الفصل 3 :
‘وجدته.’
موادٌّ أخفاها الطبيب الذي ساعد في ولادة دوقة فالنسيا قبل عشرين عامًا.
وبعد أن حفرت قليلًا إضافيًّا، ظهر ملفٌّ بسُمك مفصل الإصبع تقريبًا، ملفوفٌ بعناية داخل قماشة.
سارعت رايتشل إلى إخراجه، وأخفته داخل فستانها، ثم بدأت من جديد بردم الحفرة.
بدأ نفسها يعلو بسبب عملٍ غير مألوف لها.
صحيح أن لون الأرض بدا مختلفًا قليلًا بعد أن حفرت ثم أعادت الردم.
“على أيّ حال، الدوق سيأتي ليتفحّص المكان قريبًا.”
لم تُعر الأمر اهتمامًا كبيرًا، فاكتفت بتسوية الأرض على نحوٍ تقريبي، ثم نهضت.
كان فستانها مغطّى بطبقةٍ من الغبار والتراب.
وبعد أن نفضته على عجل وعادت، اقتربت منها بيكي بوجهٍ شاحب، وبدأت ترتّب فستانها.
“هل أنتِ بخير؟”
“نعم.”
وبعد أن أخفت حتى المجرفة التي انتهى دورها، اتّجهت نحو الفرسان.
كان الفستان يبدو أثقل قليلًا.
حدّق بها السير هوفمان للحظة، ثم آثر الصمت.
لكن حين مدّ يده، بدا وكأنه ظنّ أنها تعثّرت أو سقطت.
“هل تمسكين بيدي؟”
“لا داعي.”
كان يتمتّع بملاحظةٍ حادّة.
أن ينتبه إلى آثارٍ بالكاد بقي منها شيء.
‘لا أعلم إن كان هذا فألًا حسنًا أم نذير سوء.’
رمشت بعينيها وغادرت الحديقة الخلفيّة.
الخادم التابع لعائلة فالنسيا، الذي كان شاردًا، انتبه متأخرًا إلى اقتراب رايتشل، فانتفض مذعورًا.
“أحضر العربة.”
“نعم، حاضر!”
حان وقت العودة.
فقد حصلت على ما جاءت من أجله.
كانت تنوي إعطاء الرسالة إلى كبير الخدم إن جاء لتوديعها، لكن في تلك اللحظة دوّى صوت فتح البوابة الحديديّة—
كَرَنْك—
التفتت رايتشل بشكلٍ عادي، ثم تجمّدت فجأة.
كانت هناك عربةٌ محفورٌ عليها شعارُ عائلة فالنسيا.
عربة تجرّها أربعة خيول، تحيط بها كوكبةٌ فاخرة من الفرسان والخدم، لا يقلّ عددهم عن خمسة عشر.
دَقّ، دَقّ—
سمعت دقّات قلبها تتسارع بنذيرٍ مشؤوم.
كبير الخدم، الذي كان قد خرج لتوديع رايتشل، انحنى لها باقتضاب، ثم وقف أمام المدخل يعدّل هيئته.
توقّفت العربة، وفتح بابها الفارسُ المكلّف بحراسة الدوقة، وين، ومدّ يده.
استقرّت فوقها يدٌ بيضاء.
ثم ظهر شعرٌ رماديّ.
وجهٌ يحمل مزيجًا من الغطرسة والأناقة المتعالية.
“مرحبًا بعودتكِ، سيدتي.”
انحنى كبير الخدم بعمق.
ثم اتّجه نظرُ دوقة فالنسيا، التي نزلت من العربة، نحو رايتشل.
“أوه، آنسة رايتشل.”
“……مرحبًا، سيدتي الدوقة.”
فتحت رايتشل فمها بصعوبة لتردّ التحية.
ورغم فيضان الذكريات وهي تقف أمام كبير الخدم، وتمسّها بالماضي، استطاعت بالكاد أن ترفع زاويتي شفتيها.
المرأة التي خدعت عائلة فالنسيا لأكثر من عشرين عامًا، متقمّصة دور الدوقة.
الابنة السابقة من عائلة سافانيو، التي هربت مع عشيقها دون أن تلتفت خلفها حين انكشف أصل باريس عبر الطقوس.
العقل المدبّر الذي دمّر حياتها… كانت تقترب الآن مبتسمة.
“ما الذي جاء بكِ إلى هنا، آنسة؟ لم أتلقَّ أيّ إشعارٍ بزيارتك اليوم.”
