* * *
“ماذا؟”
تفاجأ سام كثيرًا بتعبير و نبرة كاليد المختلفين تمامًا عمّا اعتاده منه، لكنّه تظاهر بعدمِ الانزعاج و تراجع! خطواتٍ إلى الوراء.
بالطّبع، لم يكن كاليد ليغفلَ عن ذلك.
“إذا لم تُثِر ضجّة، فلن أقتلك.”
“مـ، ماذا تفعل؟”
“أرشدني إلى مكان المسؤول عن هذا المكان.”
“إذا كنتَ تعني مكان اللورد…”
“لا.”
أمسكَ كاليد بكتفِ الرّجل بقوّة لمنعه من الهروب وهمس بهدوء:
“ليس اللورد، واجهة العرض، بل المسؤول الحقيقيّ الذي يدير هذا المكان.”
“هييك!”
ابتلعَ سام صرخته بوجهٍ شاحب كما لو أنّه سمع شيئًا لا يُفترض أن يسمعه.
كان كتفه يؤلمه و كأنّه سينكسر، لكنّه لم يستطع حتّى إصدار أنين.
لم يكن خوفًا من الرّجل الذي كان يُعتبر سيّدًا متعجرفًا، بل لأنّ كاليد كان يضغط بإبهامه على عنقه بمهارة.
لم يُفلت الضغط إلّا بعد أن أصبح وجه سام أحمر من الاختناق وهو يصدر أصواتًا غريبة.
شعر سام بالظّلم. لو سأله فقط، لأجابَ دون الحاجة لفعل كلّ هذا.
“تكلّم.”
“أنا، أنا مجرّد موظّف صغير… هييك! سأتكلّم، سأفعل! لكنّني حقًا لا أعرف التفاصيل…”
“لن أكرّر. تكلّم.”
“اللورد هو المسؤول الوحيد… ربّما يكون ذلك الشخص، لكنّني لستُ متأكّدًا. لا يظهر كثيرًا لأمثالنا.”
“مَـنْ هو؟”
“لا أعرف اسمه. هناكَ غرفة صغيرة بجانبِ غرفة اللورد، رأيته يدخلها ويخرج منها أحيانًا. لكنّني رأيته بالصّدفة فقط…”
“كيف يبدو؟”
خوفًا من أن يُضغط على عنقه مجدّدًا، أسرع سام بوصف ما رآه:
“طوله أقصر منكَ بحوالي شبر، وليس ضخمًا. يرتدي دائمًا رداءً، لذا لا أعرف وجهه، لكنّني رأيت بشرة سوداء من تحت الرداء. ربّما شعره…”
“أبيض، أليس كذلك؟”
بشرة سوداء وشعر أبيض، سمات سكّان جنوب الإمبراطوريّة.
‘هل أقحموا حتّى نبلاء الجنوب؟’
لم يكن كاليد يعرفُ إن كان الشخص الذي تحدّث عنه سام نبيلًا أم مجرّد عاميّ من الجنوب، لكن إخفاء وجهه في مكانٍ كهذا يجعل من المرجّح أن يكون نبيلًا.
علمَ كاليد أنّ نفوذ ليفيا يمتدّ عبر الإمبراطوريّة، لكن معرفة أنّها أقحمتْ حتّى نبلاء الجنوب المتكبّرين كانتْ خسارةً موجعة له.
إلى أيّ مدى تحالفتْ قوى الجنوب معها؟
شعرَ بصداعٍ وهو يفكّر في حجم هذا النفوذ.
لكن الآن، كان التّعامل مع الوضع الحاليّ أولويّة، فأطاحَ بمؤخّرة عنق سام ليفقده الوعي.
وضعه على أريكة داخل الحاجز بعيدًا عن الأنظار، ثمّ غادرَ كاليد المكان.
كانت حلبة التّوكيل، التي اقتربت من النهائيّات، مفعمة بالهتافات و الحماس، فلم يجذب خروج شخصٍ واحدٍ الانتباه.
بين الحشود المتحمّسة، كانَ الحرّاس فقط من يبقون متيقّظين، ينظرون حولهم بحذر عند سماع صياح الطيور المتتالي.
غادرَ كاليد الحلبة بسرعةٍ وأرسل إشارة عبر الأداة السحريّة إلى فرقة الفرسان التي تنتظر بالخارج.
رغم تفتيش الأدوات السّحريّة عند المدخلِ عبر كاشف المانا، كانت الأداة التي يحملها كاليد من النوع الذي لا يكتشفه إلّا أجهزة متقدّمة.
بعد إرسال الإشارة، لم يعد هناكَ ما يدعو للتردّد.
توجّه كاليد، متجنّبًا الأنظار قدر الإمكان، إلى المكان الذي التقى فيه باللورد سابقًا.
“مَن أنتَ؟”
“بووم!”
“دخيل!”
أخضعَ كاليد بسرعة كلّ من صادفه في الطريق وتقدّم للأمام.
كلّما اقترب، زادَ عدد الحرّاس، ممّا جعله يعتقد أنّ سام لم يعطه معلوماتٍ خاطئة.
بما أنّه اكتُشف، كانَ من الأفضل حسم الأمر بسرعة. أخرجَ كاليد سيفه. التردّد يعني إعطاء الفرصة للأعداء للهروب، لذا لم يُظهر سيفه أيّ رحمة.
عندما اقتربَ من وجهته، سمع هتافاتٍ صاخبة وأصوات تصادم المعادن من بعيد.
“لا تتركوا أحدًا، اربطوهم جميعًا!”
كانت أصوات فرقة الفرسان التي وصلت لتغزو الحلبة.
