* * *
انتهت عمليّة تفتيش قصر أرفين مع بزوغ الفجر.
“يبدو أنّهم لم يختبئوا في القصر. يجبُ أن نسرَعَ في تفتيش راجان بأكملها لمنعِ المجرمة من الهروب.”
أومأت ليفيا برأسها بابتسامةٍ خفيفة ردًا على تقرير بيرين هاردور.
كان هذا كافيًا لكسبِ الوقت.
من المؤكّد أنّ إدموند قد نظّـمَ الأمور في القصر الإمبراطوريّ، وقد أُخفيت جميعَ الأمور المتعلّقة بإنتاج آدم بسريّة تامّة دونَ إثارة الشّكوك.
‘تلقّيتُ تقريرًا بأنّه لم يُعثر على أيّ أشخاص مشبوهين بالقربِ من البوابة الثامنة…’
الآن، لم يعد هناكَ حاجةٌ لمنعِ تفتيش فرقة الفرسان المقدّسة.
عندما اكتشفوا أنّ جينا ليست في المكان المُعدّ، ظنّوا أنّها هربت بالفعل، لكن يبدو أنّ المجموعة كانت لا تزال تتجوّل في الأنفاق تحتَ الأرض.
حتّى لو تمّ إنقاذ جينا و هربت، فسيكونُ ذلكَ أفضل. ستقوم فرقة الفرسان المقدّسة بملاحقة من أخفوها بنفسها.
كانت دقّتهم المزعجة عادةً مفيدةً هذه المرّة.
“أرجو أن تفتّشوا راجان بأكملها بعناية. لكي يتمّ الكشف عن العقل المدبّر وراء المجرمة التي حاول
ت تشويه إرادة الحاكم و تزييف دورها كقديسة …”
بينما كانت تتظاهر بالتحيّة المهذّبة وتهـمُّ بإرسال فرقة الفرسان المقدّسة بعيدًا، حدثَ ذلك.
ضربَ ألـمٌ مفاجئ رأس ليفيا كالصاعقة.
“…آه!”
انقطعَ نفسها تمامًا.
اضطربت رؤيتها و اضطربت أحشاؤها بعنف. سدّتْ فمها بسرعة و كبحت الغثيان بصعوبة.
اجتاحها ألم لا يمكن وصفه، ينبع من أعماقِ جسدها بعنف.
بسببِ الألم الذي لم تعشه من قبل قَـطّ، أصيبت ليفيا بالذّعر في لحظة.
“هل أنتِ بخير؟”
لم تستطع ليفيا تحديدَ مصدرُ صوت بيرين هاردور. كانَ العالم ينهارُ رأسًا على عقب، ولم تسمع في أذنيها سوى طنين.
“ما هذا… ما الذي يحدث؟”
جلستْ ليفيا على الأرض بلا قوّة، ماسكة فمها.
كان جسدها يرتجف دونَ سيطرة، ولم يتحرّك وفقَ إرادتها. أمسكت ذراعيها و تنفّست بصعوبة.
في تلكَ اللّحظة، لم يكن لديها متّسع للاهتمام بمظهرها.
عانقت ذراعيها وأمسكت شفتيها بقوّة لكبحِ أنينها.
“الأميرة أرفين، هل أنتِ بخير؟”
“…ما هذا؟ ما الذي يحدث بحقّ…؟”
شحبَ وجه ليفيا في لحظة. مرّ شعور بالقلق و الخوف لم تشعر به من قبل.
كانت القوّة المقدّسة، التي كانت تملأ جسدها، تتسرّب بعيدًا. كانت تشعر كما لو أنّ الماء الذي ملأ زجاجة يُسكب، تاركًا إيّاها فارغة.
“…القائد!”
في تلكَ اللّحظة، بدأت فرقة فرسان لومنتيا، التي كانت واقفة كالتماثيل، تتحرّك فجأةً.
توقّف بيرين هاردور، الذي كان يحاول مساعدتها، ونظر إلى الاتّجاه الذي أشارت إليه الفرقة.
رفعت ليفيا رأسها ببطء تابعةً نظراتهم.
وفي تلكَ اللّحظة—
ارتفعَ عمود من الضوء الأبيض المبهر، ممزّقًا السماء.
قشعريرةٌ مخيفة جعلت شعرها يقف. حتّى من بعيد، كان من الواضح أنّه شعور لا يمكن وصفه إلا بـ”القداسة”.
