4
* * *
استغرق الأمر نصف عام كامل حتى خرجت من المستشفى.
كنتُ مستلقية بدون وعي لمدّة عام، وكان العلاج قد اكتمل بالفعل. الأشهر السّتة التالية كانت مخصصة لإعادة التأهيل من أجل المشي مجددًا.
“إذا التزمتِ بإعادة التأهيل بشكل جيد، فلن تواجهي مشاكلَ في الحياة اليومية. لكن احذري، لأن الألم قد يعود إذا أجهدتِ نفسك.”
قال الطبيب إنني سأكون بخير طالما لم أجهد نفسي.
لم يكن هناك عائق في المشي. كنتُ أشعر بالأسف لعدم قدرتي على الركض، لكنني كنت ممتنّة لمجرد أنني لم أعد أعرج.
أنهيت الفحص الأخير و أكملتُ إجراءات الخروج من المستشفى بسلام.
عندما خرجت من المستشفى، كانت أشعة الشمس الحارقة تحرق رأسي.
من المفارقة أن الموسم الذي أقيم فيه حفل الزفاف في ذلك العالم كان أوائل الربيع، وكذلك الوقت الذي فتحت فيه عينيّ هنا كان الربيع.
بينما كنتُ أركز على إعادة التأهيل، مرّت الفصول بسرعة، و كانَ الآن أواخر الصيف.
لم تكن إعادة التأهيل سهلةً على الإطلاق. كانت عودتي إلى جسدي الأصلي صدمة كبيرة بحد ذاتها، ممّا جعل كل يوم مرهقًا.
لكنني لم أستطع الاستسلام لليأس إلى الأبد، فحرّكت جسدي قدر الإمكان و كرّست نفسي لإعادة التأهيل.
كان كلّ يوم بمثابة جحيم.
ما كان أصعب من جسد لا يتحرك كما أريد هو أن كلّ ما تركته في ذلك العالم كان يظهر في أحلامي كل ليلة، و يعيد إليّ اليأس.
ومع ذلك، كان السبب الوحيد الذي جعلني أصمد وأستمرّ هو رغبتي في العودة إلى “ذلك العالم” بأي ثمن.
عدت إلى منزل ظل فارغًا لمدّة عام.
لحسن الحظ، كانت مدّة العقد لا تزال سارية، فكان المنزل كما هو.
عندما واجهت الغبار المتراكم في كل مكان داخل المنزل، اجتاحني الواقع الذي نسيته كموجة عاتية.
منزل مظلم لا يوجد فيه أحد ليستقبلني.
الفقر ينخر الأحلام و الطموحات تدريجيًا. كان دائمًا ظلي الملازم، و سحقَ حياتي بثقله أكثر من أي شيء آخر.
مَن قال إنّ العيش في كفاح لا بأس به كان يكذب.
كنتُ أتحمّل فقط لأنني كنت أؤمن أن الجميع يعيشون حياة مماثلة و يتحمّلونها.
حياتي كانت وحيدة، بلا عائلة أو أصدقاء. لذا، عندما صدمتني الشاحنة، فكّرت حتى أن ذلك ربما كان للأفضل.
كنتُ أعلم أنه لا يوجد أحد سيحزن عليّ.
بعد أن ودّعت العالم، عندما فتحت عينيّ مجددًا، كنت في جسد ليفيا أرفين. بصراحة… كنت سعيدة قليلاً.
كانت علاقاتها فوضوية، لكن على الأقل، كان لديها أقارب بالدم.
حتّى لو كانا يتعاملان كأعداء، كان لديها أخ أصغر. و حتّى لو كانت علاقة عدائية، كان لديها خطيب.
قلق المال، الذي سحقني طوال حياتي، لم يكن حتى ظلاً بالنسبة لليفيا.
كانت… مثالية. كانت تملك بالفعل كلّ ما تمنيته طوال حياتي.
“إذا عدت إلى جسدي… فهل هذا يعني أن تلكَ الفتاة عادت أيضًا إلى مكانها في ذلك العالم؟”
لم أكن متأكّدة، لكن ربّما…
جلست على طاولة صغيرة بجانب السرير وفتحت دفتر الملاحظات الذي كنت أكتب فيه باستمرار حتى في المستشفى.
كانَ مليئًا بالخربشات المليئة بالتخمينات والتخيلات.
“لابد أنها استيقظت. ذلك الشعور الذي شعرت به آنذاك… كأنه…”
كان شعورًا كأنني طُردت بعنف.