مع تقدّم الخطة كما هو مخطّط، لم يتردّد كاليد و ركل باب الغرفة الصغيرة التي تحدّث عنها سام، وليس غرفة اللورد.
“كوانغ!”
“لا!”
في اللّحظة ذاتها، اخترقت صرخةٌ حادّة أذنيه.
تعرّف كاليد على الصّوت المألوف، فرأى الموقف أمامه واندفع فورًا.
رأى رجلًا يرتدي رداءً يرمي خنجرًا نحو شوريل. قفز كاليد نحوه و صدّ الخنجر الطائر، لكن لم يكن خنجرًا واحدًا، فأصابه أحدها في كتفه.
“أككك-”
عضّ على أسنانه من الألم الحادّ للخنجر وهو يخترق لحمه.
“كاليد!”
سمع صوتًا حادًا، لكن لم يكن لديه وقتٌ لينظر إلى مصدره.
وقف كاليد أمام شوريل لحمايته، وهو يتدلّى بلا حولٍ ولا قوّة، و ناداه بهدوء:
“شوريل.”
“… سموّك؟”
كان صوته متشقّقًا، بالكاد استطاع أن يهمس بسؤاله.
“هل تستطيعُ الحركة؟”
“…مست..حيل.”
كان نطقه بطيئًا و متقطّعًا، كما لو أنّه لم يتحدّث منذ زمنٍ طويل.
حاول جاهدًا رفع جسده المتراخي، لكنّه، كما لو كان مخدّرًا أو مسمومًا، لم يستطع السيطرة على جسده.
أرادَ كاليد فحصه ، لكنّ العدوّ الذي يرتدي الرداء أمامه كان الأولويّة.
“يبدو أنّ الضيوف غير المدعوّين يتوافدون.”
“تلقّيتُ دعوة، لذا إذا فكّرتَ في الأمر، أنتَ من دعاني.”
“ألا تعتقد أنّني لم أكن لأدعوك لو كنتُ أنا؟”
“سأنقل شكري للورد لاحقًا.”
“حسنًا، إذا بقيتَ على قيدِ الحياة.”
يبدو أنّ الرجل قد كشفَ هويّة كاليد المتخفّي بنظرةٍ واحدة، لكن نبرته لم تتغيّر.
“لم أتوقّع رؤيتكَ في مكانٍ كهذا.”
“حقًا؟ كنتُ أتوقّع لقاءكَ يومًا ما. بالطّبع، أسرع ممّا توقّعتُ قليلًا.”
رفعَ الرّجل الذي يرتدي الرداء كتفيه بلا مبالاة رغم كشف هويّته، بل و خلعَ غطاء رأسه الذي كان يضغطه بقوّة، كما لو أنّه لم يعد بحاجة للإخفاء.
كان وجه الرّجل ذو البشرة السوداء والشعر الأبيض القصير مألوفًا جدًا لكاليد.
“مرّ وقتٌ طويل. أليس هذا أوّل لقاءٍ لنا منذ تخرّجنا من الأكاديميّة؟”
عبسَ كاليد فورًا عند رؤية الرجل يحيّيه بلا مبالاة.
أخرج الخنجر من كتفه و رماه على الأرض وسأل:
“سيرو، ما الذي تفكّر فيه؟”
“لا زلتَ جادًا كالعادة، يا سموّ الأمير. ما الذي يمكن أن أفكّر فيه لإدارة مكانٍ للقمار؟ إنّه يضيف متعةً لحياةٍ مملّة، ويدرّ المال أيضًا.”
لم يكن هناك ذرّة صدقٍ في إجابته المبتسمة.
“سموّكَ ! الجرح…”
هرعت إيرديا، التي لم ينتبه لها كاليد، بوجهٍ مليء بالدّموع.
لم يُظهر سيرو اهتمامًا بها، أو ربّما لم يكن ينوي السّماح لأحدٍ بالمغادرة، لذا بقي هادئًا.
تحدّث كاليد إلى إيرديا دون أن يحوّل نظره عن سيرو:
“قلتُ لكِ أن تتذكّري المكان فقط و تعودي. لقد خرقتِ الوعد مجدّدًا. أليس لديكِ حياةٌ واحدة؟”
“كنتُ سأعود بعد العثور عليه. لو لم يحاول هذا الرّجل قتل شوريل…”
كانت كلماتها تتلاشى، كما لو أنّها تدرك خطر الموقف.
نظرت إيرديا، بوجهٍ متّسخٍ بشكلٍ فوضويّ، إلى الجرح الذي أصابه الخنجر بنظراتٍ قلقة.
شعرَ كاليد بنظرتها، فنقرَ لسانه وقال:
“افحصي شوريل. أليس هذا وقت سداد دينكِ؟”
“لكن جرحكَ، سموكَ…”
“سأتعامل مع هذا الرجل أوّلًا، ثمّ أفحص الجرح.”
“ذلكَ الرّجل لا يشكّل خطرًا. الخنجر الذي رمى به كانَ محاولته الأخيرة.”
نظرَ كاليد إلى إيرديا دونَ قصد عند سماع كلماتها وهي تتذمّر.
أن يُشتَّت انتباهه بوجود عدوّ أمامه كان خطأً، لكن إذا كانت كلمات إيرديا صحيحة، فليسَ هناك تهاون.
“محاولته الأخيرة؟”
“نعم.”
نظرَ كاليد إلى سيرو مجدّدًا بينما أومأت إيرديا بحذر.
كان سيرو يقف بنفسِ الوضعيّة الهادئة التي قابلها بها أوّلًا.
لم يُظهر أيّ نيّـةٍ للهروب أو الهجوم.
رفعَ كاليد حاجبيه بدهشة، غير قادرٍ على فهم الموقف.
التعليقات لهذا الفصل " 49"