الفصل 7 :
“…….”
كان الأمر خافتًا، لكنّ رايتشل كانت تتذكّر متى يختار كبيرُ الخدم أن يباشرها بالكلام.
توقّفت عن السير واستدارت، فتردّد كبيرُ الخدم قليلًا قبل أن يضيف كلامه.
“……لقد مرّ اليوم الثالث على التوالي من دون أن تنزلي إلى قاعة الطعام. السيّد الشاب يشعر بالقلق عليكِ، آنستي.”
“…….”
إيليا إنغريف.
كان عمرُ أخيها الأصغر الوحيد حاليًا ثلاثة عشر عامًا.
رغم التحاقه بمدرسة الفرسان وما رافق ذلك من جفاءٍ في طباعه، فقد ظلّ يحبّ أخته ويتبعها دائمًا.
ولم يتغيّر ذلك حتّى بعد زواجها.
‘……لكنّ النهاية كانت مختلفة.’
سألت رايتشل ببرود.
“ألم تسمع شيئًا من أمّي؟”
“……قيل لي أنكِ مرهقة بسبب التحضيرات للزفاف. ولذلك تتناولين الطعام في غرفتكِ على حدة—”
“سمعت. ليس لديّ نيّة للنزول إلى قاعة الطعام، أعرف ولاءك لأخي، لكن—”
كانت عيناها الزرقاوان الخاليتان من أيّ أثرٍ للمشاعر تحدّقان فيه ببرود.
“لا أودّ تلقّي نصائح مفرطة بعد الآن. ما رأيك؟”
“……!”
فوجئ كبيرُ الخدم بنظرتها الباردة، فأسرع في خفض رأسه.
“تجاوزتُ حدودي. أرجو المعذرة، آنستي.”
“حسنًا. آمل ألّا يتكرّر هذا مرّةً ثانية.”
على خلاف الماضي، لم تعد رايتشل تنوي الإصغاء إلى نصائح كبير الخدم فيما يتعلّق بأخيها.
وكذلك الأمر بشأن والديها.
‘على أيّ حال، سأغادر قريبًا.’
تجاوزت رايتشل كبيرَ الخدم، وكانت على وشك الصعود إلى غرفتها.
عند درج الطابق الثاني.
رأت هيئةً صغيرة ما تزال في الأعلى، تنظر إليها بعينين واسعتين، فتوقّفت.
كان إيليا، ابن الثالثة عشرة.
وجنتان دائريّتان لم تذهب عنهما ملامح الطفولة بعد، وعينان زرقاوان.
وشعرٌ أشقر كانت تعتبره يومًا لطيفًا.
“…….”
“…….”
طَقّ—
تجاوزت رايتشل أخاها وصعدت مباشرةً إلى غرفتها.
لم يتبادلا كلمةً واحدة.
اغتسلت فورًا، ثم تناولت عشاءً فاخرًا بدا واضحًا أنّ كبير الخدم قد اعتنى بإعداده بعناية أكبر.
راودها شعورٌ بالضيق في زاوية من قلبها، لكنها عدّته وهمًا، ثم تذكّرت فجأةً أمرًا كانت قد نسيته.
“بيكي، هل كان ملك المرتزقة قد غادر العاصمة الآن؟”
أومأت بيكي، التي كانت تخدمها أثناء الطعام، برأسها.
“نعم. قبل ثلاثة أشهر، قبلَ طلبَ جلالة الإمبراطور، وشارك في حماية قافلة التجارة الوطنيّة. على الأرجح أنّه في طريق العودة إلى العاصمة الآن.”
بسبب هذه القضيّة، لم يكن بوسع عائلة فالنسيا تفادي تشويه سمعتها.
ومن المرجّح أنّهم سيحاولون تقليل الأثر بعزل الابن المزيّف، والكشف الدرامي عن وجود الابن الحقيقي.