وبينما كانت تنظر إلى الفارس وين، الذي تبع الدوقة كظلّها، خفّضت رايتشل بصرها.
“……كنت أرتّب قاعة الزفاف، وفجأة خطرت لي فكرة أن أستطلع قصر فالنسيا. أخشى أن تكون زيارتي المفاجئة قد سبّبت إزعاجًا.”
“أبدًا. أنتِ من ستصبحين قريبًا فردًا من عائلة فالنسيا.
ما المشكلة في جولةٍ قصيرة داخل القصر؟”
رسم وجهُها الناعم، الذي لا يوحي بكونها أمًّا لابنٍ في التاسعة عشرة، ابتسامةً رقيقة.
“إن لم تكوني مشغولة، ما رأيكِ في فنجان شاي، آنسة؟”
“أقدّر عرضك، لكن أخشى أن يزول هذا الإلهام قبل أن أصل إلى قاعة الزفاف.”
“آه، أفهم ذلك الشعور. إذًا، فلنؤجّل الأمر إلى مرّةٍ قادمة.”
ابتسمت الدوقة وأومأت برأسها، ثم استدارت متّجهة إلى داخل القصر.
انحنت رايتشل احترامًا.
أغمضت عينيها بقوّة، ثم فتحتهما.
حين رفعت نظرها، كان كبير الخدم واقفًا أمامها.
“العربة جاهزة، آنسة.”
“……حسنًا. هل يمكنك أن تسلّم هذا للدوق؟ إنه أمرٌ عاجل، وأرجو أن يُعرض عليه اليوم.”
“بالطبع. سأحرص على إيصالها فورًا.”
وبما أنها أرسلتها عبر كبير الخدم، فسيصل الردّ سريعًا.
ركبت رايتشل العربة بمرافقة الفرسان، وبعد أن صعدت بيكي أيضًا، أغلق كبير الخدم الباب.
“نتمنّى لكِ طريقًا آمنًا، آنسة.”
“…….”
لم تلتفت رايتشل إلى الخلف.
كانت منشغلة بالبحث عن الأدلّة، فلم تدرك ذلك، لكن ما إن واجهت الدوقة، حتى صار كلّ ما يتعلّق بفالنسيا يثير الغثيان في معدتها.
كبير الخدم الذي قاد حملة إيذائها.
دوقة فالنسيا والفارس وين، اللذان لم يُقبض عليهما حتى قبل عودتها بالزمن.
حتى هذا القصر، الذي لم تعد تحتمل رؤيته.
“سننطلق الآن.”
مع إعلان السير هوفمان، بدأت العربة بالتحرّك.
مدّت رايتشل يدها تتحسّس القماشة المخفيّة داخل طيّات فستانها، محاولةً تهدئة نفسها.
وحين لم يكن ذلك كافيًا، استحضرت الإحساس بقوّة الإينغ القابعة في قلبها.
‘لا بأس. سنفسخ الخطوبة قريبًا.’
بعد فسخ الخطوبة، لن تلتفت إلى فالنسيا ولو مرّة.
وحين تتزوّج وتغادر بيت العائلة، لن يعود لوالديها سلطةٌ عليها، وسيكون ذلك وداعًا حقيقيًّا لكلّ ما مضى.
“……هذه المرّة، سأعيش حياةً جيّدة.”
تمتمت بذلك، وأبقت نظرها على النافذة.
كانت بيكي تراقبها بقلق.
عندما عادت رايتشل إلى المنزل، تناولت عشاءها في غرفتها كعادتها.
بعد أن صرفت الجميع وبقيت وحدها، أخرجت القماشة التي أخفتها في الدرج، وبسطتها على الطاولة الجانبيّة.
كانت الصفحة الأولى من رزمة الأوراق اعترافًا بضمير الطبيب.
“أنا خنتُ عائلة فالنسيا التي كنت أخدمها.
حتى لو كانت حياة عائلتي مهدّدة، وحتى لو أغروني بكمٍّ هائلٍ من الذهب، لم يكن ينبغي لي أن أفعل ذلك……
سأُقتل قريبًا على يد الآنسة سافانيو.
أترك هذه المواد تحسّبًا لليوم الذي تنكشف فيه خيانتها وأصل ولادة ابنها.”
كونه تعمّد أن ينادي دوقة فالنسيا بلقبها السابق، الآنسة سافانيو، أظهر بوضوح إرادته.
