1
كانت الشّمس الرّبيعيّة تملأ المكان، لكنّ البرد المتأخّر من الشّتاء لم يزل موجودًا، فكانت نسماتٌ باردة تهبّ في ذلك اليوم.
حتّى هذا البرد المتأخّر لم يتمكّن من ردع الحشود التي ملأت كاتدرائيّة ديفولد، إحدى معالم لاجان الشّهيرة.
و لم يكن ذلك مفاجئًا، فاليوم هو يوم زفاف وليّ العهد كاليد و النّبيلة ذات الأصل العريق ليفيا أرفين، اللذين ارتبطا أخيرًا بعقد الزّواج.
زواجٌ ظنّ الجميع أنّه لن يتحقّق أبدًا.
“أن يتزوّج سموّ وليّ العهد؟ لم أكن لأحلم بذلك!”
“و هلْ أنتِ وحدكِ؟ لقد فوجئ كلّ سكّان الإمبراطوريّة!”
“كنتُ متأكّدةً أنّ سموّه يكره السيّدة ليفيا…”
“يقال إنّ السيّدة ليفيا تغيّرت تمامًا بعد الحادث الذي وقعَ قبل خمس سنوات.”
“حتّى لو فقدت ذاكرتها، فهل يتغيّر جوهر الإنسان بهذه السّهولة؟”
“ششش! كيف تجرؤين على الحديث عن سيّدة القوّة المقدّسة هكذا؟ صحيح أنّها كانت أحيانًا متعجرفة، لكنّها لم تعُد كذلك. إذا سُمع أنّكِ تتحدّثين عن سيّدة القوّة المقدّسة بسوء، سنقع نحن في ورطة!”
“صحيح، لكنّ الأمر يصعب تصديقه.”
كان البعض يتساءلون بدهشة، و البعضُ الآخر يتعجّبون، وآخرون كانوا سعداء بصدق.
كانَ زواج الإمبراطور القادم للإمبراطوريّة من سيّدة القوّة المقدّسة، التي تحمل بركة الحاكم، أمرًا مبهجًا بلا شكّ.
ومعَ ذلك، كان هناك شيء من التّساؤل وعدم الرّضا بين النّبلاء، وكلّ ذلك بسبب اسم “ليفيا أرفين”.
قبل خمس سنوات، بعد حادث مروّع حيث سقطت عربتها من جرف، فقدت وعيها لفترةٍ طويلة، ثمّ استيقظت بأعجوبة.
“منْ أنتم…؟ منْ أنا…؟”
عندما استيقظت، كانت قد فقدت كلّ ذكرياتها.
ليفيا أرفين التي فقدتْ ذاكرتها تغيّرت تمامًا، من شخصيّتها إلى أذواقها، و حتّى طباعها الجسديّة—كلّ شيء تغيّر فيها.
كأنّها أصبحتْ شخصًا آخر تمامًا.
كانَ من المفترض أن يكون ذلك أمرًا مزعجًا، لكنّ عائلة أرفين شعرت سرًّا بالرّاحة.
فقبل الحادث، كانت ليفيا شخصيّة شرسة و متوحّشة لا يمكن وصفها بالكلمات.
علاقتها مع وليّ العهد، والتي كانت محددة منذ الطفولة، كانت سيّئةً لدرجة أنّها كانت أشبه بعداوة شديدة.
لكن ليفيا التي فقدتْ ذاكرتها بدأت من جديد، كما لوْ أنّها تكتب صفحةً بيضاء، فأعادت بناء كلّ العلاقات من الصّفر.
على الجانب الآخر من الكاتدرائيّة، كان هناك من ينظرون إلى السّقف الزّجاجيّ الذي تتسلّل منه أشعّة الشّمس الرّبيعيّة، و هم يضمّون أيديهم بأناقة.
“هل سمعتِ؟ يقال إنّ السيّدة ليفيا هي من أعادت بناء كاتدرائيّة ديفولد التي كانت تتداعى.”
“حقًّا؟ كنتُ أظنّ أنّ هذا المكانَ كان دائمًا مقدّسًا بهذا الشّكل.”
“لا، قبل خمس سنوات، كان مجرّد مبنى كبير مهجور لا يزوره أحد. تكفّلت السيّدة ليفيا بترميمه بكرمها، و سألت المعبد لإحضار كهنةٍ أيضًا.”
“إذا كان ذلك صحيحًا، فهذا مذهل حقًّا!”
“أليس كذلك؟ الكثيرون يقولون إنّ جوهر السيّدة ليفيا لم يتغيّر، لكنّني أؤمن بها. السيّدة ليفيا الآن هي حقًّا شخصيّة تليق بأصلها النّبيل!”
كانت أعينهم تلمع، و الكلمات التي ينطقونها تحملُ مديحًا مبالغًا فيه يُحرجهم هم أنفسهم.
قلّة قليلة جدًّا كانت تعرف حقيقة جوهر ليفيا. لذا، أولئك الذين يتحدّثون بهذا الشّكل كانوا قلّة نادرة بين الحاضرين في الكاتدرائيّة.