وعليه، فلن يبدأ الدوق تحرّكاته الجديّة إلا بعد عودة ملك المرتزقة.
وقبل ذلك، سيكون منشغلًا بجمع الأدلة وتتبع مسيرة ملك المرتزقة للتحقّق من كونه ابنه الحقيقي.
قطعت رايتشل قطعةً من شريحة اللحم الطريّة، وضعتها في فمها، ثم أمرت بيكي.
“تحقّقي لي من الموعد الدقيق لعودة ملك المرتزقة.”
“حسنًا، آنستي.”
حين انتهت من الطعام واستعدّت للنوم، عادت بيكي بالمعلومة.
كان الموعد بعد ثلاثة أيّام تمامًا.
مدّةٌ كافية لدوق فالنسيا كي يجمع كلّ الأدلة التي قدّمتها له، ويتتبّع مسيرة ملك المرتزقة كاملة.
بعد ثلاثة أيّام.
كما كان متوقّعًا، تلقّت رايتشل استدعاءً من دوق فالنسيا.
والمفاجئ أنّ الذي جاء لم يكن رسالة، بل فارسًا بنفسه.
“اليوم؟”
“نعم، آنستي.”
انحنى فارس عائلة فالنسيا بأدب.
“قال إنّ الأمور ستسير بوتيرةٍ سريعة بعد ذلك، وربّما لا تلتقيان لمدّةٍ طويلة.”
“…….”
لم يكن في كلامه خطأ.
فبين تبعات فسخ الخطوبة، وإجراءات بطلان الزواج، ومواجهة عائلة سافانيو، أهل الدوقة، سيكون مشغولًا بما يكفي.
إضافةً إلى أنّ اليوم كان يوم عودة ملك المرتزقة.
رغم شيءٍ من الارتباك.
إلّا أنّه لم يكن هناك وقتٌ أفضل من هذا لما سيأتي لاحقًا.
“سأستعدّ فورًا.”
“شكرًا لتفهّمكِ، آنستي.”
بعد صرف الفارس، بدأت رايتشل الاستعداد للخروج.
ارتدت فستانًا أخضر هادئًا، وتزيّنت بأقراطٍ وقلادةٍ من الألماس والزمرد.
كان المكياج خفيفًا.
انتعلت حذاءً أبيض بكعبٍ مرتفع قليلًا، ولفّت شعرها الكثيف ليتهدّل إلى الأسفل.
بعد أن أنهت زينتها بسرعة، نزلت مع فارس فالينسيا الذي كان ما يزال بانتظارها.
كانت عربة عائلة فالينسيا متوقّفة أمام المدخل.
“أرسلها الدوق خصّيصًا.”
“…….”
تردّدت قليلًا.
لكنّ رايتشل قرّرت ألّا تتجاهل لطف الدوق، فصعدت إلى عربة فالينسيا.
‘إنّها المرّة الأخيرة.’
بهذا التفكير، بدت لها هذه العربة المألوفة محتملةً على نحوٍ ما.
لاحظت بيكي شحوب وجه رايتشل، فسألت بقلق.
“هل أنتِ بخير، آنستي؟”
“بخير.”
كان أمرًا مؤقّتًا.
ستتحسّن حالتها ما إن تنزل من العربة.
“…….”
لا، حين تنزل ستكون في قصر فالينسيا، ولا يُعرف ما قد يحدث.
في اللحظة التي فتحت فيها رايتشل النافذة، بدأت العربة تُبطئ، واقترب فارس فالينسيا بوجهٍ مرتبك وانحنى.
“عادت قافلة التجارة الوطنيّة، وتمّ إغلاق أحد الطرق المركزيّة. يبدو أنّنا سنتأخّر نحو عشر دقائق. هل هذا مناسب لكِ، آنستي؟”
“لا بأس.”
لم تكن العربة تسير بسرعةٍ جيّدة أصلًا.
الانتظار قليلًا مع النافذة المفتوحة لم يكن أمرًا سيّئًا.