كان هذا الدليل في الأصل ممّا يمكن الحصول عليه عبر تلميحٍ تركه الطبيب لزميله في الأكاديميّة، بيلي.
إذ طلب منه أن يخبر عن هذا الدليل إن بحث أحد عن مكانه، أو إن وقعت مصيبة كبرى في عائلة فالنسيا.
“عشرون خطوة من نهاية الجدار الجنوبي لمقرّ الأطبّاء.”
وفي النهاية، اتّبعت آيشا ليبيلين، ابنة عائلة ليبيلين والساحرة العظمى، ذلك التلميح، فحصلت على الدليل، وانكشفت الحقيقة.
وخلال تلك العمليّة، ظهر الابن الحقيقي لدوق فالنسيا، وتحقّق الانتقام من الدوقة التي طردت والدته بذريعة الحمل، ومن الإبن المزيّف أيضًا.
لكن العقاب طال حتى الزوجة المزيّفة، التي لم تكن تعلم شيئًا.
يمكن القول إن اعتراف الطبيب بالضمير استُخدم على أكمل وجه.
“…….”
أغمضت رايتشل عينيها بإحكام، ثم فتحتهما، وتفحّصت بقيّة الأدلّة الموضوعة أسفله.
كان كلّ شيءٍ مطابقًا لما سمعته قبل العودة بالزمن.
فضيحة كون الأب الحقيقي لباريس هو الفارس وين، الحارس الشخصي للدوقة.
سجلّاتٌ دوّن فيها الطبيب بنفسه أسابيع الحمل المختلفة عن تلك التي أبلغ بها الدوق، وحالة الدوقة الصحيّة.
وحتى سجلّات فحص النَّسب الذي أُجري سرًّا لباريس.
“…….”
جلست رايتشل شاردة.
‘كان من السهل الحصول عليها إلى هذا الحدّ.’
‘لماذا لم أعرف ذلك حينها؟’
ربما كانت هي أيضًا تفكّر بالطريقة نفسها التي فكّرت بها عائلة فالنسيا.
من ذا الذي يجرؤ على الاحتيال في النَّسب على عائلة فالنسيا؟
وهم يمتلكون أصلًا طقسًا يُشخّص النَّسب تلقائيًّا.
وكانت هذه هي نتيجة ذلك الغرور.
أن يكون الوريث الوحيد في الحقيقة ابنَ فارسٍ من أصولٍ عبوديّة.
لو لم تُبعث فجأة قدرة إنغريف، المنقطعة منذ قرون.
ولو لم تتحقّق شروط التفعيل.
لكانت رايتشل قد ماتت منذ زمنٍ طويل أثناء النفي.
إن هذه العودة كانت فرصةً وُلدت من حظٍّ تراكب فوق حظّ.
“…….”
خفضت بصرها.
لا تعلم إن كانت ستُتاح لها فرصةٌ أخرى لتفعيل القدرة مجددًا.
لكن بعد فسخ الخطوبة، سيكون من الجيّد أن تبحث في أمر <العودة> أيضًا.
فالعثور على السجلات الخاصّة بحاملي هذه القدرة عبر تاريخ العائلة لن يكون أمرًا صعبًا.
طَق، طَق—
وفي تلك اللحظة، قاطع طرقُ الباب أفكارها.
“آنستي، أنا بيكي.”
“ادخلي.”
رفعت نظرها وهي تعيد لفّ الأدلّة بالقماشة وتبعدها جانبًا.
دخلت بيكي بحذر، وفي يدها رسالتان.
“وصلت رسالتان من دوق فالنسيا، ومن السيد باريس.”
ختم فالنسيا المنقوش على الشمع الأحمر.
مدّت رايتشل يدها وأخذت رسالة الدوق فقط.
بعد عبارات التحية الرسميّة، ورد فيها أنه يسمح لها بالمقابلة ظهر الغد.
يبدو أن كبير الخدم أوصل الرسالة بسرعة.
أومأت رايتشل، وأشارت بيدها طالبةً الورق وريشة الحبر.
“بيكي، سنذهب إلى عائلة فالنسيا غدًا عند الظهر.”
“نعم. سأستعدّ. ولكن…….”
وبتردّد، وضعت بيكي الرسالة الأخرى على الطاولة.
باريس فالنسيا.
برز الاسم المكتوب بخطٍّ أنيق.
حدّقت رايتشل في الرسالة طويلًا، ثم فتحت ختمها ببطء.
「إلى خطيبتي العزيزة」
“…….”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 3"