كانَ الماركيز فالاندي، الذي فقدَ صديقته فجأةً، يشتاق إليّ أيضًا، وقد أبقى القصر كما كان! قبل خمس سنوات.
إذا كان حتّى الماركيز على هذه الحال، فمن المؤكّد أنّه لا يمكن ألّا يعرف من هو “هو” الذي تحدّثتُ عنه، لكنّه لم يجب على الفور كما اعتاد.
تذكّرتُ دون قصد كلام رجل عجوز فقير:
“هاه؟ سموّ وليّ العهد؟ حسنًا… لم يظهر علنًا منذ ذلك الحادث قبلَ خمس سنوات.”
ضيّقتُ حاجبيّ تلقائيًا. نظر إليّ الماركيز وهو يضع يده برفق على كتفي وقال:
“إنّه بصحّة جيّدة. لكن الآن… يا آنسة، أقصد، كح! يجب أن ترتاحي جيدًا أوّلًا. تبدين حقًا لستِ على ما يرام.”
شعرتُ بالتساؤل “هل أبدو بهذا السوء؟” عند سماع كلامهِ المليء بالقلق، فتجعّد جبيني.
كان هناكَ شيءٌ مقلقٌ في سلوك الماركيز، لكنّ فكرة أنّ كاليد لم يعش منعزلًا بسبب المرض خلال السّنوات الخمس طمأنتني قليلًا.
“إن كان بصحّة جيّدة و يعيش جيدًا… فهذا حقًا رائع.”
ظهرَ تعبير غامض على وجه الماركيز مرّةً أخرى، لكنّه لم يقل شيئًا آخر.
كما قال، كان الإرهاق المتراكم لأكثر من عشرة أيّام قد بلغ حده، فتبعتُه دون اعتراض.
* * *
قادتني نعومة الفراش، التي لا تُقارن بالنزل الرخيص، إلى نومٍ عميق.
بعد انتقالي عبر الأبعاد، قضيتُ عشرة أيّام متوترة في الشّوارع دون راحة.
كانت تلك الأيّام، المليئة بالقلق و التوتر، بعيدةً عن الهدوء. حتّى الشعور بغرابة الأماكن المألوفة تسبّب لي بإرهاق عقليّ كبير.
خلال تلكَ العشرة أيّام التي تجوّلتُ فيها، أدركتُ أنّ ليفيا أرفين لا تزال شخصيّة نبيلة محبوبة بلا قيد.
أينما ذهبتُ، كنتُ أسمع كلمات تمجيد لها مرّةً واحدة على الأقل.
كنتُ أسمع هذه الكلمات كثيرًا عندما كنتُ أعيش كليفيا أرفين، لكن سماعها بجسدٍ آخر جعلني أشعر بشعور لا يمكن تفسيره.
كأنّني طفلة طائشة شعرتُ أنّ شيئًا خاصًا بي قد سُلب.
في كلّ مرّة، كنتُ أصفع خدّيّ و أوبّخ نفسي لأستفيق.
خاصّتي؟ إنّه بالكامل مِلك ليفيا أرفين، وليس لي، و أنا أعلمُ ذلك جيدًا.
حتّى في حالة الضبابيّة بعد الاستيقاظ من النوم، كانت هذه الأفكار تتسلّل عادةً. خوفًا من أن أطمع يومًا ما.
نهضتُ ببطء و ارتديتُ الملابسَ التي أعدّتها الخادمة.
بعد غسل وجهي ودخول غرفة المعيشة، وجدتُ وجبة الإفطار مرتّبة بعناية، لا أعلم متى أُعدّت.
كان الماركيز فالاندي يعتني بي بطبيعيّة كمن أعدّ كلّ شيء مسبقًا.
حتّى أنّه حرص على ألّا أواجه الآخرين قدر الإمكان، بما أنّني لا أملك هويّةً رسميّة بعد.
“أنا لا أستحقّ كلّ هذا العطف…”
كنتُ ممتنّة لدرجةِ أنّ عينيّ أصبحتا دافئتين.
كنتُ واثقة بأنّني سأتلقّى مساعدة، لكنّني لم أتوقّع هذا القدر من العناية، فشعرتُ بألمٍ في صدري.
شعرتُ بالخجل الآن لأنّني فعلتُ شيئًا وقحًا، و ارتفعت الحرارة إلى وجهي.
لكنّني كنتُ بحاجة ماسّة إليه، و لو عاد الزمن، لكنتُ بحثتُ عن الماركيز فالاندي مجدّدًا.
من جهة أخرى، شعرتُ أنّه من حسن الحظّ أنّ الماركيز اكتشفَ أنّني لستُ ليفيا الحقيقيّة. في ذلك الوقت، قضيتُ ليالٍ في رعب و قلق شديد خوفًا من كشف هويّتي.
لكن الآن، يبدو كلّ ذلكَ ساخرًا بطريقة ما.
كأنّ شخصًا يعلم كلّ شيء قد رتّب ليعرفني الماركيز بهذا الشكل.
‘هل حقًا هذا من فعلِ بيسيا…؟’
كلّ ذلكَ مجرّد تخمينات، لكن إنْ كانَ كلّ شيء بإرادة بيسيا… فماذا يريد منّي بالضبط؟
أنا لستُ ليفيا المختارة من الحاكم بعد الآن.
