في لحظةِ ذُعْرٍ، حاولتُ نزعَ الكيسِ عن رأسي بكلِّ ما أوتيتُ من قوةٍ.
“مَن أنتَ…؟ آه!”
حاولتُ الصِّياحَ، لكنَّ فمي سُدَّ بقوةٍ. شعرتُ بحبلٍ يُحكَمُ حولَ جسدي، يقيِّدني بإحكامٍ.
مَن هذا؟ لا، الجوابُ واضحٌ.
لم يكن في المطبخِ سوايَ والخادماتِ.
خادماتٌ كنَّ يعاملنَني بمودةٍ في الأيامِ العاديةِ.
فلماذا؟
في تلكَ اللحظةِ التي كنتُ أجاهدُ فيها للتحرُّرِ، داهمَتني رائحةٌ غامضةٌ، وبدأ وعيي يتلاشى.
حاولتُ التشبُّثَ بذهني، لكنَّ الأمرَ كانَ خارجَ إرادتي. أردتُ أن أصرخَ باسمِ إيساك، لكنَّ ذلكَ أيضًا كانَ مستحيلًا.
تدريجيًا، أظلمَ كلُّ شيءٍ حولي. في غمرةِ تلكَ الرائحةِ النفّاذةِ، أغمضتُ عينيَّ أخيرًا.
تسرَّبَت رائحةٌ كريهةٌ ثقيلةٌ إلى أنفي.
كأنني أهيمُ في ضبابٍ، كانَ ذهني مشوشًا، وجسدي مثقلًا كما لو أنَّ كابوسًا يجثمُ على صدري.
رائحةٌ غريبةٌ، منفِّرةٌ… غبارٌ ممزوجٌ بنكهةِ تعفُّنٍ مجهولٍ. تألمتُ من هذهِ الروائحِ، ثم فتحتُ عينيَّ دونَ وعيٍ.
كانت رؤيتي ضبابيةً مشوشةً. ظننتُ أنَّ الأمرَ سيزولُ مع الوقتِ، لكنَّ الظلامَ كانَ هوَ ما يواجهني حتى بعدَ فتحِ عينيَّ.
ما الذي يحدثُ بحقِّ خالق السماءِ؟ هل أنا في كابوسٍ؟
حاولتُ رفعَ جسدي، لكنَّهُ لم يتحرَّكْ. كأنني مُقيَّدةٌ بحقٍّ بحبلٍ متينٍ.
والأغربُ، أنَّ الظلامَ لم يكن بسببِ الإضاءةِ، بل لأنَّ شيئًا ما يغطِّي رأسي… كيسٌ، ربما.
“آه…!”
شهقتُ بسرعةٍ، وتذكَّرتُ أخيرًا. المطبخُ الذي رأيتهُ آخرَ مرةٍ، والخادماتُ.
ما زلتُ لا أصدِّقُ أنَّ الخادماتِ هُنَّ مَن هاجمنني.
عشنا معًا أشهرًا بمودةٍ، فلماذا؟ لماذا خطفنني؟ وأين أنا الآنَ؟
في خضمِّ الحيرةِ، خطرَ لي اسمُ توبي فجأةً.
توبي، الذي كانَ يخفي هويتهُ ويعملُ كخادمٍ.
هل يمكنُ أن تكونَ إحدى الخادماتِ واحدةً منهم؟ إن كانَ هذا مكانَهم، فلماذا خطفوني؟
أردتُ أولًا فكَّ هذهِ الحبالِ. في تلكَ اللحظةِ التي كنتُ أجاهدُ فيها، سمعتُ صريرَ مفصلاتٍ، كأنَّ بابًا فُتِحَ.
شعاعٌ خافتٌ من الضوءِ تسرَّبَ. اقتربَ أحدهم مني، ثم نزعَ الكيسَ عن رأسي بعنفٍ.
“آه…!”
أعمتني الإضاءةُ المفاجئةُ. بعدَ لحظاتٍ، تبيَّنتُ شخصًا يقفُ أمامي. كانَ يرتدي رداءً أسودَ بدونِ زخارفَ، يغطِّي وجههُ بقلنسوةٍ عميقةٍ، لا يظهرُ منهُ سوى شفتيهِ.
من هيئتهِ، بدا رجلًا. تفحَّصني الرجلُ بنظراتٍ ثاقبةٍ، ثم قالَ:
“هذهِ هيَ الفتاةُ، أليسَ كذلكَ؟”
“نعم، هيَ بالتأكيدِ”، أجابتْ امرأةٌ كانتْ تقفُ خلفهُ، ترتدي رداءً مشابهًا يخفي وجهها.