كان صوت المديح باسمها يهزّ زجاج الكاتدرائيّة، لدرجة أنّ أولئكَ الذين خارج الكاتدرائيّة لم يعرفوا أبدًا حقيقة جوهرها.
كانت سمعتها متناقضةً تمامًا، لكنّ الجميع هنا اليوم جاؤوا ليباركوا زواج وليّ العهد كاليد و ليفيا أرفين.
لقد تمّ إرسال الكاهن الأكبر، الذي نادرًا ما يظهر من المعبد مرّةً في السّنة، ليحتفل بزواج سيّدة القوّة المقدّسة، ممّا يُظهر مدى أهميّة هذا الحدث دون الحاجة إلى كلامٍ إضافيّ.
كانَ من اللافت للنّظر أن يُقام حفل زفاف وليّ العهد في كاتدرائيّة عاديّة في العاصمة راجان بدلاً من القصر الإمبراطوريّ.
لهذا، تجمّعت الحشود حول الكاتدرائيّة، و اضطرّ القصر لإرسال فرقة من الفرسان للحفاظ على النّظام.
كانت هذه التّرتيبات مسبقة من وليّ العهد الذي أراد تجنّب أيّ إصابات قد تحزن ليفيا. كان ذلك دليلاً على مدى عمق مشاعره تجاهها.
كان يومًا رائعًا حقًّا.
“يا سيّدتي، تمّ الإنتهاء من التّجهيزات. هل تودّين التّأكّد؟”
ليفيا، بطلة اليوم، تنفّست الصّعداء بهدوء عندما أنّ إخبارها بأنّ التّجهيزات التي بدأت منذ الفجر قد انتهت أخيرًا.
الجلوس منتصبة الظّهر لساعاتٍ طويلة لم يكنْ بالأمر السّهل.
لكنّ تلك السّاعات الشّاقّة نُسيت بمجرّد وقوفها أمام المرآة.
“واو…”
“أنتِ جميلة جدًّا، يا سيّدتي.”
نظرت ليفيا إلى انعكاسها في المرآة و أُذهلت.
كانت تعلم أنّها جميلة، لكنّ جهود أمهر الحرفيّين أضافت إلى وجهها إشراقًا إضافيًّا.
وجهها، الذي اعتقدت أنّها اعتادت عليه، بدا غريبًا الآن بشكلٍ مفاجئ.
“أجل…. جميلة.”
…جميلة بما يكفي لإثارة الغيرة.
ابتسمت ليفيا برفق، و هي ترفع زاوية فمها قليلاً.
ابتسامتها جعلت الخادمات، اللواتي تعبن منذ الفجر، ينحنين بفخر، كما لو أنّ تلك الابتسامة كافية لتعويض كلّ تعبهنّ.
“لقد بذلتم جميعًا مجهودًا رائعًا.”
لم تنسَ ليفيا أن تُعبّر عن شكرها الحارّ لمن قاموا بتجهيزها بعناية.
“عندما يراكِ سموّه، سيُذهل بالتّأكيد.”
“حقًّا… هل تظنّين ذلك؟”
تذكّرت ليفيا فجأة لقاءها الأوّل مع وليّ العهد.
في المرّة الأولى التي تقابلا فيها، عبّس على الفور و صدرَ منه صوت استياء.
“ما الذي تنوين فعله الآن؟”
كان عدم ثقة وليّ العهد كاليد بليفيا أرفين عميقًا لدرجةٍ تصل إلى السّماء ، لذا لم تكن ردّة فعله مفاجئة.
لكن ليفيا آنذاك، التي شعرت أنّ الواقع نفسه غير حقيقيّ، لم تستطع سوى النّظر إليه بدهشة، فهو كان وسيمًا بشكلٍ لا يُصدّق.
و الآن، يقولون إنّه هو من سيُذهل برؤيتها. شعرت بمدى التّغيير بشكلٍ واضح.
“بالطّبع! أنتِ تعلمين كم يُحبّكِ سموّه.”
“أجل…”
ابتسمت ليفيا بخجل و أومأت برأسها ببطء.
إذا لم تكن العروس، بطلة اليوم، جميلة، فمن سيكون غيرها؟
دَنْ—دَنْ—
رنّ الجرس الضّخم في برج الكاتدرائيّة معلنًا اقتراب منتصف النّهار بنقاء.
استعانت ليفيا بمساعدة الخادمات و بدأت تتحرّك بخطواتٍ بطيئة.
بعد أن رنّ الجرس اثنتي عشرة مرّة، فُتحت أبواب الكاتدرائيّة .
في نهاية السّجادة البيضاء، وقف حبيبها الذي لا تندم على بذل كلّ شيءٍ من أجله.
وليّ العهد، كاليد نومين إيفيرنيا.
تسلّلت أشعّة الشّمس الرّبيعيّة عبر الزّجاج الشّفاف، فغمرته بضوءٍ ذهبيّ.