ابتسمتُ بمرارة و نفضتُ تلكَ الأفكار.
عندما انتهيتُ من الطعام، ظهَر الماركيز فالاندي مع طرقة على الباب.
“هل كنتِ تأكلين؟”
“لا، انتهيت.”
“ماذا؟ لم تأكلي شيئًا تقريبًا.”
“أكلتُ حتّى الشبع. حقًا.”
لكنّه عبس علنًا.
“لا أعلم إن كان يمكنني طرح هذا السؤال…”
“يمكنكَ السؤال براحة.”
“هل معدة البشر في عالمكِ… بحجم النمل؟”
“ماذا؟ بالطّبع لا، نحن بشر مثلكم.”
“همم…”
كانَ السؤال “إذن لماذا تأكلين قليلًا؟” مكتوبًا على وجهه.
أكلتُ ملعقة من البودينغ الحلو و ابتسمتُ بإحراج.
“جسدي الأصليّ ليس بصحّةٍ جيّدة… لا أزال أجد صعوبة في هضم هذا الطعام.”
“آه…”
فهمَ الماركيز على الفور، وتدلى حاجباه.
ثمّ نظر إليّ خلسةً و تنهّدَ بهدوء.
“إذن… كنتِ تعانين من سوء الصحّة. ظننتُ أنّ الناس في عالمكِ هكذا…”
“قلتُ لكَ إنّنا بشر مثلكم.”
ضحكتُ دونَ قصد، فقد بدا كأنّه يتعامل مع مخلوق من عالم آخر.
كنتُ أفهمُ ردّ فعله، لأنّ وجود كائن من بعد آخر أمر يصعب تصديقه. علاوة على ذلك، في ذاكرة الماركيز، أنا لا زلتُ بمظهر ليفيا أرفين.
بينما كنتُ أعبث بالبودينغ الناعم، سعل الماركيز بحذرٍ وسأل:
“هل يمكنكِ… شرحُ ما حدث؟”
بعد يوم من الراحة، حانَ وقت الحديث الجدّي.
كنتُ قد رتّبتُ أفكاري منذ استيقظتُ حتّى انتهيتُ من الطعام، ففتحتُ فمي على الفور.
“من أين أبدأ؟”
بوجهٍ هادئ قدر الإمكان، سردتُ بإيجاز قصّتي منذ استيقظتُ على سرير المرض في ذلك العالم حتّى انتقالي عبر الأبعاد.
لم أتحدّث عن مدى الألم الذي عانيته أو مشاعري.
حتّى دون أن أقول، بدا أنّ الماركيز فهم، فاستمع بصمتٍ بوجهٍ هادئ.
“…وعندما فتحتُ عينيّ، كنتُ هنا.”
“لا أجرؤ على القول إنّكِ عانيتِ…”
“لا أعلم إن كان الحاكم قد رحمني واستجاب لأمنيتي، أم أنّها مجرّد نزوة …”
حافظَ الماركيز فالاندي على صمته بهدوء.
“الشيء الوحيد الذي أنا متأكّدة منه… هو تدخّل الحاكم.”
وإلّا، لما استطعتُ العودة إلى هذا العالم مرّتين، مرّة بروحي و مرّة بجسدي.
“بيسيا دائمًا يرعانا… إنّها معجزة.”
كمؤمن متديّن، أخفضَ الماركيز رأسه و جمع يديه.
كانت إمبراطوريّة إفيرنيا أكثر الأراضي تبجيلًا لبيسيا، لذا كان ردّ فعله متوقّعًا.
لكن بالنسبة لي، التي أفرغتُ كلّ استيائي على الحاكم، بسببِ ردّهِ شعرتُ بشيءٍ من الإحراج.
“هذه قصّتي… لا شيء مميّز، أليس كذلك؟”
كلمة “لا شيء مميّز” لم تكن كافية لوصف الألم، لكن الآن، كانتْ قصّة هذا العالم بعد غيابي أكثر إلحاحًا بالنسبة لي.
كنتُ بحاجة إلى معلوماتٍ حقيقيّة، وليس إشاعات غامضة مِن الشّوارع.
“الآن… هل يمكنكَ أن تخبرني؟”
أدركتُ مبكرًا أنّ الماركيز كان يمنحني وقتًا.
مرّت خمس سنواتٍ هنا، ولا بدّ أنّ أشياء كثيرة حدثت.
ربّما أحداثٌ صادمة بما يكفي لتصدمني.
الخمس سنوات هي مدّة طويلة .
هيّأتُ نفسي، و وضعتُ الشوكةَ التي كنتُ أعبث بها في البودينغ بهدوء.
بلّلتُ شفتيّ الجافتين دونَ سبب ونظرتُ إلى الماركيز، مشيرةً إلى أنّني جاهزة و أنّه يمكنه الحديث.
كما لو كان! ينذر بحديثٍ طويل، شرب الماركيز من كأس الماءِ ليُبلّلَ حلقه.
بوجه معقّد، و مع تنهيدةٍ قصيرة، بدأ الماركيز فالاندي يروي قصّة السنوات الخمس الماضية.
“استيقظت ليفيا أرفين… بعد أسبوع تقريبًا من ذلك.”
ضيّق الماركيز حاجبيه بعمقٍ أكبر و تابع
“بالطبع، لم تكن أنتِ التي أعرفها.”
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"