الفصل 8 :
في تلك اللحظة، بدا المكان كأنّه صحراء.
وبدا أيضًا كـ ساحة المعركة الكبرى.
شعرتْ وكأنّها تهيم في مكانٍ ما من ماضيها.
في ذلك الوقت، ارتسمت الدهشة في تلك النظرة الحادّة إلى أقصى حدّ.
كانت العينان الحمراوان، كأنّهما بلون الدم، كما هما.
لكنّه الآن بدا وكأنّه متفاجئٌ بشيءٍ ما.
عندها فقط بدأت رايتشل تدرك الواقع تدريجيًا.
إلى جوارها، كانت بيكي تناديها بقلق.
وأمامها، كان السير هوفمان يناديها أيضًا، وقد بدا عليه الذهول.
“آنستي؟ ما الذي أصابكِ فجأةً؟ هل تشعرين بسوء؟”
“تمهّلي، حاولي أن تتنفّسي ببطء.”
“هاه…”
كانت رايتشل قد حبست أنفاسها دون أن تشعر، فسارعت إلى استنشاق الهواء.
كانت تظنّ أنّها بخير.
لكن يبدو أنّ العودة بالزمن لم تشفِها تمامًا بعد.
سألها السير هوفمان، الذي كان يراقبها بقلق، بصوتٍ منخفض:
“هل نُعيد العربة أدراجها؟”
كان فارسًا حادّ الفطنة إلى حدّ يُشبه الموهبة الخارقة.
لم تكن قد أدركت ذلك في الماضي.
ابتسمت رايتشل، محاولةً تهدئة الفرسان وبيكي القلقين.
“لا بأس. يبدو أنّني أصبتُ بدوارٍ خفيف فقط. إذا أبقينا النافذة مفتوحة فسأكون بخير.”
“…….”
“لا تقلقي، بيكي.”
كان باطنها في فوضى عارمة، لكن ليس إلى حدّ العجز عن التحمّل.
ثمّ إنّها لم تكن تستطيع العودة اليوم مهما كان.
إذ لا بدّ من مناقشة ثمن المعلومات المهمّة، وأمر فسخ الخطوبة.
ولو عادت الآن، فقد تسير الأمور على نحوٍ مغاير لما خطّطت له.
أومأ السير هوفمان بعد أن راقبها لحظة.
“حسنًا، في هذه الحال. يبدو أنّ قافلة التجارة الوطنيّة قد شارفت على المرور بالكامل، سنُحرّك العربة ببطء. هل توافق، سيّدي الفارس؟”
“بالطبع، سير هوفمان. سننطلق الآن.”
أشار فارس عائلة فالينسيا إلى السائق، فبدأت العربة بالتحرّك ببطء.
شعرتْ بنظرةٍ من الخارج، تعرف تمامًا لمن تعود.
لكنّ رايتشل لم تلتفت أبدًا إلى ذلك الاتّجاه.
حين اختفت النظرة، شعرتْ أخيرًا بأنّ معدتها هدأت قليلًا.
صحيح أنّها ما تزال داخل عربة عائلة فالينسيا، لكن بعد ما مرّت به، بدا هذا محتملًا.
حين لاحظت بيكي تحسّن لون وجهها، أضافت بقلق:
“إن ساءت حالتكِ مجدّدًا، أخبريني فورًا، آنستي.”
“أنا بخير الآن. لعلّ العربة غير مألوفة فقط.”
“اممم، هذا ممكن. في المرّات القادمة، من الأفضل أن نستخدم عربة عائلتنا، آنستي.”
ابتسمت رايتشل بصمت، ونظرت إلى قصر عائلة فالينسيا الذي كان يقترب شيئًا فَشيئًا.
كلّما فكّرت بالأمر، ازداد اقتناعها بأنّه بعد حلّ هذه القضيّة، من الأفضل ألّا تنظر إلى عائلة فالينسيا مجدّدًا.
في هذه الأثناء، كان ملك المرتزقة، نيدين، يمرّر يده على وجهه المصدوم، وهو ينظر إلى الاتّجاه الذي اختفت فيه العربة.
