كانَ عامًا واحدًا بالنّسبة لي، لكن فِي هذا العالم، مرّت خمسُ سنوات. ومع ذلك، كانَ المشهد كما هو في ذاكرتي، لم يتغيّر قليلًا، ممّا جعلني أشعرُ بشعورٍ غريب.
كأنّ الزمن توقّف، كلّ شيءٍ هنا كما كانَ من قبل.
توقّفتُ عن السّير دونَ وعي و نظرتُ إلى الحديقة.
لولا نظرة الخادم التي تقول “لماذا لا تتبعني؟”، لكنتُ بقيتُ أنظر إلى الحديقة و غرقتُ في الحنين.
‘كان من هواياته تغيير أجواء الحديقة كلّ عام من أجلِ سيريل… فلماذا بقيت كما هي؟’
كانَ الماركيز فالاندي معروفًا بحبّه الشّديد لزوجته، و كان يعشقُ ابنته، التي وُلدت بعد وفاة زوجته، أكثر من حياته.
بعد أن بِيعتْ سيريل كعبدةٍ و عادت بأعجوبة، ازداد الأمر سوءًا، وكانَ تغيير الحديقة سنويًا أحد مظاهره.
‘…ما الذي حدث؟’
عودة ليفي أرفين الحقيقية كانت بحدّ ذاتها حدثًا كبيرًا بالنسبة للماركيز، فشعرتُ بالقلق دون سبب.
“انتظري هنا قليلًا.”
أومأتُ برأسي لكلام الخادم و جلستُ بهدوءٍ على الأريكة.
بسبب جلوسي القرفصاء لفترة طويلة، شعرتُ بألم في ساقيّ.
حينها، فكّرتُ أنّه لحسنِ الحظّ أنّني لم أتخلّ عن إعادة التأهيل و واصلتُ بجدّ. لو تجاهلتُ ذلك، لكان المشيُ الآن صعبًا.
ضربتُ ساقيّ المتألّمتين ونظرتُ مجدّدًا إلى غرفة الاستقبال التي لم تتغيّر.
بما أنّني كنتُ أزور هذا المكان كثيرًا بسببِ سيريل، لم تكن غرفة الاستقبال غريبةً بالنسبة لي.
اللّوحة على الحائط، الزخارف على الطاولة الجانبيّة، الثريا الفاخرة التي أثارتْ إعجاب الضيوف.
وأكثر من ذلك، السّيف المزخرف بالجواهر النّفيسة فوق المدفأة، كلّ شيء كما هو، والشّيء الوحيد الذي تغيّر هو الأريكة التي أجلسُ عليها.
حقًا، كأنّ الزمن توقّفَ هنا، وكأنّ الخمس سنوات لم تمرّ أبدًا.
‘إذن، ربّما…’
اقتربتُ بحذرٍ من المدفأة.
تحت السيف، كانت الخدوش الناتجة عن شيء حادّ لا تزال موجودة.
لمستُ تلكَ الخدوش بأطراف أصابعي.
‘حتّى هذه بقيت كما هي.’
القصر الذي لم يتغيّر، وألدين الذي غيّرَ سلوكه بسرعة عند سماع كلمة الصّديقة الوحيدة. كلّ شيء كان وفق خطتي، لكنّ شعورًا غريبًا راودني.
نقرة
فُتح باب غرفة الاستقبال.
التفتُ برأسي تلقائيًا عندَ سماعِ صوت الباب.
“…..”
“…..”
شعرٌ بنيّ فاتح مشدود بعناية، عينان لطيفتان، وشارب مميّز كعلامة تجاريّة.
مثلما بقي القصرُ كما هو، لم يتغيّر هو أيضًا.
دخلَ وهو يبدو متوترًا، لكنّه توقّف فجأةً عندما رآني.
تقابلت أعيننا.
كنتُ أعلم أنّ عليّ تحيته، لكنّ صوتي لم يخرج بشكلٍ غريب.