بينما أحاولُ استيعابَ الموقفِ، حدَّقَ الرجلُ فيَّ بنظراتٍ حادةٍ، ثم قالَ:
“الآنَ، ما الذي ينبغي أن نفعلهُ؟ هل نقتلها ونرسلُ رأسها؟”
تجمدتْ أوصالي من هولِ كلامهِ. ليسَ فقط لأنهُ تحدَّثَ عن قتلي، بل لأنَّ نبرتهُ كانتْ هادئةً كأنَّهُ يتحدَّثُ عن أمرٍ يوميٍّ عاديٍّ.
هل ينوونَ حقًا قتلي؟ شعرتُ بالخوفِ، لكنني كنتُ بحاجةٍ إلى التريُّثِ والتركيزِ.
حتى لو متُّ، سأعودُ إلى الحياةِ. لكنْ لأتمكَّنَ من التصرُّفِ بعدَ عودتي، كانَ عليَّ جمعَ أيِّ دليلٍ عن هويتهم.
أولًا، قرَّرتُ استطلاعَ المكانِ. بدا المكانُ كسجنٍ تحتَ الأرضِ، مليءٍ بالأغلالِ وبقعٍ داكنةٍ غامضةٍ على الأرضيةِ.
لم تكفِ هذهِ المشاهداتُ لتحديدِ الموقعِ. ربما ينبغي أن أركِّزَ على الأشخاصِ.
لاحظتُ أنَّ الرجلَ أمامي كانَ على معصمهِ جرحٌ طويلٌ يظهرُ من تحتِ كمِّهِ.
هل يمكنُ أن يكونَ هذا دليلًا؟ ولماذا يبدو وجههُ مألوفًا؟ أينَ رأيتهُ من قبلُ؟
“أوه، انظروا إلى هذهِ الجرأةِ!” قالَ الرجلُ بسخريةٍ، ثم أمسكَ بشعري وجذبَ رأسي إلى الخلفِ بعنفٍ.
تأوَّهتُ من الألمِ. اقتربَ مني وهو يبتسمُ بسخريةٍ، وقالَ:
“تسمعينَ تهديدًا بالقتلِ ولا تخافينَ؟ شجاعةٌ مذهلةٌ!”
“لذلكَ هيَ عشيقةُ ذلكَ الوحشِ”، أضافتِ المرأةُ من خلفهِ.
الوحشُ؟ هل يقصدونَ إيساك؟
في تلكَ اللحظةِ، سمعتُ صوتًا من الخارجِ ينادي، فغادرتِ المرأةُ مؤقتًا.
الوحشُ؟ ما الذي يتحدَّثونَ عنهُ؟
كبحتُ رغبتي في البصقِ على وجهِ الرجلِ، وقلتُ:
“الوحشُ؟ هل تقصدُ سيدي؟”
“ماذا؟” قالَ الرجلُ بنبرةٍ متفاجئةٍ، ثم صمتَ وهو يتفحَّصُ وجهي كأنَّهُ يحاولُ قراءةَ أفكاري.
ما الذي فاجأهُ؟
ثم ضحكَ ضحكةً ساخرةً وقالَ:
“تلتقينَ بهِ ولا تعرفينَ؟ يا لكِ من مسكينةٍ! ستموتينَ بسببهِ…”
“ماذا تقصدُ؟”
“عشيقكِ، أو سيدكِ كما تدعينَ، قاتلٌ. نحنُ هنا لننتقمَ.”
تذكَّرتُ كلامَ إيساك السابقَ، حينَ قالَ إنَّ أعداءهُ هم مَن يطاردونهُ.
إذن، هؤلاءِ هم الذين خطفوني.
هل كانوا ينوونَ استمالي إلى صفهم، ثم غيَّروا رأيهم؟ لماذا؟
“لم يقتلْ واحدًا أو اثنينَ، بل العشرات. ومع ذلكَ يعيشُ بوجهٍ وقحٍ، أليسَ هذا وصفَ الوحشِ؟”
“لكنْ لماذا تريدونَ قتلي؟ أنا لم أفعلْ شيئًا!”
“لأنكِ عشيقتهُ.”
كانتْ نبرتهُ هادئةً بشكلٍ مخيفٍ. أفلتَ شعري وأكملَ:
“في البدايةِ، فكَّرنا في استمالتكِ. بدوتِ مضطربةً ماليًا، فقد ظننَّا أنَّ المالَ سيغريكِ…”
ضحكَ ضحكةً خافتةً ساخرةً، ثم أضافَ:
“لكنَّ توبي الذي كانَ سيغريكِ ماتَ، وبدوتِ غيرَ قابلةٍ للإغراءِ. لذا غيَّرنا خطتنا.”