بقي في ذهنه ذلك الوجه الشاحب.
كان يشبه النظرات اللصيقة التي شعر بها منذ دخوله العاصمة، وقد قصد من نظرته أن يكون تحذيرًا.
لكنّه، دون قصد، صبّ غضبه على شخصٍ لا علاقة له بالأمر.
“…….”
من أيّ عائلةٍ كانت تلك الآنسة؟
وبينما كان يحاول استحضار الشعار المنقوش على العربة، دوّى صوتٌ أمامه.
“ما الأمر، يا ملك المرتزقة؟”
كان المتحدّث هو ماركيز مارافو، ممثّل قافلة التجارة الوطنيّة، والشخص الذي كان نيدين مكلّفًا بحمايته.
“لا شيء.”
أدار نيدين رأس حصانه فورًا وعاد إلى جانب الماركيز، بينما سجّل في ذهنه الشعار الذي رآه للتوّ.
حلقةٌ ذهبيّة، وفي داخلها تنّين ملتفّ.
كان مألوفًا.
إنّه شعار عائلة فالينسيا، إحدى الدوقيّات الأربع الكبرى.
‘هل كانت ابنة عائلة فالنسيا؟’
بالطبع لم تكن كذلك.
لكن رجلًا لا يهتمّ بعالم النبلاء مثله، كيف له أن يعرف إن كان لعائلة فالينسيا ابنةٌ أم لا؟
فكّر أنّه إن سنحت الفرصة، فليذهب ليعتذر على الأقلّ.
كانت امرأةً ذات عينين بلون السماء، بدا عليهما الاضطراب.
في البداية كانت نظرتها حادّة ولصيقة.
ثمّ، بعد أن تلاقت الأعين، أخذ نورها يخبو شيئًا فَشيئًا، حتى بدت شاردةً ومفرغة.
لم يكن يعير مثل هذه الأمور اهتمامًا في العادة.
“…….”
لكن هذه المرّة، على نحوٍ غريب، علقت في ذهنه.
وبينما كان غارقًا في أفكاره، كانت قافلة التجارة الوطنيّة قد وصلت إلى القصر الإمبراطوري.
وبعد أن أفلتَ بصعوبة من الماركيز مارافو الذي ألحّ عليه بمقابلة الإمبراطور، كان نيدين يهمّ بمغادرة القصر.
“القائد.”
“بايل؟”
تفاجأ حين رأى نائبه في مكانٍ كهذا.
فبحسب التقرير الذي تلقّاه قبل أيّام، لم يكن هناك ما يُذكر.
وكان بعض أفراد الوحدة يقفون على مسافة غير بعيدة أيضًا.
“ما الأمر؟”
اقترب بايل وهمس بصوتٍ منخفض.
“يبدو أنّ هناك من يتحرّى عن القائد.”
“…….”
فواا—
انبعثت الهالة من قدميه، وغطّت المكان كأنّها حاجز.
توقّفت الأصوات، وتقطّعت الأنفاس، وسكنت النظرات المحيطة فجأة، كأنّ سيفًا قد قطعها.
“اشرح بتفصيلٍ أكبر.”
تابع بايل تقريره بهدوء، وقد اعتاد على مثل هذه الظواهر.
“زار أشخاصٌ مجهولو الهويّة منزل القائد في قلعة برنوي. وبعد أن سألوا هنا وهناك، أخذوا معهم القابلة التي ساعدت في ولادة والدة القائد.”
“……القابلة؟”
قابلة؟
كثيرون حاولوا التحقّق من خلفيّته منذ أن أصبح ملك المرتزقة، من نبلاء ودول.
لكن لم يسبق أن وصل أحدٌ إلى حدّ التحقيق مع أمّه وأخذ القابلة معها.
تذكّر نيدين فجأة تلك النظرات التي شعر بها منذ دخوله العاصمة.
وكانت ما تزال تلاحقه من بعيد بإصرار.
‘لعلّ الأمر أفضل هكذا.’
سحب هالته فورًا، وأعاد اللجام إلى بايل.