كان هو أيضًا متجمّدًا بملامحَ مندهشة، ثمّ بدأ يضيّق حاجبيه ببطء.
أعرف هذا التعبير.
إنّه التّعبير الذي كانَ يظهر عندما يكون متأكّدًا لكنّه يفتقر إلى الدليل.
رفعتُ يدي التي كانت تتلمّس الخدوش و لوّحتُ له ببطء.
على عكس خطتي لتحيته بابتسامة مشرقة، كانت زاوية فمي ترتجف.
“مرحبًا، بابل.”
“…..!”
مع تغيّر مظهري الحاليّ، لم أكن لأمنحه اليقين ، فناديته بلقبٍ باستثناء زوجته المتوفاة لم يسمح بأن يناديه أحدٌ غيري.
أردتُ التحيّة بصوتٍ طبيعي، لكنّ كلامي كان مرتجفًا، وصوتي كان بائسًا.
ومع ذلك، يبدو أنّ المعنى وصل. فتحَ عينيه وفمه بدهشة، ثمّ ركض نحوي دون تردّد، كمن حصل على تأكيد لا يقبل الشكّ.
“هل هذا حقيقي؟”
“نعم.”
“حقًا؟ هل أنتِ… تلكَ التي أعرفها؟”
“نعم، بابل. أنا ليفيا التي تتذكّرها.”
أمسكتُ يدي بقوّة. منعتُ صوتي من الارتجاف وثبّتته.
أمسكَ كتفيّ بيديه المرتجفتين، ثمّ سحبهما برعب.
“ما هذا؟ لماذا أصبحتِ نحيفة هكذا؟”
كانت عيناه اللّطيفتان تترقرق بالدموع.
توقّعتُ أنّه سيبكي لأنّه رقيق القلب، لكنّ مواجهة دموعه جعلتني أشعرُ بالحيرة.
“حقًا… ظننتُ أنّني لن أراكِ مجدّدًا.”
و هو يبتلع بكاءه، شعرتُ بحرارةٍ في عينيّ.
شددتُ على ذقني لأبتلع دموعي، و ساندتُ ماركيز فالاندي المتعثّر.
“ظننتُ ذلكَ أيضًا…لكن لحسن الحظّ لم يحدث أليس كذلك؟”
حتّى مع كلامي المربك، جلسَ على الأريكة و بكى لفترة طويلة، تساقطت الدموع و المخاط.
بكى بشدّة لا تليق بسنّه، لكنّني، و أنا أعرف طباعه، انتظرتُ بصمت.
ربتّ على ظهره، و أحضرتُ له مناديل، وهي أمور اعتدتُ عليها.
“كح، احم!”
بعد أن نفث أنفه أخيرًا، هدأ بعد 40 دقيقة من البكاء. ربّما شعر بالحرج، فتجنّب نظراتي بعينيه المتورّمتين.
فهمتُ مشاعره تمامًا، فضحكتُ بخفّة و تظاهرتُ بعدم الملاحظة.
“لقد أظهرتُ منظرًا سيّئًا.”
“لا، كدتُ أبكي معك.”
“لكنّكِ لم تبكي.”
“كنتُ على وشك فعلِ ذلك.”
“لكنّكِ لم تفعلي.”
“هل أبكي الآن إذن؟”
“لا، لا بأس.”
بينما كانَ يتذمّر و يبرز شفتيه، تساءلتُ إن كان حقًا في الأربعينيات.
بفضلِ مظهره الشابّ، لم يبدُ هذا غريبًا، و هذه هي المشكلة إن وجدت.
“لم أتوقّع أن أراكِ مجدّدًا.”
“أنا أيضًا… لم أظنّ أنّني سأراك.”
“ومع ذلك… كنتُ آمل أن نلتقي يومًا ما.”
نظر إليّ ماركيز فالاندي بصوتٍ متشقق وأنا أتفحّص غرفة الاستقبال التي لم تتغيّر.
“حتّى لا تشعري بالغربة إن عدتِ يومًا… تركتُ كلّ شيء كما هو.”
