتُ بالخجلِ من نفسي لظنّي أنّني اقتربتُ منه.
“حسنًا… لن أكذب.”
لم أستطع أن أقول إنّني لن أخفي شيئًا، أو أنّني سأكون صادقة تمامًا.
أمام شخصٍ يكره الكاذبين أكثر من أيّ شيء، أنا التي وجودي بحدِّ ذاته كذبة، لم أجرؤ على الوعد بذلك.
شعرتُ بحرقة في حلقي، كما لو أنّني ابتلعتُ دواءً مرًّا دون ماء. لإخفاءِ هذا الشّعور، نهضتُ فجأةً من المقعد.
“قلتَ إنّك ستستجوب سيرو روجيس، أليس كذلك؟ يبدو أنّ النّوم لن يأتي، فلنذهب الآن. لديّ أسئلة لهذا الرّجل.”
كانَ من الواضح أنّني أحاول تغيير الجوّ، لكنّ كاليد أومأَ برأسه بهدوء، كما لو أنّه يتفهّم.
على عكسِ لقائنا الأوّل، أصبحت تصرّفاته أكثر ليونة مؤخرًا. منذُ وصولنا إلى ميرسين، كنتُ أشعر أنّني اقتربتُ منه، لكنّ محادثتنا الأخيرة أثبتت أنّ ذلك كان وهمًا.
ظننتُ أنّني اكتسبتُ الحقّ في الوقوف إلى جانبه بفضل كلامهِ اللّطيف و تصرّفاته الودودة، لكنّ إدراكي أنّ شيئًا لم يتغيّر تسبّبَ في يأسٍ أعمق.
كأنّني أدركتُ أنّني، ما لم أكن ليفيا أرفين، لن أستطيع أبدًا أن أكون محبوبة منه مرّة أخرى.
كان شعورًا ممتعًا… و كأنّني في الجحيم.
* * *
كان سيرو مع لورد ميرسين في زنزانة تحت الأرض في قصر اللّورد. نزلنا أنا و كاليد الدّرج المؤدّي إلى الطّابق السّفليّ في صمتٍ محرج.
حتّى بعد بزوغ النّهار، كان القبو مظلمًا ورطبًا.
انتشرت رائحة الرّطوبة والعفن في الهواء، وحتّى الشّموع المثبّتة على الجدران كانت تتأرجح بشكلٍ غير مستقرّ في فضاء خالٍ من الرّيح.
كان الجوّ بيني و بين كاليد مشابهًا لهذه الشّموع المتأرجحة، فوجدتُ نفسي أعضّ شفتيّ بلا وعي.
لكسرِ هذا التّوتر المخنوق، حاولتُ التحدّثَ بلا مبالاة:
“مَنْ هو سيرو روجيس؟”
“سيرو روجيس الذي أعرفه ليسَ سوى أحد أتباع ليفيا من الجنوب.”
خلالَ الخمس سنوات التي عشتها كليفيا، لم يكن لديّ سوى لقاءات عابرة معه في قاعات الحفلات، ولم تكن لديّ أيّة علاقة أو معلومات إضافيّة عنه. ما كنتُ متأكّدة منه هو أنّه لم يكن ضمنَ قائمة الأتباع في ذاكرتي.
‘هذا يعني أنّه أصبح تابعًا خلال الخمس سنوات الأخيرة…’
ومع ذلك، بدا أنّه و كاليد كانا على علاقة وثيقة إلى حدّ ما عندما تقابلا في حلبة الكلاب.
هل كانا أصدقاء؟
“كان زميلًا في الأكاديميّة.”
“هل كنتما صديقين؟”
“ليس كلّ مَنْ يدرس في الأكاديميّة يصبح صديقًا.”
“حسنًا… هذا صحيح.”
“مجرد زميل.”
إن لم يكونا صديقين، فهذا مريح. لو كان صديقًا مقربًا و يعمل كأداة لـليفيا، لكان ذلك جرحًا يتجاوز الخيبة.
“سيرو روجيس تابع لـليفيا، وكان مسؤولًا عن حلبة الكلاب… هل يمكننا ربط هذا الأمر بـليفيا؟”
“ليس بالأمر السهل.”
“صحيح… سيُختتم الأمر بقطع الذّيل.”
لم يكن هناك حاجة للتخيّل، فالنّتيجة واضحة. بما أنّ ميرسين بوّابة إلى الشّمال، فإنّ قطع أحد أعمال ليفيا هنا يُعتبر إنجازًا بحدّ ذاته.
“هل وجدتَ أيّ دليل يربطهُ بليفيا؟”
“ليس من النّوع الذي يترك أدلّة. كان سيرو روجيس ذكيًّا جدًا حتّى في أيّام الأكاديميّة.”
“لكن لماذا…”
“حتّى لو لم يعرف الآخرون، فسيرو روجيس كان يعلم أنّ حلبة الكلاب واحدة من أعمالِ ليفيا. لا أدلّة، لكن…”
صرّت المفاصل الحديديّة، و انفتحَ باب حديديّ ثقيل.
“لكن لدينا شاهد.”
بالطّبع، يجبُ استجوابه لمعرفة قيمته كشاهد.
كانت الزّنزانة مظلمة، رطبة، و ضيّقة، بلا نوافذ أو فتحات. كانت مختلفة تمامًا عن سجن عائلة أرفين الذي رأيته في أيّام ليفيا.
كان ذلكَ السّجن نظيفًا ومضيئًا، يشبه مستودعًا أكثر من كونه سجنًا.
‘هذا… هو السّجن الحقيقيّ.’
كبحتُ شعوري بالضّيق من الهواء الرّطب، و نظرتُ عبر القضبان.
كان وجهه هادئًا بشكلٍ مفاجئ. جلوسه على الكرسيّ بدا مريحًا، رغم الكدمات على وجهه وذراعيه المقيّدتين، كما لو أنّه تعرّض لمعاملة قاسية.
نظر سيرو إلى كاليد و كأنّه كان ينتظرنا، فرفع زاوية فمه، ثمّ أدار رأسه نحوي.
“مَـنْ هذه؟ أليست المرأة التي حاولت قتلي؟”
“لم أحاول قتلك!”
“أترين هنا؟ اضطررتُ لتناول دواء مضادّ للسّم، وها أنا بهذا الحال!”
حتّى و هو مقيّد اليدين، أمال رأسه بصعوبة ليكشف عن رقبته في إشارةٍ ساخرة صامتة. شعرتُ بقبضتيّ تشتدان دونَ وعي.
“كان ذلكَ دفاعًا عن النّفس.”
“دفاع عن النّفس؟ إذًا، أنا أيضًا حاولتُ منع متطفّل دخول منطقتي دونَ إذن، أليس هذا دفاعًا عن النّفس أيضًا؟”
“هذا… دفاع مفرط!”
“ها! يا لها من امرأةٍ مضحكة. إذًا، محاولتي قتلكِ كانت مفرطة، لكن محاولتكِ قتلي كانت مشروعة؟”
قد تكون طريقتي مبالغًا فيها، لكن هل هي مثل ما فعل؟
مَنْ الذي كان يلوّح بالسّوط على شوريل الذي لم يستطع حتّى المقاومة؟
كبحتُ الحرارة التي كادت تتصاعد وأنا أتذكّر تلك اللّحظة.
“أيّها الوغد. كان يجب أن أستخدم سُمّ الشّلل لأسكت لسانكَ أيضًا.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 54"