نظر بايل إليه بوجهٍ مرتبك.
“القائد؟”
“اذهبوا أنتم أوّلًا. لديّ مكان سأتوقّف عنده.”
“الآن؟ حالًا؟”
وسّع نيدين نطاق إحساسه فورًا، واستخدم قدرة <التخفّي> ليحدّد المتسلّلين.
لم يكونوا بعيدين.
وكان من بينهم شخصٌ يبدو قائدًا.
‘هناك.’
حوالي مئتي متر فقط.
حدّد نيدين بدقّة المكان الذي اختبأت فيه الظلال، وعدّل قفّازه الجلدي.
في الحقيقة، كانت تلك النظرات تزعجه منذ فترة.
وقد تغاضى عنها مؤقّتًا بسبب مهمّة الحراسة.
لكنّه لم يكن من النوع الذي يترك مثل هذه الأمور دون حساب.
وفوق ذلك، كان سبب خطئه مع تلك الآنسة.
وبينما كان يهمّ بدفع الأرض والانطلاق، ظهر شخصٌ فجأة وسدّ طريقه.
“هل أنتَ ملك المرتزقة، السيّد نيدين؟”
“…….”
حلقةٌ ذهبيّة، وفي داخلها تنّين ملتفّ.
اقترب أشخاصٌ يرتدون ذلك الشعار، الذي بات يراه كثيرًا اليوم، وانحنوا.
“تشرفنا بلقائك، يا ملك المرتزقة. أنا غيكس إيميلّو، مساعد دوق فالينسيا. هل تسمح لنا بقليلٍ من وقتك؟”
حدّق نيدين بهم لحظة، ثم أرخى جسده.
“ما الأمر؟”
“يقول دوق فالينسيا إنّ لديه أمرًا بالغ الأهميّة يريد مناقشته معك. هل يمكن أن ترافقنا قليلًا؟”
“إن لم يكن أمرًا عاجلًا، فأفضّل تأجيله.”
لمعت صورة تلك الآنسة في ذهنه، لكنّه ضغطها في زاوية عقله.
لو كانت هي شخصيًا، لربّما اختلف الأمر.
لكن الآن، كان عليه أن يتعامل أوّلًا مع تلك النظرات المزعجة.
اقترب المساعد قليلًا وهمس:
“يتعلّق الأمر بوالدتك. إنّه موضوعٌ بالغ الأهميّة. أحقًّا لا يمكن؟”
“……!”
توقّف نيدين عن الحركة.
ثم نظر إليهم بصمت.
حين التقت عينا المساعد بتلك النظرة، شعر بقشعريرةٍ تسري في عموده الفقري.
نظرةٌ ثقيلة، كأنّها تسحق الجسد بأكمله.
وبعد أن تأكّد نيدين من أنّه لا يحمل نيّة إهانة أو تهديد، أومأ برأسه.
وكانت الهالة المخيفة قد تلاشت.
“حسنًا. فلنستمع.”
“……شكرًا جزيلًا.”
انحنى المساعد بعمق.
أمسك نيدين بلجام حصانه من جديد بعد أن انتزعه من يد بايل.
اقترب بايل وهمس بهدوء، بعد أن راقب رجال فالينسيا.
“إن حدث أمرٌ ما، انفخ في الصفّارة فورًا، قائد. مفهوم؟”
ضحك نيدين بخفّة.
فلكي يكون مبارزٌ بلغ ذروة المقام في خطر، لا بدّ من جيشٍ على مستوى دولة.
ولو كان هناك تحرّكٌ عسكريّ بهذا الحجم، لما خفيَ عنه.
ثمّ إنّ لديه بعض التخمينات.
“اذهبوا أنتم.”
“مفهوم.”
غادر بايل وأفراد الوحدة.
وتحوّلت نظرة نيدين، الباردة على غير ما تكون حين ينظر إلى رجاله، نحو مساعد فالينسيا.
“لننطلق.”
“……من هنا.”
تقدّم المساعد، وكانت الوجهة قصر دوق فالينسيا داخل المدينة الداخليّة.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 8"