وحتى لو لم تكن تلك حقيقة، فإنّ كونه تركني وهرب بمفرده جعله شخصًا لا أريد رؤيته مرّةً أخرى أبدًا.
فُتح باب العربة، وكان باريس يقف أمام المدخل، فابتسم ومدّ إحدى يديه.
“سمعتُ من والدي أنّ الآنسة ستأتي. لحسن الحظ لم نتقاطع هذه المرّة.”
“…….”
ربّما لأنّها التقت بدوقة فالينسيا بالأمس.
أغمضت رايتشل عينيها وفتحتهما، وببطءٍ شديد وضعت يدها فوق يده.
أمسك باريس يدها بإحكامٍ داعمًا إيّاها.
“حسنًا. سمعتُ أنّكِ جئتِ اليوم لمقابلة والدي، آنِسَتي.”
“……لديّ ما أودّ قوله.”
ما إن نزلت رايتشل من العربة حتّى سحبت يدها.
وحين أمسكت بالخرقة بكلتا يديها وضمّتها إلى صدرها بعفويّة، توجّه بصر باريس إليها.
“هل هذا هو غرض زيارتكِ؟ أشعر بالفضول، ما رأيكِ أن تخبريني أنا وحدي على انفراد؟”
“أعتذر، لكنّ الأمر يتطلّب السريّة.”
“يا للعجب، نحن على وشك الزواج، ومع ذلك يوجد أسرار؟ هذا قاسٍ قليلًا.”
لو كان يعلم ما الأمر، لما تفوّه بمثل هذا الكلام.
تأمّلته رايتشل للحظة، ثمّ حوّلت نظرها.
كان خلفه، كما في السابق، كبير خدم قصر فالينسيا قد خرج لاستقبالهم.
“مرحبًا بكِ، آنِسة إنغريف. الدوق بانتظاركِ.”
“تفضّل بالقيادة.”
دخلت القصر باتّباعها كبير الخدم.
وبالطبع، كان باريس يسير إلى جوارها.
ما إن تجاوزت المدخل ورأت مشاهد القصر المألوفة، حبسَت رايتشل أنفاسها لحظة.
الردهة المألوفة.
الزخارف المألوفة.
السلالم المألوفة.
قصر فالينسيا، بكلّ ما فيه.
“آنِسَتي؟”
توقّفت خطواتها، فتبعها نظر باريس.
تحسّست رايتشل ملمس الأدلّة في حضنها، وأطلقت زفيرًا طويلًا.
وحين عادت إلى السير، ابتسم باريس وهو يراقبها.
“ما الأمر؟ هل تشعرين بالتوتّر لأنّكِ ستقابلين حماكِ المستقبلي؟ تبدين مختلفةً اليوم. هل أقول إنّ لديكِ جانبًا لطيفًا جديدًا؟”
“…….”
تجاوزت حديثه على نحوٍ مناسب، وصعدت الدرج.
وكان المكان الذي قادهم إليه كبير الخدم هو مكتب الدوق.
طرَقَ كبير الخدم الباب المغلق طرقًا مهذّبًا.
“سيّدي. آنِسة إنغريف وصلت.”
وجاء من الداخل صوتٌ منخفض عميق.
“دَعْها تدخل.”
“تفضّلي.”
دخلت رايتشل من الباب الذي فتحه كبير الخدم، وأمرت بيكي وفرسان الحراسة.
“انتظروا هنا.”
“نعم، آنِسَتي.”
لم يكن مكتب الدوق مختلفًا كثيرًا عمّا سيكون عليه بعد خمس سنوات.
أثاثٌ مصنوع من خشب الأبنوس العتيق.
أكوام من الوثائق كالجبل على المكتب.
وضوء شمسٍ ساطع يتدفّق من النافذة الكبيرة.
ومن بين ذلك الضوء، جلس دوق فالينسيا.
توجّهت عيناه الحمراوان نحوها.
شعره الأسود الخالص وعيناه القرمزيّتان أعادا إلى ذهنها شخصًا من الماضي.
شعرٌ أسود مطابق لشعره.
وعينان حمراوان أعمق، أقرب إلى لون الدم.
……والآن، حين تفكّر في الأمر، تتساءل كيف لم تنتبه من قبل، إذ كان الاثنان يبدوان كأبٍ وابنه.
وبينما غرقت رايتشل في خواطرها، حوّل الدوق، الذي كان يحدّق بها لبرهة، نظره مجدّدًا إلى الملفّات.
أطلق كبير الخدم سعالًا خفيفًا، فعادت رايتشل متأخّرةً إلى آدابها المكتسبة.
“تشرفتُ بلقائك، دوق فالينسيا.”
“مرحبًا بكِ، آنِسَتي. سأنتهي من هذا سريعًا، فهل تجلسين هناك قليلًا؟”
“نعم.”
جلست رايتشل على الأريكة التي أشار إليها.
وضعت الخرقة على طرف الطاولة، وانتظرت قليلًا، فجاء كبير الخدم بالشاي.
وكان باريس قد جلس قبالتها بطبيعة الحال.
وبعد أن وضع الدوق القلم جانبًا، انتقل إلى الجلوس في صدر الأريكة، ونظر إلى باريس.
“ما شأنك أنت؟”
“خطيبتي لم تُخبرني بسبب زيارتها اليوم. أشعر بالفضول، لذا رغبت في الحضور.”