“شكرًا لتفهّمكِ.”
ابتعد فارس فالينسيا، وتقدّم قائد الحرس، السير هوفمان، الذي كان قريبًا احتياطًا، ونظر إليها من خلف نافذة العربة.
“…….”
“…….”
قابلت رايتشل نظرته بلا مُبالاة.
وسرعان ما صرف هو نظره.
لم يسأل السير هوفمان شيئًا، لكن بدا أنّه لاحظ سوء حالتها.
‘كما توقّعت، فطنٌ وسريع الملاحظة.’
هل يُعدّ هذا في صالحها أم ضدّها في الوقت الحالي؟
وبينما كانت رايتشل تقدّر الأمر في ذهنها، بدأ صخبُ الهتافات يعلو تدريجيًا.
لقد وصلت قافلة التجارة الوطنيّة.
تحت راية إمبراطوريّة أولشير المرفوعة عاليًا في السماء.
تبع الفرسانَ المدرّعين بلمعانٍ عربةٌ ضخمة، ثمّ النبلاء.
وامتدّت العربات بلا نهاية من خلفهم، فتعالت هتافات الجماهير.
وبجوار تلك العربة العملاقة، حيث تجمّعت أنظار النبلاء والفرسان، كان هو واقفًا.
شعرٌ أسود متروك بحرّيّة.
وعينان حمراوان تميلان إلى لونٍّ الدم.
“آه.”
كان ملك المرتزقة، نيدين.
لم تتخيّل أنّها ستلتقيه بهذه الطريقة.
حدّقت رايتشل فيه شاردةً من خلف النافذة.
لم يكن بالمظهر المصقول الذي رأته في المواجهة الكبرى مع الإمبراطور.
وجهٌ تغمره القسوة، وشعرٌ غير مرتّب، وملابس حرّة.
“…….”
خفّف ذلك من شعورها بالنفور.
لكنّه لم يُزل شعورَ الانزعاج بالكامل.
لم يكن ذلك مقصودًا منه، لكنّه كان رجلًا ساهم، بشكلٍ أو بآخر، في تدمير حياتها قبل العودة بالزمن.
بوجوده وحده، ارتفع مجدُ عائلة فالينسيا مجدّدًا.
وكان له تأثيرٌ بالغ في سجنها السريع.
عقليًا، كانت تعلم أنّه لا ذنب له فيما آلت إليه الأمور.
لكن—
“…….”
لم ترغب في رؤيته.
وفي اللحظة التي حوّلت فيها نظرها، التفت الرجل الذي كان عابسًا فجأةً نحوها.
“……!”
نظرةٌ انقضّت عليها مباشرة.
تلك العينان الشرسـتان أعادتا إلى ذهنها مشهدَ المواجهة الكبرى.
كان يقف إلى جوار الإمبراطور بوجهٍ خالٍ من أيّ انفعال.
لكنّ عينيه وحدهما كانتا تشعّان ببرود.
-أيّها الدوق. أليس لديك ما تودّ قوله أخيرًا؟ لن يكون هناك ما يدعو لرؤيتك بعد الآن.
حينها، ماذا كان ردّه على سؤال الإمبراطور؟
لا شيء.
-…….
-أليس كما قال جلالتك؟ لن نلتقي مرّةً أخرى. إنّه إضاعة للوقت.
بعد إعدام باريس، وحين واجهها للحظةٍ قصيرة، ردّد الكلمات نفسها التي قالتها له رايتشل.
لا تضيّعي وقتكِ، واذهبي. آمل ألّا نلتقي مرّةً أخرى، أبدًا.
كان نظره يومئذٍ يلمع، وكأنّه يطالبها بأن ترى بوضوح نتيجة اختيارها.
وهكذا، حين سُجنت رايتشل، أدركت أنّ الحياة قد تكون أحيانًا أشدّ قسوةً من الموت.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 7"