في هذه الأثناء، كانت رايتشل قد وصلت إلى دوقية فالينسيا، وكانت تجالس الدوق على انفرادٍ مباشرةً.
كان يبدو شاحبًا قليلًا، لكن بملامح حادّة ومتقدة.
ما إن رأى الدوق رايتشل حتى بادرها بالشكر.
“لولا إخبارُ الآنسة لي، لما تمكّنتُ من معرفة الحقيقة ولو الآن. وباسم العائلة، أنقل لكِ خالص امتناني.”
كان فوق الطاولة، إلى جانب الأدلة التي قدّمتها رايتشل، كمٌّ هائل من التقارير المختلفة التي لا بدّ أنّ ظلّ عائلة فالنسيا قد جمعها.
أنزلت رايتشل بصرها.
“يبدو أن التحقيق قد انتهى.”
“نعم.”
جمع الدوق حتى السجلات التي تعود إلى واحدٍ وعشرين عامًا مضت، والتي تُثبت شراء كاي سافانيو لعبدٍ واحد.
منذ أن تلقّى ذلك العبد دعم ااآنسة سافانيو، وتحول إلى رجلٍ حرّ، ثم أصبح فارسًا، وصولًا إلى كونه الأبَ البيولوجيّ للوريث الوحيد لعائلة فالينسيا.
كانت جميع تلك المراحل موثّقة داخل هذا التقرير.
بل إن الفحص الأوّلي قد أسفر عن نتيجة تُثبت عدم تطابق علاقة الأبوة بين الدوق وباريس.
كبح الدوق أنفاسه الثقيلة وألقى بجسده عميقًا في الأريكة.
“بمجرّد الانتهاء من فحص الدم بيني وبين ملك المرتزقة، سنقوم فورًا باعتقال كاي سافانيو وباريس. كما سيُرفع تقريرٌ إلى جلالة الإمبراطور قريبًا. وبالطبع، سيتم فسخ خطوبة الآنسة وباريس على أنها خطأ من جانبنا.”
كان ذلك هو الختام الذي تطلّعت إليه. وبما أن ملك المرتزقة قد عاد اليوم، فمن المؤكد أن الفحص سيتم خلال وقتٍ قريب.
توجّهت نحوه عينان حمراوان قانيتان، تحملان لطفًا لم تعهده من قبل.
“هل هناك ما تتمنّينه؟ لقد استدعيتُ الآنسة اليوم لأطرح هذا السؤال تحديدًا.”
“……”
تلاطمت المشاعر في صدرها.
كان هناك ما ترغب بطلبه، لكن قبل ذلك، كان ثمة أمرٌ واحد تودّ السؤال عنه.
شبكت رايتشل أصابعها الباردة وسألت:
“هل لي أن أعرف كيف سيتم التصرّف معهم؟”
“……”
“أعني الدوقة وباريس، وذلك الفارس. أودّ سماع رأيك يا سموّ الدوق.”
كانت تعلم أنهم سيُعدمون، لكنّها سألت احتياطًا.
على عكس رايتشل، ارتكبت كاي سافانيو جرائم عظيمة، ومع ذلك لم يسبق أن نبذتها عائلة دوقية سافانيو.
الجميع كان يتحدّث من خلف الكواليس فقط.
وبخصوص باريس، فقد كُشف أمره، لكن كاي سافانيو وعشيقها اللذين فرا لم يتم العثور عليهما، مِما أثار كثيرًا من الأحاديث عن احتمال تدخل دوق سافانيو لمساعدتهما.
فهل ستكون هذه المرّة مختلفة؟
راود رايتشل خاطرٌ مقلق: ماذا لو أُفرج عنهم، على عكس ما سيحدث لها؟
فشعرت بدوارٍ خفيف.
وفي اللحظة التي خفّضت فيها رايتشل بصرها—
“يبدو أن في الآنسة جانبًا ساذجًا بعد.”
“……نعم؟”
انغرز الصوت الوقور في أذنها. كان الدوق، وقد أسند ذقنه إلى مسند الأريكة، يحدّق بها بهدوء.
“ألم أقل إن التقرير سيُرفع إلى جلالة الإمبراطور؟ لقد كادوا أن يحرقوا العاصمة بأكملها. جلالته لن يتهاون في هذا الأمر أبدًا. وإن حاول دوق سافانيو التدخّل، فعليه أن يراهن بمصير عائلته نفسها.”