كأنَّ شخصًا ما دفعني بقوة. عندما حاولت المالكة الأصلية استعادة مكانها، تم طرد الروح التي استعارت جسدها مؤقتًا.
أمسكت القلم بقوة مجددًا.
عندما أفكر في الأمر، فإنّ ذلك كان منطقيًا.
لم أكن ليفيا أرفين.
لذا، كان من الطبيعي أن أترك المكان لها، لكنني لم أستطع التخلي بسهولة عن الروابط التي كونتها هناك، لأنها كانت ملكي.
على الرغم من أنني عشت تلك الأوقات في جسد شخص آخر، كانت مشاعري حقيقية.
“لا أنوي سرقة أيّ شيء. أريد فقط أن أودّعه للمرة الأخيرة…”
عدت دون أن أتمكن من وداعه. وجهه، و هو يمدّ يده إليّ بلهفة، كانَ يطاردني كلّ ليلة.
كنت أشتاق إليه بشدة، لدرجة أنني لا أستطيع النوم.
“…لابد أن هناك طريقة.”
مهما بدت هذه الأحداث غير واقعية، لم تكن حلمًا أبدًا.
نظرت إلى الخاتم الذي يلمع بلطف على إصبعي.
كان الخاتم الذي وضعه كاليد في يدي مع القسم في الكاتدرائية المملوءة بضوء الربيع.
كان هذا الخاتم يثبت أن تلك الأيام لم تكن حلمًا.
الخاتم الذي لم أتمكن من منحه لا يزال في جيبي.
هذا ليس حلمًا أبدًا.
“في ذلك اليوم، كنتُ عائدة إلى المنزل بعد انتهاء عملي المؤقت. كان الطريق…”
سجّلت كلّ ما أتذكره عن يوم الحادث: الطقس، الوقت، حالة الطريق، كلّ شيء بالتفصيل.
* * *
بعد خروجي من المستشفى، انغمست في هذا الأمر بهوس.
زرت موقع الحادث مرات لا تحصى، و قرأت كلّ الكتب ذات الصلة.
مرّ الصيف، حيث كنتُ أتعرق بمجرد الوقوف، وتلا ذلك الخريف الملون بأوراق الشجر المتعددة الألوان بسرعة.
ثم مرّ الشتاء المغطى بالثلج الأبيض.
بعد نصف عام آخر من خروجي من المستشفى، كان الغبار لا يزال متراكمًا في المنزل.
تطاير الغبار تحت ركبتيّ المنهارة. عضضت شفتيّ، وحاولت التقاط أنفاسي.
“لماذا…”
قطرة—قطرة—
سقطت الدّموع التي كنت أكبحها واحدة تلو الأخرى على الأرض.
كانت ركبتاي الجاثيتان تؤلمانني، لكن ذلك لم يكن مهمًا.
“لماذا… بحق السماء، لماذا؟”
يواجه الجميع اليأس مرّةً واحدة على الأقل في حياتهم.
يشعرون بالعجز أمام الأشياء التي لا تنجح مهما حاولوا.
كلما كانت الرغبة أقوى، كلما انزلقت الأمور من بين أصابعهم.
كانت رغبتي في رؤية كاليد مجددًا هي بالضبط تلك الأمور.
“لا… لا أريد. آه، هيك…”
هنا، إذا تحدثت عن التجسد، سيعتقدون أنني مجنونة.
على الرغم من أنّها ليست كذبة، كانت تلك الذكريات الواضحة جدًا تجعلني أتساءل عما إذا كانت حقًا ليست حلمًا، أو إذا كنتُ أفقد عقلي.
في كلّ مرة، كنت أنظر إلى الخاتم على إصبعي وأتمسّك بنفسي.
لم أستطع الاستسلام. لا، لم أكن قادرة على الاستسلام على الإطلاق.
كل شيء كان جديدًا.
أن أحب، و أن أُحَب بهذا القدر من العطاء.
“آه… أغ، أغ… آه…”
تسرب أنين يائس من بين شفتيّ.
أردت رؤيته، ولو لمرة واحدة فقط.
ماذا يجب أن أفعل؟ هل يلعب الحاكم مزحة معي؟
بعد أوقات هادئة كالنسيم، كان هناك دائمًا عاصفة.
“آآه—!”
حتّه عندما صرخت بنحيب، كانَ الصمت هو الرد الوحيد.