“حديثٌ صبياني.”
في تلك اللحظة، انفتح فم رايتشل.
“سيدي الدوق. هل يمكنك إخلاء المكان؟”
ساد المكتب صمتٌ متجمّد.
اتّسعت عينا باريس بدهشة، ونظر إلى رايتشل.
“هل تطلبين منّي أن أخرج، آنِسَتي؟”
“كما ذكرتُ، الأمر يتطلّب السريّة.”
لم يكن متوقّعًا أن يتبعها باريس، لكن إخراجه لم يكن صعبًا.
نظرت رايتشل إلى الدوق بدلًا من باريس، وقالت:
“كما أشرتُ في رسالتي السابقة، لديّ ما أودّ قوله لك على انفراد. هل تأمر بإخلاء المكان؟”
“…….”
وبعد أن تكرّر الطلب مرّتين، أومأ الدوق، الذي كان يراقبها بنظرةٍ متمعّنة.
“الجميع، اخرجوا.”
“أبي.”
“اخرج. أليست خطيبتك تقول إنّ لديها أمرًا مهمًّا؟”
“…….”
وبنظرةٍ ناقمة خاطفة تنقّل بها بين الدوق ورايتشل، خرج باريس من الباب الذي فتحه كبير الخدم.
وما إن أُغلق الباب خلفه، حتّى عمّ الصمت المكتب.
شبك الدوق ساقيه، وفتح عينيه القرمزيّتين بتراخٍ.
“حسنًا. آنِسَتي. أخرجتِ ابني وكبير الخدم. ما الذي تريدين قوله لي؟”
سحبت رايتشل الخرقة التي كانت إلى جانبها، ووضعتها أمامه دون كلمة.
صحيح أنّها لم تكن راغبة في الاستعانة بدوق فالينسيا.
لكن، بالنسبة لرايتشل، كان هذا هو الطريق الأضمن.
وفوق ذلك، إن أخبرته بالحقيقة قبل الزواج، فسيعدّها، على عكس الماضي، صاحبة فضلٍ عليه.
تعويض الخسائر.
فسخ الخطوبة.
كلّ شيء.
كان سيغدو حليفًا مؤقّتًا يقف إلى جانبها.
تلك الحقيقة الجديدة كبتت الذكريات التي كانت تطفو أحيانًا.
وفوق كلّ شيء، لم يكن الدوق ليسامح تلك المرأة وباريس أبدًا.
“أرجو أن تطّلع على هذا أوّلًا.”
“وما هذا؟”
فكّ الدوق الخرقة.
وما إن قرأ الاعتراف المكتوب في الصفحة الأولى، حتّى تصلّب وجهه على نحوٍ مخيف.
وتابعت رايتشل بنبرةٍ هادئة.
“هذه سجلاتٌ تركها الطبيب الذي أشرف على حمل وولادة دوقة فالينسيا قبل عشرين عامًا.”
“…….”
“دفنها تحت الجدار الجنوبي لمسكنه قبل موته. وقد عثرتُ عليها بنفسي. إنّ باريس فالينسيا ليس ابنك الحقيقي، وكاي سافانيو تزوّجتكَ بادّعاءٍ كاذب. هذه هي الأدلّة.”
“هراء.”
قبض الدوق على الأوراق العتيقة، وقد اختفت التعابير من وجهه.
كانت عيناه تمرّان بسرعة على السطور.
أنّ والد باريس الحقيقي هو الفارس واين، الحارس الشخصي للدوقة.
وأنّ التقارير زُوّرت بسبب تهديدات الدوقة وإغراءاتها أثناء فترة الحمل.
وفي الصفحة الأخيرة، كان تقرير فحص النسب الذي أجراه الطبيب سرًّا، بعد أخذ عيّنة من دم باريس حديث الولادة.
“تطابُق.”
كان الطرف الآخر هو الفارس، واين.
وبعد صمتٍ دام قليلًا، توجّهت نظرة الدوق الحادّة نحوها.
لكن باريس، حتّى بلوغه التاسعة عشرة، لم يتزوّج، وبالطبع تأجّل الطقس.
كان أمرًا استثنائيًّا في تاريخ فالينسيا.
وأضافت رايتشل:
“إن صَعُب عليك التصديق، يمكنك البحث عن أدلّةٍ أخرى. هناك أشخاص تلقّوا تلميحًا من الطبيب قبل موته عن مكان هذه الأدلّة. كما توجد شواهد خلّفتها الدوقة أثناء اعتدائها على الطبيب وقتله.”
أخرجت من حضنها ورقةً دوّنت فيها مواقع الأدلّة التي رتّبتها مسبقًا، ومدّتها إليه.
وبعد أن اطّلع عليها، رنّ الدوق جرسًا صغيرًا أخرجه من ثوبه.
لم يُسمع صوت.
لكن.
“أمرت؟”
“……!”
التفتت رايتشل فجأة عند سماع الصوت.
قناعٌ أسود.
وحلقة سوداء منقوشة عند طرفه.
ظلّ فالينسيا، «الظلّ الأسود».
قوّة الدوق الخفيّة التي نادرًا ما رآها أحد، حتّى قبل العودة بالزمن.
التعليقات لهذا الفصل " 5"