إن السلالة المباشرة لفالنيسيا مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بختم الوحش الأعظم.
ولو تحرّر ذلك الوحش المختوم في الجبل الخلفي للعاصمة، لتعرّضت العاصمة لنصف دمارٍ محقق، وغضب الإمبراطور حينها سيكون أمرًا طبيعيًا.
ألم تكن رايتشل نفسها قد نالت حكمًا بسبب ذلك؟
“……لكن، أليس من الممكن طلب الاكتفاء بالنفي القسري؟”
تذكّرت رايتشل الحكم الذي صدر بحقها قبل عودتها بالزمن. حكم النفي القاسي الذي فُرض عليها وهي تجهل كل شيء.
ومع ذلك، مقارنةً بالإعدام، كان حكمًا أخفّ بلا شك.
كما أن عائلة سافانيو، وعلى عكس حالتها، ستقدّم دعمًا مستمرًا لضمان ألا يكون نفيًا حقيقيًا.
عندها، صدر من المقعد العلوي صوت ضحكة خفيفة. شبك الدوق ساقيه وقال:
“قد يكون ذلك ممكنًا إن توسّل دوق سافانيو وهو مستعد لتقديم عنقه. لكن، هل تظنّين أنني سأدع الأمر يصل إلى ذلك؟”
“……”
أحد أعظم نبلاء الإمبراطورية.
ربّ عائلة فالينسيا، الذي لا يتراجع أمام أحد سوى الإمبراطور.
وأعلن بوضوح:
“أعدكِ. مهما قيل، أولئك الثلاثة جميعهم سيُعدمون.”
“……”
“فاطمئني، يا آنسة. لن تريهم مرةً أخرى بعد اليوم. أولئك الذين حاولوا جرّكِ معهم.”
ارتجف قلبها بعنف.
من تسبّب في صدور حكم النفي بحقها في حياتها السابقة، أصبح الآن حليفها، يعدها بإزالة كابوسها.
لقد كان هذا ما سعت إليه حين قدّمت له الأدلة أولًا، لكنّ عينيها احمرّتا على نحوٍ غريب.
‘إذًا، خياري هذه المرّة لم يكن خاطئًا.’
رغم شعورها الغريب وكأنها تتلقّى عزاءً من الدوق، إلا أن صدرها بدا أخفّ.
تنفّست بعمق ورفعت بصرها، فإذا بالدوق، الذي بدا متفاجئًا قليلًا، ينفجر ضاحكًا.
“ما هذا؟ لا تقلين إنكِ أوكلتِ إليّ الأمر وكنتِ تشعرين بالقلق؟ آه، يبدو أنني لم أمنح الآنسة الثقة الكافية. أم هل نقول إن عائلة فالينسيا لم تمنحكِ تلك الثقة؟ ربما لهذا ترددتِ حين طلبتُ منكِ أن تعبّري عمّا تريدين.”
“……لا.”
ومع ذلك، كان الاطمئنان بأنها لن تراهم مجددًا باعثًا على الراحة.
انحنت رايتشل برأسها.
“شكرًا لإخبارك لي.”
“لا داعي لكل هذا. والآن، أظنّ أنني لم أسمع بعد ما الذي تتمناه الآنسة.”
قال الدوق مبتسمًا، وذقنه لا يزال مسنودًا إلى يده.
بقلبٍ أخفّ قليلًا، أخرجت رايتشل أخيرًا ما كانت قد فكّرت فيه.
أول ما تريده هو التعويض عن فسخ الخطوبة.
“هل يمكنك منحي تعويضًا عن فسخ الخطوبة؟”
“سؤالٌ بديهي. بالطبع سيُقدَّم إلى عائلة الآنسة—”
“لا. لا أقصد عائلة إنغريف، بل أطلب أن يُقدَّم لي شخصيًا. ويفضّل ألا يعلم والداي بالأمر.”
وأضافت ذلك وهي تخفض بصرها.
رغم بلوغها سن الرشد، إلا أن رايتشل ما زالت تابعة لعائلة إنغريف.
كانت خاضعة لنفوذ ماركيز إنغريف وزوجته.
وللتحرّر من ذلك، لم يكن أمامها سوى الزواج أو نيل لقب.
لكن، وهل نيل اللقب أمرٌ سهل؟
فاللقب يُمنح من قِبل الإمبراطور لمن قدّم خدمة جليلة للدولة، لذا كانت رايتشل تخطّط للخروج من العائلة عبر الزواج.