كانَ غريبًا أنّ عائلة الماركيز الغنيّة لم تغيّر شيئًا لخمس سنوات.
علمتُ أنّ السبب كان أنا، فشعرتُ بانقباض في صدري.
“لماذا فعلتَ ذلك؟ ماذا لو لم أعد؟”
“حسنًا، سيريل أرادتْ ذلك أيضًا.”
“سيريل…”
“نعم. كانت تشتاق إليكِ جدًا… أرادتْ الاحتفاظ بالذكريات.”
تذكّرتُ الطفلة الصغيرة التي كانت تعامل ليفيا أرفين، التي جعلتها عبدة، كأخت كبرى.
ربّما بسببِ الصدمة أو آليّة دفاعيّة، فقدتْ الطفلة ذكريات اختطافها.
بالنسبة لسيريل الصغيرة، كانت الثلاث سنوات طويلة و ثقيلة. لذا، كنتُ أذكّرها يوميًا أنّ هذا بيتكِ و مكان آمن.
لم تتذكّر أنّ الماركيز والدها، فكانَ علينا بناء العلاقات من جديد.
ساعدتُ الماركيز لتتكيّف سيريل مع حياتها الجديدة، و سيريل أظهرتْ لي حبًّا وافرًا.
“سمعتُ أنّها كبرتْ كثيرًا. من الرائع أنّها بصحّةٍ جيّدة.”
“إنّها تنمو بسرعة. أمّا أنتِ…”
نظر إليّ بنظرة شفقة.
عالمةً أنّ مظهري بائس، عبثتُ بشعري دون داعٍ.
هذه المرّة، انتقلتُ عبر الأبعاد بجسدي الحقيقي، لا بجسد ليفيا.
شعرتُ بالخجل من مظهري المختلف عن ليفيا.
كلّما تذكّرتُ ليفيا ، شعرتُ أنّ مظهري أكثر بؤسًا.
“أبدو… سيّئة، أليس كذلك؟ هذا هو مظهري الحقيقيّ.”
على الرّغمِ من علمي أنّه لن يخيب أمله، لم أستطع مواجهة عينيه بسببِ مقارنتي بليفيا.
لكن، على نحو غير متوقّع، طرح ماركيز فالاندي سؤالًا لم أتوقّعه.
“…هل تألّمتِ كثيرًا؟”
كانَ في سؤاله “هل تألّمتِ كثيرًا؟” معانٍ كثيرة.
فهمتُ مشاعره بسهولة، لكنّ صوتي علقَ في حلقي ولم أستطع القول إنّني بخير.
عندما لم أقل شيئًا، ابتسمَ بحزن كأنّه يعلم دونَ أن أتحدّث.
تلكَ الابتسامة التي رفع فيها زاوية فمه قليلًا ثمّ سقطت، لم تكن مختلفة عن وجه يكبح الدموع.
“لا يمكن أن تكوني بخير، لقد طرحتُ سؤالًا غبيًا.”
شعرتُ بجفاف في فمي.
عامي الواحد كان خمس سنوات بالنسبة له. كان ذلك العام جحيمًا بالنسبة لي، لكنّه لم يكن وقتًا سهلًا على الماركيز الذي فقد صديقته فجأةً.
نظر إليّ بعينين معقّدتين، ثمّ قال باندهاش:
“ليس هذا وقت الوقوف. يبدو أنّكِ لم ترتاحي جيدًا، فلنؤجّل الحديث إلى الغد و لترتاحي اليوم.”
مرّتْ أيّامٌ لم أتناول فيها طعامًا أو أرتح كما ينبغي بعد انتقالي عبر الأبعاد.
فكّرتُ أنّ مظهري لا يبدو طبيعيًا، فأومأتُ بهدوء.
قبل أن أتبعه، أخرجتُ كلمات كنتُ أكبتها بحذر.
“…بابل.”
“نعم، آنستي.”
“…إنه.”
سكتُّ بصمت.
“هل… هو بخير؟”
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"