لم تكن ليفيا وحدها مَنْ أدركت هذا الضوء؛ العديد من الحاضرين تعرّفوا عليه.
“…نعمة الحاكم…”
كونهم فرقة لومنتيا، أعظم فرقة فرسان في المعبد، أثبتت كلمات بيرين هاردور الهامسة ذلك.
كان الضوء بعيدًا، لكن طاقته السّاحقة بدت وكأنّها قريبة جدًا.
ركعَ أعضاء الفرقة على ركبةٍ واحدة في وقتٍ واحد.
“نور بيسيا سيحمينا.”
“نور بيسيا…”
الفرقة، التي لم تخلع خوذاتها أمامَ أحد، خفضت رؤوسها هذه المرّة و صلّت بصدق.
كانت قوّة مقدّسة ساحقة لدرجةٌ تجعل الركوع أمرًا طبيعيًا.
كانت ليفيا تعلم أكثرَ من أيّ شخص. كان ذلكَ شيئًا لا يمكن أن يصدر إلا عن سيّدة القوّة المقدّسة.
كان هذا مستحيلاً.
والأهم، أنّه لا يجبُ أن يكون.
في تلكَ اللّحظة، مرّت كلمات في ذهن ليفيا—
“لذا ستختبرين ذلك أيضًا. التّجربة الأولى التي ستكونُ فيها نبوءة سيّدة القوّة المقدّسة خاطئة.”
التّحذير السخيف الذي تركته إيرديا.
تلكَ النّظرة الواثقة على الرّغمِ من عدم امتلاكها لشيء.
عضّت ليفيا على أسنانها، محاولة كبح اضطرابها الداخليّ.
‘إذن، كنتِ واثقة للغاية بسببٌ هذا… هذا هو السبب؟’
حافظت على تعبير هادئ خارجيًا، لكنّها كانت ترتجف من الدّاخل. الألم الذي اختبرته لأوّلِ مرّة، و تسرّبَ القوّة المقدّسة جعـلَ عقلها مشوّشًا.
لكنّها لم تستطع الانهيار. وضعت ليفيا قوّة في ساقيها ونهضت ببطء.
اقتربت من بيرين هاردور، الذي كان يحدّق في عمود الضوء بدهشة، و سألَ بهدوء دونَ أن يرفع عينيه:
“هل يمكن أن يكون هناك اثنان من أسياد القوّة المقدّسة؟”
كان ذلكَ السّؤال الذي أرادت ليفيا الإجابة عنه أكثر من أيّ شيء.
لكن الأهمّ كان كيفيّة تحويل هذا الموقف لصالحها.
“لا يمكننا التكهّن، لكن… ربّما، فكّرتُ فجأة، أنّ الحاكم قد يكون قلقًا بشأنِ كارثةٍ عظيمة قادمة.”
“…كارثة عظيمة؟”
“أنتَ تعلم أنّني أعلنتُ نبوءة قبل أيّام.”
تغيّرت نظرة بيرين هاردور في لحظة. مرّت الشكوك الحادّة في عينيه التي كانت متأثّرة.
“حتّى المعبد اعتبر هذه النبوءة مفاجئة إلى حدٍّ ما. هل هي مرتبطة بهذا الضوء؟”
أغلقت ليفيا شفتيها المرتجفتين بجهد.
لم يكن المعبد قد أرسلَ لومنتيا بدوِ سبب. كانوا يريدون تأكيد شيء متعلّق بالنبوءة.
“لا أستطيع أن أؤكّدَ هذا الارتباط. لكن… ربّما لأنّ الكارثة القادمة كبيرة جدًا بحيث لا يمكنني تحمّلها بقوّتي وحدها، ربّما أضافَ الحاكم نعمة جديدة.”
“كارثةٌ مخيفة إلى هذا الحدّ؟ هناكَ شائعاتٌ عن حرب قادمة.”
“من المؤكّد أنّها ستتسبّب في خسائرَ لم نشهدها من قبل. لهذا السّبب كنتُ بحاجةٍ ماسّة إلى مساعدة المعبد.”
“…..”
نظر بيرين هاردور إلى ليفيا بصمتٍ بوجه متصلب.
ابتسمت ليفيا بابتسامة زائفة تخفي مرارتها، ونظرت إلى السّماء حيث ارتفع الضوء.
كان أحشاؤها تتلوّى بلا توقّف، كما لو أنّها لن تكفي مهما تقيّأت.