ومع ذلك، قد تطرأ مشكلات قبل الزواج أو حتى بعده.
ولهذا، كانت بحاجةٍ إلى ثروةٍ لا يعلم بها أحد.
“……”
مرّ طيفٌ دقيق من المشاعر على وجه الدوق الشاب، الذي كان في أواخر الثلاثينيات من عمره. ثم أومأ برأسه.
“سيُنفَّذ ذلك. سيزوركِ مساعدي قريبًا.”
“شكرًا جزيلًا. وأرجو أيضًا ألا تُتاح لوالدي فرصة استخدامي عبر علاقتهم بفالينسيا. أنا لا أرغب بمثل ذلك.”
كانت هذه القضية تتعلّق بخداعٍ يخصّ وريث فالينسيا نفسه.
ولو شاع أن رايتشل ساعدت في كشف الحقيقة، فلن يقف والداها مكتوفي الأيدي أبدًا.
صحيح أن ارتفاع مكانتها أمرٌ جيد، لكنّها لا تريد التورّط مع فالينسيا أكثر من هذا.
استمع الدوق بهدوء، ثم أومأ مرةً أخرى.
“حسنًا. من تلقّى الجميل هي الآنسة، لا عائلة إنغريف. سنفعل كما تشائين.”
“شكرًا لك. هذا يكفيني.”
أما الباقي، فستنتزعه بنفسها، رويدًا رويدًا، وهي تمضي في حياتها.
مستقبلٌ آخر.
وحياةٌ هادئة.
لذا، كان ما ستأخذه من فالينسيا، المرتبطة بماضيها، كافيًا إلى هذا الحد.
بدت على وجه الدوق ملامحٌ معقّدة مرةً أخرى.
“هذا كل شيء؟”
“نعم. آه، وهل يمكنني مقابلة باريس مرةً واحدة بعد صدور الحكم؟ لقد وعدته بأمرٍ ما.”
“هذا ليس صعبًا، لكن……”
ابتلع الدوق بقيّة كلماته، وملامحه توحي بأن لديه الكثير ليقوله.
يبدو أنه لم يستوعب كيف تراجعت عند هذا الحد.
لكن، في نظر رايتشل، كان الطمع بأكثر من ذلك خطأً.
كلما زاد ما تأخذه، ازداد تشابكها مع فالينسيا.
وبينما كان الدوق يحكّ خدّه، همّ بالكلام، ظهر رجلٌ يرتدي السواد دون صوت، وجثا على ركبةٍ واحدة.
“سيدي، لديّ أمرٌ عاجل.”
كان ذلك قائد الظلال السوداء، ظلّ عائلة فالينسيا.
نظر الدوق إلى رايتشل للحظة، ثم قال:
“ما الأمر؟”
“……لقد تنبّه ذلك الشخص. تدخّل المساعد، ورغم أن الوقت مبكر قليلًا، إلا أننا في طريقنا لإحضاره إلى هنا.”
“تسك.”
نقر الدوق بلسانه، ثم اعتذر:
“يبدو أن ضيفًا سيصل قريبًا. أعتذر، لكن هل يمكنكِ المغادرة الآن، يا آنسة؟ وإن طرأ لكِ أيُّ طلبٍ لاحقًا، فلا تترددي في اخباري.”
“لا بأس. ما منحتني إياه اليوم كافٍ تمامًا. إذًا، أستأذنك.”
انحنت رايتشل بأدب وغادرت مكتب الدوق.
في الممر، كان كبير خدم فالينسيا، وبيكي، والفرسان بانتظارها. انحنى كبير الخدم باحترام.
“آنسة إنغريف، سأرافقكِ حتى المدخل.”
“……”
وأثناء سيرها خلفه، ألقت رايتشل نظرةً سريعة نحو باب المكتب المغلق.
ما خطر في بالها كان تقرير الظلال.
ذلك الشخص.
‘لا بدّ أنه ملك المرتزقة، نيدين.’
يبدو أن عائلة فالينسيا قد أرسلت ظلًّا لمراقبة ملك المرتزقة.
وأن يكتشف ذلك في وقتٍ قصير كهذا، أمرٌ يبعث على الإعجاب.
على أي حال، ومن مجريات الأمور، لم يعد هناك ما يستدعي تدخّلها.
التعليقات لهذا الفصل " 9"