أدار العالم ظهره بهدوء، وكانَ النّسيم البارد هو الجواب الوحيد الذي تسلل إليّ.
* * *
التقيت بكاليد لأوّل مرّة بعد حوالي شهر من استيقاظي في جسد ليفيا أرفين.
على الرغم من تعرضي لحادث عربة كبير، كان جسدي يتعافى بسرعة مذهلة.
قال الجميع إن ذلك بفضل “القوّة المقدسة” التي وُلدت بها.
كانت ليفيا أرفين الوحيدة في إمبراطورية إيفيرنيا التي تمتلك القوة المقدسة.
كانت مختلفة عن القوة المقدسة التي يستخدمها الكهنة، و كانت تُعرف بنعمة مباشرة أو بركة من الحاكم بيسيا.
أولئك الذين يمتلكون القوة المقدسة لا يتعافون من الجروح بسرعة غير طبيعية فحسب، بل يمكنهم أيضًا شفاء الآخرين.
على عكس القوة العادية، كانت القدرة على الشفاء التي تمتلكها القوة المقدسة قوة مطلقة خاصة بليفيا.
لكن السبب الحقيقي الذي جعلها مميزة كان شيئًا آخر.
كان ذلك “التنبؤ”.
في الروايات، قد يُفسر ذلك كـ”اوراكل” يتم تفسيره، لكن في هذا العالم، كان صاحب القوة المقدسة يمتلك القدرة على رؤية المستقبل مباشرة دون تفسير.
لم يكن بالإمكان استخدامه كثيرًا، و لم يظهر حسب رغبتهم، لكن تلك القوة كانت تظهر دائمًا مع أزمات الإمبراطورية.
كما لو أنّ الحاكم بيسيا نفسه يحمي الإمبراطورية.
لهذا، كان لصاحب القوة المقدسة سلطة فعلية أكبر من الإمبراطور.
مع كون عائلة أرفين من نسل مباشر للإمبراطور الأول، كانت مكانة ليفيا لا يمكن التعدي عليها.
حتّى لو كان شخصًا يُحترم أكثر من الإمبراطور، لو كان شخصًا صالحًا، لما كرهها ولي العهد.
لكن ليفيا أرفين كانت شخصية شرسة و قاسية.
كونَ صاحب القوّة المقدسة، الذي جاء بعد مئات السنين، لم يكن بركة بل ليفيا نفسها، كان بمثابة نكبة على الإمبراطورية بأكملها.
“سمعت أنكِ تعرضتٓ لحادث، لكن يبدو من مظهركِ أنّ ذلك كذبة أخرى.”
“…ماذا؟”
“ما الذي تحاولين كسبه هذه المرة بهذا التمثيل المقزز؟”
“…..”
“مهما كان، لن يسير الأمى حسبَ رغبتك.”
كانت عيناه مليئتين بالكراهية، وصوته مشبع بالغضب.
لم أكن أعرف شيئًا. كلّ ما فعلته هو الخروج لاستقباله بأدب لأنني سمعت أنّ ولي العهد قادم.
كان ازدراؤه، الذي انهال عليّ كأنه هالة متألقة، قويًا لدرجة أذهلتني.
“…لا أفهم ما تقصده، سموك. هل ارتكبت خطأً ما؟”
“…ماذا؟”
كان لا يزال ينظر إلي بعيون مليئة بالكراهية.
لم يخفِ كراهيته العميقة لليفيا، فلم أستطع سوى الرد بإحراج.
خطيب؟ كيف يمكن أن يصبحا زوجين بعلاقة كهذه؟
لم أستطع فهم أنّ علاقة مثل هذه لا تزال تعتبر خطوبة.
و مع ردّة فعلي تلك، عبس كاليد أيضًا.
“قيل إن ابنة الدّوق فقدت ذاكرتها… لا أصدّق ذلك. لا أعرف ما الشيء الشّرير الآخر الذي تخططين له، لكنني لن أتركَ الأمر يمر هذه المرة أيضًا.”
نظر إليّ كاليد بعيون مليئة بالشكوك.
كانَ من المدهش أنّه جاء من القصر ليقول هذا الكلام فقط.
علمت لاحقًا أنه جاءَ لأنه لم يصدق أن ليفيا فقدت ذاكرتها و أصبحت هادئة.
لم تكن ذكرى جيدة، لكن اسم ولي العهد كاليد أصبح محفورًا في داخلي منذ ذلك اليوم.
التعليقات لهذا الفصل " 4"