كانت الكاتدرائيّة ممتلئة بالحشود، لكن عيني ليفيا لم تريا سوى الرّجل الواقف في نهاية الطّريق.
نظر إليها بدهشة، ثمّ ابتسم برفق.
أمسكت ليفيا بأطراف فستانها بأناقة، و بدأت تمشي نحوه ببطء.
كانت السّجادة ناعمةً بحيث لا داعي للقلق من التّعثّر، و كانت تماثيل العاج و شمعدانات الذّهب مرتّبة بأناقة على الجانبين.
لم يتحمّل كاليد حتّى تلك اللحظات القصيرة التي كانت تمشي فيها ليفيا على الطّريق الأبيض، فتقدّم نحوها بنفسه، مادًّا يده بوقار.
عندما وضعت ليفيا يدها بحذر على يده، أمسكها بقوّة كما لو أنّه لن يتركها أبدًا.
شعرت بقلبها ينقبض من قوّة قبضته الدّافئة والصّلبة.
“لقد أذهلتِني.”
“ماذا…؟”
“لم تُخبريني أنّكِ ستكونين بهذا الجمال.”
تذمّر بمرح، قائلاً إنّها جميلة جدًّا.
“لكن بما أنّكِ بطلة اليوم، فهذا أمرٌ طبيعيّ.”
شعرت ليفيا بالخجل فلم تستطع النّطق.
الرّجل الذي كان ينظر إليها بنظرات مليئة بالنّفور في لقائهما الأوّل، كان الآن ينطق بكلماتٍ ودودة بجرأةٍ و دون تردّد.
كيف لا تُحبّ رجلاً كهذا؟
“سنبدأ مراسم التّعهد.”
مع إعلان الكاهن الأكبر الرّنّان، أخرج خالد خاتمًا من جيبه و هو يسعل بتوتّر.
كان خاتمًا صُنع بناءً على تصميم تاج، يحمل مشاعر كليهما.
كانت مراسم التّعهد تتمثّل في القسم أمام الحاكم بأبديّة الحبّ، و وضعَ الخاتم في يد المحبوب.
وضع كاليد الخاتم بحذر في إصبعها النّاعم الذي لم يُجرح أبدًا.
كانَ هو أيضًا متوترًا، إذْ كانت أطراف أصابعه مشدودة.
“أنا، كاليد نومين إيفيرنيا، أقسم أمام الحاكم الأوّل بيسيا ، أنّني سأحبّكِ وحدكِ إلى الأبد.”
كانَ إعلانًا مهيبًا و صلبًا و مليئًا بالصّدق.
بما أنّ العبارة كانت مختلفة عن النّصوص التّقليديّة للتّعهد، اندلعت همهمات هادئة و تصفيق بين الحضور.
شعرت ليفيا بحرارةٍ في وجهها بسبب اعترافه الحازم، لكنّ البهجة غمرت قلبها أكثر.
أمسكت بحذرٍ يده التي مدّها إليها.
كانت يده، التي تمسك السّيف، كبيرةً و خشنة.
رفعت ليفيا الخاتم الذي أعدّته، ونظرت إليه بهدوء.
كانت عيناه القرمزيّتان تفيضان بالمحبّة.
لكن، في لحظة، بدا وجهه يرتجف أمامها.
دوم—دوم—
ارتجف الخاتم في يدها، وكأنّ العالم ينقسم و يهتزّ.
“آه…”
أمسكت بيد كاليد بقوّة لئلّا تسقط.
فوجئ كاليد برعشة يدها المفاجئة و ناداها.
“ليفيا؟”
لكنّها لم تستطع النّطق بكلمة.
شعرت بأحشائها تهتزّ بشدّة، و كأنّ الأرض بحرٌ متلاطم. شعرت و كأنّها تعاني من دوارٍ شديد، فتشوّشت كلّ حواسها.
طنين—
فتحت فمها بسبب صداعٍ شديد، لكنّ صرخةً لم تخرج. نظرت ليفيا إلى كاليد دون وعي.
“ليفيا!”
أمسكت يده بقوّة أكبر.
هل يُعقل؟
مستحيل…!
عضّت ليفيا شفتيها بقوّة وهي ترتجف بكامل جسدها.
“آه… آه… آه…”
لا…
لم تتحوّل كلماتها إلى جملة، بل تبعثرت في فمها.
كأنّها فقدت السّيطرة على جسدها، لم تستطع التّحرّك بإرادتها.
صرخ كاليد بشيءٍ ما، وعيناه مملوءتان بالقلق.
صرخت ليفيا في داخلها بيأس، لكنّ صرختها لم تصل.
كان جسدها قد فقد الوعي بالفعل، و سقطت ببطء على الطّريق الأبيض الذي مشت عليه.
آخر ما رأته عيناها اللتين أغلقتا ببطء كان وجه حبيبها، الذي يرتجف كما لو أنّه يعاني من كارثةٍ مروّعة.
التعليقات لهذا الفصل " 1"