أخرجَ من جيبهِ خنجرًا حادًا، وأخذَ يربتُ على خدِّي بنصلهِ، وقالَ:
“كلُّ ما أردناهُ هو قتلُ ذلكَ الوحشِ، لكننا فشلنا مرارًا. لذا، قرَّرنا أن نُسبِّبَ لهُ الألمَ على الأقلِ.”
“…”
“يبدو أنهُ يعزُّكِ جدًا. إن قتلناكِ وأرسلنا رأسكِ إليهِ، ألن يكونَ ذلكَ مشهدًا ممتعًا؟”
لم يكن في صوتهِ أيُّ مبالغةٍ أو تفاخرٍ. كانَ جادًا في نيتهِ قتلي.
صررتُ على أسناني. إن متُّ هكذا، ستكونُ موتةً مهينةً. يجبُ أن أحصلَ على معلومةٍ واحدةٍ على الأقلِ…
الآنَ، وهو غارقٌ في غفلتهِ، هي فرصتي. قاومتُ الحبالَ وحاولتُ دفعَهُ بجسدي.
“آه…!”
لم يكن مستعدًا، فتراجعَ وسقطَ. انزلقَ رداؤهُ، فبانَ وجههُ.
وجهٌ رأيتهُ منذُ زمنٍ، لكنني متأكدةٌ منهُ. إنهُ الخادمُ الذي كانَ يعملُ في القصرِ.
تفاجأتُ، لكنْ كانَ عليَّ الهربُ. تعثَّرتُ وأنا أندفعُ خارجَ السجنِ التحتيِّ.
ما إن خرجتُ حتى رأيتُ غرفةً مظلمةً، مليئةً برموزِ عبدةِ الشيطانِ، وأقنعةٍ على شكلِ رؤوسِ الماعزِ، وصورٍ لشياطينَ.
في إحدى الصورِ، كانَ شيطانٌ بقرونِ ماعزٍ، يرتدي حجابًا ولهُ أجنحةٌ شيطانيةٌ.
“أيتها اللعينةُ…!”
ما إن خرجتُ حتى أمسكَ الرجلُ بشعري مرةً أخرى، وجذبني بعنفٍ. سقطتُ على الأرضِ بقوةٍ، وشعرتُ بألمٍ في كلِّ جسدي.
جرَّني إلى داخلِ السجنِ، ثم أغلقَ البابَ بالقفلِ. كنتُ أتألَّمُ حتى من التنفُّسِ.
“سنقرِّرُ مصيركِ لاحقًا، فانتظري. إما أن نقتلكِ ونرسلَ جثتكِ، أو نستخدمكِ كطعمٍ لاستدراجهِ. على أيِّ حالٍ، لا شيءَ جيدٍ ينتظركِ.”
غادرَ بعدَ هذا الكلامِ. بقيتُ ملقاةً على الأرضيةِ الباردةِ القذرةِ، أتأوَّهُ من الألمِ.
على الأقلِ، حصلتُ على بعضِ الأدلةِ. بدأتُ أربطُ الأمورَ تدريجيًا.
يبدو أنَّ هؤلاءِ هم الناجونَ من مذبحةِ قصرِ دياز.
كما قالَ إيساك سابقًا، الرجلُ الذي هاجمني والخادمُ الذي تحدَّثتُ إليهِ كانا من خدمِ القصرِ.
لكنهم لم يكونوا مجرَّدَ ضحايا… يبدو أنهم كانوا من عبدةِ الشيطانِ.
الرموزُ التي رأيتها خارجَ السجنِ دليلٌ على ذلكَ. كذلكَ، تذكَّرتُ رؤيا رأيتُ فيها الخادمَ يقتلُ خادمًا بأمرِ ماركيزِ دياز.
بدأتُ أفهمُ، ولو قليلًا، لماذا أبادَ إيساك سكانَ القصرِ. ربما كانَ ذلكَ بسببِ قصيدةٍ رأيتها في القصرِ من قبلُ:
«في اليومِ الأولِ، طُعنتْ ماري في عينيها وماتتْ. بقيَ ثلاثةٌ.
في اليومِ الثاني، غرقَ توم في الماءِ وماتَ. بقيَ اثنانِ.
في اليومِ الثالثِ، احترقتْ شارلوت وماتتْ. بقيَ واحدٌ.
في اليومِ الرابعِ، قُطعَ عنقُ بيتر وماتَ. لم يبقَ أحدٌ.
في اليومِ الخامسِ، لم يبقَ في القصرِ سواهم.»
— ترجمة إسراء
التعليقات لهذا الفصل " 101"