كانت القوّة المقدّسة، التي لم تتزعزع أبدًا، تتسرّب كما لو أنّ ثقبًا كبيرًا قد نُحتَ في جسدها.
أمسكت ليفيا يدها بقوّة دونَ أن يلاحظَ أحد وقالت:
“…يجب أن أقابل قداسته بنفسي.”
على عكسِ كلماتها التي بدت مليئة بالعزم، كانت أطراف أصابعها ترتجف بخفّة.
* * *
عندما اختفى الضوء المبهر الذي أعمى العينين، عاد العالم إلى الهدوء.
تدفّقت القوّة المقدّسة عبر يدينا المتشابكتين، وأعادتْ جينا إلى صورتها التي أتذكّرها.
سقطتُ—
“…إيرديا!”
عندما خارتْ قواي و جلستُ تحت السرير، هرعَ كاليد إليّ.
كانت يده التي عانقت كتفيّ قويّة و دافئة، كما لو كانت تقول “الآن كلّ شيءٍ على ما يرام”.
و أثارت رؤية جينا، التي تعافت تمامًا دونَ جرح واحد، شعورًا عميقًا بالرّاحة في قلبي.
“… ستكونُ بخير، أليس كذلك؟”
“ستكون بخير.”
“هل… ساعدتُها؟”
“أكثرَ من اللازم.”
شعرتُ وكأنّني سكبتُ كلّ شيء.
ومع ذلك، كان جسدي ممتلئًا. كان شعورًا مختلفًا تمامًا عن الشّعور السّابق حيث كانت القوّة تتناقص مع الاستخدام.
في السّابق، كنتُ أستطيع التحكّم بالقوّة المقدّسة ضمنَ حدود معيّنة فقط، لكن الآن لم أشعر بأيّ حدود.
‘بالفعل، في ذلكَ الوقت، كنتُ أستخدم القوّة المقدّسة المتبقّية في جسد ليفيا.’
الآن فقط أدركتُ ما يعنيه استخدام “قوّتي المقدّسة” الحقيقيّة.
كانت القوّة المقدّسة التي تتدفّق في جسدي تهدأ بهدوء كالماء الدافئ، و تعود تدريجيًا إلى مكانها.
“آه…”
مع أنين خفيف، فتحتْ جينا عينيها ببطء.
بدأت الحياة تعود إلى وجهها الشّاحب، وأصبحت نظرتها، التي كانت تائهة، واضحة.
نظرت إليّ عيناها الواضحتان مباشرةً. بدت لا تزال مشوّشة، لكن كانت هناكَ حياة واضحة فيهما.
إنّها على قيدِ الحياة.
حقًا، هي لم تمت.
لم أعد أستطيع كبحَ مشاعري المتدفّقة، فقمتُ فجأة و عانقتُ جينا بقوّة.
تدفّقتْ الدّموع على خدّيّ. ظننتُ أنّني أفرغتُ كلّ دموعي، لكنّها استمرّت بالتدفّق دونَ توقّف.
كم تمنّيتُ هذه المعجزة بشدّة.
“أنتِ بخير… آه، لحسن الحظّ حقًا، جينا…”
“…الآنسة.”
بدت جينا لا تزالُ مشوّشة، لكنّها تقبّلت عناقي بسعادة.
فقط عندما شعرتُ بصدقِ قوّة معانقتها، استطعتُ أن أطمئنّ أخيرًا.
“حقًا… لحسن الحظّ.”
في نهاية موجة الرّاحة، اجتاحني الإرهاق كموجة عاتية. في رؤيتي الضبابيّة، شعرتُ بنظرة جينا و ذراعيّ كاليد و هو يعانقني ببطء بشكلٍ خافت.
لا بأس. الآن كلّ شيءٍ على ما يرام حقًا.
لأنّ الأشخاص الذينَ أحبّهم بجانبي.
شعورٌ عميق بالرّاحة جعلَ جسدي يرتخي بثقل.
تمّت الإستجابة لأمنيتي.
الآن، أستطيعُ أن أشعـرَ بوضوح.
نعمة بيسيا تتّجه نحوي.
لن أخسرَ بعد الآن.
ستعرفينَ ذلك أيضًا، يا ليفيا.
الآن… حانَ دوركِ لتتألّـمي.
التعليقات لهذا الفصل " 115"
لاااااا وقفنا بمكان حماااس مررره